شوف تشوف

الرأي

العدل فلسفة كونية

بقلم: خالص جلبي

العدل ليس كلمة جوفاء، بل فلسفة كونية في ثمانية مستويات تعادل (الذرة)، وتوازن (البيولوجيا)، وسواء (النفس) واستقرار (العواطف)، وتماسك (الخلق)، وعدالة (المجتمع)، وقيام (الحضارة) وسلامة (الجنس) البشري.. وسنرى كل ذلك بالتفصيل. إن تحليل مركب العدل يقود إلى أن العدل مسألة كونية أكثر منها سياسية، فكما يتشكل الضوء من طيف سبعة من الألوان تشكل قاعدته (ثلاثة) ألوان كذلك، فإن جميع ما نتذوقه قاعدته (سداسية)، مثل الحلو والمر والحامض، كذلك الحال في الروائح بواسطة شيفرة (سباعية) من الروائح الأتيرية والكافورية والنعناعية والمسكية. كذلك بني الكون المادي على نفس السلم الموسيقي، فتم تكوينه درجة درجة، من أبسط العناصر الممثل في الهيدروجين، وانتهاء بأثقلها اليورانيوم المشع. والذرة بدورها تقوم على (التعادل الكهربي)، فأبسط العناصر (الهيدروجين) يحمل في نواته بروتونا موجبا، ويدور في فلكه إلكترون واحد سلبي الشحنة؛ فجوهر (العدل) الوجودي هو التوازن بين عناصره في أي مستوى. كذلك استقامت (البيولوجيا) بالتأثير المتبادل بين الهورمونات، كما في علاقة الغدة النخامية بالدرق والكظر، وهورمون النمو بالعظام. مما أوحى إلى «إليزاروف» بتقنيته الثورية في مط الأقزام، وإنقاذ الأطراف من البتر. كذلك بنيت (الانفعالات النفسية) عند الإنسان على تركيبة أساسية من (خمسة) ألوان من الانفعالات، من مشاعر الخوف والغضب والحزن والسرور والاشمئزاز. كذلك تصور الفلاسفة في محاولتهم دراسة تصرفات الإنسان، أن هناك أكداسا من الدوافع الأخلاقية، ولكن لدى تحليلها كما فعل علماء الذرة، أمكن تبسيط التركيب إلى ثلاثة أخلاق أساسية، يمكن اعتبارها البنى الجوهرية عند الفرد وهي: الشجاعة والعفة والحكمة. فكل (فضيلة) هي وسط بين رذيلتين؛ فـ(الشجاعة) هي وسط بين (الجبن) و(التهور)، و(الحكمة) في منتصف المسافة بين (الخبث) و(الحماقة)، و(العفة) تتأرجح بين (الجمود) و(الشره). هذه (الأخلاق) الثلاثة ترتبط ببعضها في مثلث ذي أضلاع ثلاثة، من منتصف كل ضلع ينطلق عمود من الأخلاق، يلتقي مع نظيريه ليخلق نقطة توازن هي (العدل)! فحاصل توازن هذه الأخلاق هو النفس العادلة.. والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان. ويمكن أن نستوعب (حديث هلاك الأمم) في ضوء جديد؛ فانهيار الأمم يتم بفقدان العدل الداخلي قبل أن يتشكل بفعل هجوم خارجي، وهذا يعطي إسقاطا خطيرا على فهم جوهر النزاع العربي الصهيوني، والتهام أمريكا للعراق، وأن مشكلتنا داخلية بالدرجة الأولى، ولن ينفعنا صب اللعنات على الأعداء، وأن وجود إسرائيل جاء من تفسخ أوضاعنا الداخلية؛ فهيأ لانفجار الخراج الصهيوني، كما تحدث (الاختلاطات Complications) في الأمراض الخطيرة. علينا أن نستوعب حقائق كونية في مستوى الذرة وانتهاء بالمجرة، من قوانين الفيزياء إلى قوانين النفس والمجتمع؛ أن الهرم لا يجلس بدون قاعدة، وأن المرض لا ينتشر بدون انهيار الجهاز المناعي، وأن عود الثقاب يفجر برميل البارود، وينطفئ في وعاء الماء، وأن الشيعة والسنة في لندن وكندا لا ينحر بعضهم البعض، وأن البعوض يخرج من المستنقعات، وأن الغربان تحوم حول الجثث، وأن النسر الأمريكي جاء إلى جثة حمورابي، وأن الأمم يتم السيطرة عليها عندما تفقد القدرة على تقرير المصير، وأن (القابلية) للاستعمار تشكلت عندنا قبل أن يطأ أول عسكري أجنبي أرضنا، وأن تركيا وقفت في وجه أمريكا فلم تسمح لقواتها بدخول أراضيها وقالت حكومتها: شعبي لا يسمح بذلك، وأن الحضارات تتهاوى بفعل الانتحار الداخلي قبل الغزو الخارجي، وأن البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا.
عندما كتب «محمد ذو النفس الزكية» إلى جعفر المنصور معللا قيامه بالثورة المسلحة، استند إلى غياب مجتمع العدل، ونمو مجتمع الشيع والطبقات ذات الامتيازات، فاستخدم الآية القرآنية كسلاح مضمون في الصراع السياسي (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا). وبلغ من تحمس «أبو حنيفة» له أن قارن خروجه مع خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، فأرسل إليه معونة مالية كلفته حياته لاحقا مسموما على بعض الروايات، ولكن أبا جعفر المنصور استخدم السلاح نفسه من أجل إثبات مشروعية حكمه. وكانت هذه الأسلحة وما زالت في الصراع الإيديولوجي لاحتكار الحقيقة، وبناء سيادة المشروعية مأساة لم تحل المشاكل، بل زادتها تعقيدا، وتوالت معارك صفين في التاريخ والتوظيف الإيديولوجي لاحتكار الحقيقة وما زالت.
إن انهيار الأمم يتم بفقدان العدل حين ينقسم المجتمع إلى شرائح قوية وضعيفة، فَيُفْقَدُ الانسجام والتراص والتماسك الداخلي، والفرق بين الفحم والألماس هو من هندسة ذرات الكربون الداخلية. والمجتمع الفرعوني الذي يمثل نموذج اللعنة التاريخية (واتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود)، هو ذلك المجتمع المقسم والمهشم والمجزأ إلى شرائح وشيع وطبقات ذات امتيازات. (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا). ويتدمر المجتمع بانزلاقه من مجتمع متجانس إلى مجتمع الشيع والطبقات: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض). وتتدمر الدعوات وتنفجر المجتمعات داخليا من خلال تحول الأمة إلى شيع وأحزاب متنافسة متناحرة (من الذين فرقوا دينهم شيعا كل حزب بما لديهم فرحون). لذا كانت رسالة الدين الجوهرية هي إقامة مجتمع العدل من خلال محو الفوارق والتخلص من مرض (الشيع)، وسحب الامتيازات من أي شخص أو عائلة أو طبقة أو حزب أو تجمع أو طائفة، إلا من خلال الجهد والتقوى، وتشكيل مجتمع متجانس توحيدي، والدفاع عن الشرائح المستضعفة والمسحوقة والمهمشة من اليتيم والفقير والمسكين والأرمل والأسير والطفل والمريض والعجوز والمراهق، وأهمها إطلاقا المرأة التي تعتبر الشريحة المسحوقة الأعظم في المجتمع.
قانون وجودي
قامت الذرة على التوازن الكهربي، واستقامت النفس بالانضباط الأخلاقي، ونما المجتمع بتقلص ظلال الظلم، وشمخت الدول بصرامة العدل، وانهارت الحضارات بالمرض الفرعوني، ومع كل هذا فإن ثغرة العدالة الكونية تطل بصور لانهائية، ويبقى يوم الحساب هو الذي يضع الموازين القسط ولا ظلم اليوم..(وإن كان مثقال ذرة أتينا بها وكفى بنا حاسبين). لذا كان الإيمان باليوم الآخر يشكل ضرورة كونية.

نافذة:
رسالة الدين الجوهرية هي إقامة مجتمع العدل من خلال محو الفوارق والتخلص من مرض الشيع وسحب الامتيازات من أي شخص أو عائلة أو طبقة أو حزب أو تجمع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى