شوف تشوف

الرأيثقافة وفن

العالم المشوش والمشوه

بقلم: خالص جلبي

مقالات ذات صلة

الكثير يظن أن إدراكنا للعالم سليم وهذا الكلام نصفه صحيح؛ فنحن نرى من خلال شق بسيط للرؤية من امتداد طيف هائل من الأشعة الكونية ليس أقلها أشعة ما تحت الحمراء وما فوق البنفسجية، أو أمواج الرادار، أو أشعة «x»، التي اكتشفها الألماني كونراد رونتغن، فصور بها كف زوجته وفيها خاتم الزواج، فكانت أول صورة في تاريخ الطب والبشرية.

نحن في الواقع ندرك العالم بخمسة منافذ: (1) تهييج الوعي (2) واستيعاب الحواس (3) وعمل الفكر (4) وتخزين الذاكرة (5) واللغة التي بها نتخاطب؛ ولكن الحواس مضللة، واللغة مشوشة وغير دقيقة، والفكر ملوث بالعادات الخاطئة، كما أن نقل اللغة بدورها يتم بثلاثة فلاتر مشوشة فتزداد اللخبطة. وهي النطق والسيمياء والكتابة، مثل الكوبي عن الكوبي عن الكوبي، فيصل باهتا مشوشا أكثر. فأما النطق فهي أبسطها وأكثرها سطحية، وأصدق منها لغة الوجه وتعبيرات الجسد؛ فقد تقول امرأة لأخرى أو رجل لآخر: «أهلا بك»، وهي تعني لا مرحبا بكم. وفي القرآن تعبير مشابه عن استقبال مضلل مليء بالسخرية، (بشر المنافقين أن لهم عذابا)، (لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار).

وأما الكتابة فهي سطحية جدا ولا تروي حقيقة المشاعر، ولكن لا مفر من نقل الأفكار عبر قناتها؛ وهنا معجزة القرآن أن يتم نقله عبر هذا الأنبوب الضيق ليحمل أعظم الأفكار، فكيف تم هذا؟ وهكذا فهناك ثلاث طبقات للفهم والاتصال: الأعمق هي السيمياء (لغة الوجه)، والطفل يتعلمها قبل النطق فيقرأ الغضب في وجه والديه، قبل أن يفهم الكلمات. وتأتي فوقها اللغة المنطوقة وهي بلحنها تعبر جيدا، لكنها مع هذا تبقى قاصرا، وإن كانت قفزة فوق طبقة اللغة السيميائية. وأشار القرآن إلى هاتين اللغتين، فقال عن المنافقين: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول)، وفي موضع آخر يتحدث عن المجرمين أنهم يعرفون باللغة السيميائية (يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام). وفي الواقع ليس هناك من فهم للإنسان كما في تعبيرات الوجه من القلق والحزن والفرح، بل نشأ علم كامل اسمه لغة الجسد.

نحن إذن أمام ثلاثة أنواع من التعبير وليس واحدا. الكتابة على الورق، وهي الطبقة السطحية جدا ولا تعطيها البرمجة اللغوية العصبية (LNP) إلا أقل الدرجات وأضعفها، وأعمق منها تعبيرا النطق، وأما السيمياء فلا تخيب. مع ذلك فالإنسان عنده قدرة التمثيل، ونشأ فن كامل في هذا الموضوع، بل قامت الشرطة الأمريكية بتفريغ 14 مطارا برجال مدربين على اللغة السيمائية، يتفرسون وجوه المسافرين.

نحن إذا نعيش في ظلمات بعضها فوق بعض، ويظن البعض أنهم أمسكوا بالحقيقة النهائية، وهم لم يقبضوا إلا تعبا وباطلا وقبض الريح، كما قال الجامعة داوود. كذلك فإن الفيزياء الحديثة تدخلنا إلى عالم كمومي تنتهي فيه الفيزياء التقليدية، وتتحطم الحتمية وتنهار الموضوعية بغير أمل.

 إدراكنا للعالم مشوش كما نرى ثلاث مرات وعبر ثلاث طبقات كثيفة، لا أمل في النجاة منها أو تجاوزها، وهذا قدرنا في هذا العالم الذي ولدنا إليها وفيه نعيش.

نحن مطوقون بثلاثة جدران من الحواس واللغة والثقافة. فأما الحواس فهي بدورها مشوشة ثلاث مرات: العتبة والفرق والطيف؛ فأما العتبة فهي للعين بإدراك شمعة من بعد 45 كيلومترا في ليلة صافية، والسمع لدقات ساعة من بعد 7 أمتار في وسط بدون ضوضاء. وأما الفرق فندرك ما هو في حدود 2 في المائة وزننا، وأما الطيف فنحن نرى في شق ما بين 380 نانومترا و780 نانومترا (النانو واحد من بليون من المتر)، أي ما بعد ما تحت الحمراء أو دون البنفسجي. وكذلك السمع فنحن نسمع ما بين 20 و20 ألف هزة في الثانية، فما زاد أو نقص عجزنا عن سماعه، أما الخفاش فآذانه مجهزة بأفضل منا فيسمع.

وأما اللغة فهي مضللة أيضا بثلاث: التعميم والحذف والتشويه. (التعميم مثل كل شيء غال، أو أنه كتاب جيد، هل فعلا كل شيء غال؟). (الحذف: ضرب ابن الجيران، بماذا، لماذا، متى؟)، (التشويه: من الواضح البين، هل هو لكل واحد وكيف؟). وأما الثقافة فهي تخلق الأوهام بقوى عاتية أربع كما يقول بيكون: أوهام القبيلة وأوهام السوق وأوهام المسرح وأوهام الكهف.

فأما الحواس فهي الفلتر الأول وهو غير نقي. فإذا أمسكنا بأنبوب يمر فيه ماء بارد شعرنا بالبرودة، وإذا قبضنا على أنبوب يمر فيه ماء دافئ شعرنا بالسخونة. ولكننا إذا مسكنا الأنبوبين معا صرخنا من السخونة المريعة، وفككنا يدنا عنه بسرعة كمن لدغته أفعى. والضفادع لا ترى الأشياء الساكنة، وهذا هو سر أنها مسلطة على الحشرات التي تطن فوق أذنها. أما الضفادع نفسها فترسوا في بطن الثعبان، الذي يرى المتحرك والساكن فيلتقم الضفدع وهو مليم. والطفل لو عرضنا أمامه ثلاثة أنابيب من الزجاج، الأول طويل نحيف والثاني دورق منتفخ البطن، والثالث إناء مثلث وجعلنا الماء في سوية واحدة بين الثلاثة، اعتبر الطفل أن كمية الماء الموجودة في الأنابيب الثلاثة واحدة. ولو شرحنا له الفرق لاستوعب، ولكنه سرعان ما يرتد إلى العادات العقلية فلا يربط بين الحجم والكمية. ولا ينمو عقل الطفل إلى فهم المجرد إلا بعد تجاوزه السنوات السبع الأولى. وهي حقيقة انتبه إليها عالم النفس الارتقائي «جان بياجيي»، فسجلها في ملاحظاته أثناء قيامه بدراساته النفسية على أطفاله، وأورد هذه الحقيقة هانز باجلرز في كتابه «شيفرة الكون».  

ومهما تحدثنا للغلام الصغير عن معنى اللذة الجنسية لم يفقه منها شيء، إلا كما يفهم القط فلسفة أرسطو. وفكرة الانفجار العظيم اتفق عليها الفيزيائيون، ولكنها كما قال المناطقة قديما فسر الماء بعد الجهد بالماء، فهي أشبه بلغة الجان ولا يمكن تصور عالم خال من المادة والزمان والمكان والقوانين والطاقة، بسبب ارتباط عقولنا بأفكار قبلية كما يقول الفيلسوف كانط. والله يعلم وأنتم لا تعلمون. ولعل نديم الجسر في كتابه «قصة الإيمان بين العلم والفلسفة والقرآن» قرب لنا هذه الفكرة، حين أرشدنا إلى التفريق بين التعقل والتصور، فيمكن أن نتصور جبلا من ذهب وفأرا بحجم فيل، ولكن لا يمكن تصور كون بدون زمان ومكان ومادة وطاقة وقوانين. وعلم الإنسان ما لم يعلم وكان فضل الله عليك عظيما.  

 

نافذة:

في الواقع ليس هناك من فهم للإنسان كما في تعبيرات الوجه من القلق والحزن والفرح بل نشأ علم كامل اسمه لغة الجسد

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى