الرئيسية

القصر الكبير.. حين تتحول مدينة تاريخية إلى بؤرة للفقر والتهميش والإجرام

القصر الكبير: محمد أبطاش
حينما تزور القصر الكبير، لا شيء يوحي بأنك في زيارة إلى مدينة لا يزال عبق التاريخ يفوح من محيطها، فهي المدينة التي اشتهر اسمها بمعركة وادي المخازن الشهيرة. هنا تجرع المستعمر مرارة المقاومة، بمنطقة تعتبر من أقدم المناطق التي عمرها الإنسان، حيث تم اكتشاف رسوم ونقوش حجرية بالجبال المحيطة بالقصر الكبير.
بسبب توالي الهجرة القروية من المحيط الهامشي، في اتجاه حاضر القصر الكبير، ثمة ازدياد ملحوظ في تعداد الساكنة. لكن المدينة مازالت لم تلتحق بركب المدن الكبيرة تنمويا واقتصاديا، واجتماعيا، بل حتى سياسيا، بحيث سرعان ما تدحرجت بشكل مخيف، ليصبح آخر مطلب لزائرها هو الخروج منها سالما.. في هذا التحقيق زارت «الأخبار» المدينة واستمعت إلى إفادات من عين المكان، كلها توجه أصابع الاتهام إلى حزب العدالة والتنمية الذي أحكم القبضة عليها لما يقارب عشر سنوات، قبل أن تطيح به الانتخابات الأخيرة، حيث كان رأسه مطلوبا لدى القصروايين بسبب المساهمة في تحويل حاضرتهم من نموذج يحتذى به في المقاومة، والتاريخ العريق، إلى مدينة تعاني التهميش والفقر والإجرام..
عبق التاريخ
تشير بعض المصادر التاريخية إلى أن الفينيقيين كانوا حاضرين بقوة في المناطق المحيطة بمدينة القصر الكبير، حيث تم اكتشاف مواقع أركيولوجية بمحيط المدينة. واعتبرت هذه المصادر الأمر دليلا قاطعا عن وصول المعمرين الأوائل إليها وخاصة الفنيقيين الذين وفدوا من شرق البحر الأبيض المتوسط، ومن المرجح جدا أن مدينة القصر الكبير قد أقيمت على أنقاض القلعة الرومانية القديمة «أوبيدوم نوفوم» أوالمدينة العامرة لموريطانية الطنجية والتي تم العثور على كثير من آثارها خلال القرون الأخيرة، خاصة خلال القرن العشرين تضيف هذه المصادر، حيث سيتنامى ظهورها من خلال إنجاز الأشغال العمومية الكبرى بالمدينة كتعمير المدينة وتوسعتها خلال فترة الحماية الإسبانية، وكذلك خلال أعمال توسعة شبكة الصرف الصحي وتقويتها وكذا أشغال ترميم المسجد الأعظم، وإصلاحه، حيث تم العثور على قطع أثرية مهمة من فخار ورخام وقنوات وعملات نقدية ونقوش تحمل كتابات رومانية ظاهرة، على غرار تلك التي أدمجت ضمن مكونات صومعة المسجد الأعظم للمدينة. وتبقى أهم القطع الأثرية التي تم العثور عليها بالمدينة تلك النقيشة اليونانية التي كتب عليها بحروف يونانية بارزة، وهو ما سمح بإدراجها في سياق الوجود البيزنطي بشمال المغرب خلال القرن السادس قبل الميلاد.
بين «البيجيدي» و»الفينيقيين»
لم يمر الفنيقيون من محيط هذه المدينة خلال القرون الماضية دون أن يتركوا دليلا قاطعا، تعبيرا منهم عن حسن النية في الإقلاع بهذه المنطقة، من خلال تشييدهم أماكن ومساجد خلال فترة وجود المستعمر الإسباني أيضا، غير أن أكثر المعمرين لهذه المدينة في القرن 21 سيكونون بمثابة أكثر المهمشين لتاريخ هذه المدينة، كما تقول إفادات من قلب المدينة، ففي سنة 2004 حملت صناديق الاقتراع سعيد خيرون البرلماني ورئيس لجنة المالية بمجلس النواب عن حزب العدالة والتنمية، ليكون رئيسا لهذه الجماعة، حتى حدود الانتخابات الأخيرة لسنة 2015 التي ستطيح بالإخوان على رأس هذا المجلس، كما استعمل الحزب الإسلامي كافة الضغوطات للبقاء على رأس هذه الجماعة الحضرية، رغم تحولها إلى أحد أفقر المدن في شمال المملكة، في وقت تصاعدت الأصوات من قلب الحزب الإسلامي بالمدينة تستنكر هذا الأمر، وتكشف بعض المعلومات أنه خلال الانتخابات الأخيرة انفجر بركان الغضب في وجه سعيد خيرون، حيث تلت ذلك استقالات بالجملة من هذا الحزب بالمدينة، بعد أن وجه مجموعة من أعضاء حزب العدالة والتنمية بمدينة القصر الكبير، إخبارا بتجميد العضوية في الحزب، إلى كل من الأمين العام للحزب عبد الإله بنكيران، بعد تسجيلهم لما أسموه الوضع الداخلي للحزب بإقليم العرائش الذي أضحى يتسم بتجاذب حاد تغذيه الرغبة في فرض الهيمنة على الحزب، محليا بالقصر الكبير، وإقليميا باعتماد أساليب ملتوية وغير لائقة من قبل من تمرس على ذلك، يقول هؤلاء، وبسبب كذلك وجود هيمنة التحكم في الحزب على مستوى القصر الكبير، وطغيان هاجس التثبيت والكولسة، مع اللجوء إلى تهديد أحد أعضاء الكتابة الجهوية بعرقلة عمل الكتابة الإقليمية، يضيف المحتجون.

lo
احتضار لقلب المدينة
وسط الروائح الكريهة، وغياب النظافة، والبناء العشوائي، ومنازل آيلة للسقوط، وتجار المخدرات، يعيش حوالي 126.617 نسمة حسب إحصاءات 2014، ومنها 29514 أسرة تنحدر من المدينة، فيما يقطن بها 114 أجنبيا، وقد دق هذا الرقم ناقوسا تحذيريا من خلال تسجيل ارتفاع ملحوظ مقارنة مع إحصاء سنة 2004، والذي حصر السكان في حوالي 125.000 نسمة، وقد لاحظت «الأخبار» أثناء التنقل بين أحياء القصر الكبير، التهميش والفقر ينخران المدينة من كل جوانبها، حيث المنازل المغلقة والمدون عليها «للبيع»، منتشرة بشكل مثير، كما تستأثر الآيلة للسقوط بحصة الأسد، خصوصا بحي «الديوان» الواقع في المدينة القديمة، كما تعتبر كل من مناطق «الزكاكرة» و«المناكيب» و«الكشاشرة»، الأكثر فقرا وإجراما، بسبب انعدام دور للشباب، وكذا تغييب كلي لهذه المناطق من طرف المجلس البلدي السابق، فضلا عن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي لاتزال مشاريعها مغلقة بالمدينة تنتظر، في وقت يعتبر وسط المدينة الذي كان من الواجب إيلاؤه أهمية قصوى بحكم كونه واجهة المدينة التي يتجه إليها الزوار والسياح الذين يغيرون تصورهم حين النزول من محطات المدينة التي لا تفتح شهية الزائر للدخول إلى بقية أحياء القصر الكبير، خصوصا واجهة سوق سباتة، إذ لا صوت يعلو فوق قبضة الباعة المتجولين، ما أدى إلى تضرر كلي للاقتصاد المحلي، فضلا عن الضرر الذي يلحقه بالاقتصاد الوطني، الذي يتغذى من ضرائب التجار، بعد أن أغلق التجار الأصليون محلاتهم، في الطابق العلوي من السوق الرئيسي، بسبب تعرض تجارتهم لكساد واضح، تقول إفادات من عين المكان، كما تسبب الأمر في فوضى عارمة عادة ما تؤدي إلى جرائم وعراك بسبب «الاقتتال» حول الأمكنة المخصصة لـ«الفراشة»، وحتى برامج المجلس السابق الذي كان يسيره حزب العدالة والتنمية، لا مكان فيها لمشاريع تنموية لتأهيل هذه الأسواق، عكس الأولوية التي كانت تعطى لجمعيات مدنية تضخ لها أموال طائلة من دون أن يكون لها وقع كبير على الساكنة، حيث أزيد من 300 جمعية مسجلة لدى المصالح المختصة، إلا أن لا دور يكاد يذكر لها.
ناقوس مجلس الحسابات
لعل من الأدلة التي يقدمها عدد من الفاعلين على أن حزب العدالة والتنمية ساهم بشكل جلي في تدهور كل مناحي الحياة المرتبطة بالساكنة، هو آخر تقرير للمجلس الأعلى للحسابات برسم افتحاص سنة 2013، الذي حمل «البيجيدي» مسير المجلس الحضري، كل المسؤولية، بعد رصده عدة اختلالات. وكانت أهم ملاحظات قضاة الحسابات تتجلى في أن الجماعة لم تعمل على تسريع وتيرة العمل من أجل إخراج المخطط الجماعي للتنمية المنصوص عليه في المادة 36 من الميثاق الجماعي، باعتباره الإطار المحدد لآليات إنعاش وكيفية تدبير الشأن المحلي للجماعة لمدة ست سنوات ما بين 2011 إلى حدود سنة 2017، كما سجل التقرير تقصيرا ملحوظا في ما يتعلق بالوعاء العقاري، الذي تشوبه اختلالات من قبيل عدم تحيين سجل الرخص، حيث لا تقدم الجماعة الصورة الكاملة والحقيقية عن الإجراءات الصادرة من مصلحة ذات صلة، وهو الأمر الذي جعل البناء العشوائي ينمو كالفطر في بعض الأحياء بالمدينة، وهو ما شدد عليه تقرير الحسابات حين أشار إلى أن مصلحة الوعاء لا تقوم بالتنسيق من أجل تحديد وتتبع العقارات الخاضعة للإعفاء الضريبي، كما شكل السوق المحلي الذي يتواجد وسط المدينة نقطة أخرى يشوبها غموض مداخيله، حسب التقرير، بسبب التأرجح بين الزيادة والنقصان ما بين سنة 2004 وسنة 2012، حيث لوحظ أن الجماعة لم تقم بإصدار قرارات بخصوص المداخيل موضوع توصيات لجان المراقبة والمعاينة التي وقفت على حالات للتهرب الضريبي حيث يعمد بعض وكلاء المداخيل بتواطؤ مع بعض الباعة إلى تقييد كميات السلع وسعر الأثمان يقل عن الكميات والسعر الحقيقيين، كما همت ملاحظات قضاة جطو، عددا من الملفات الأخرى التي يشوبها غموض، ومن ضمنها المجزرة البلدية، فضلا عن ملف العقار وكذا رخص النقل المتعلقة بسيارات الأجرة وكذا الحافلات، إذ إن هذه النقط تساهم بشكل كبير في إضعاف أداء المجلس، وكذا ميزانيته التي كان من الأحرى توجيهها صوب تنمية المدينة.
تردي أمني
من جملة المشاكل التي أضحت تواجه القصر الكبير، التحدي الأمني، فبالرغم من مساحته الصغيرة، إلا أن صدى جرائمها، يصل إلى عموم التراب الوطني، فضلا عن عمليات النشل واعتراض سبيل المارة الذي يسجل بشكل دوري، حتى اعتاد السكان هذا الأمر، تقول إفادات حقوقية من عين المكان، كما سجل خلال عطلة عيد الأضحى المنصرم، ثلاث جرائم في يوم واحد، انتهت كلها إلى قسم المستعجلات بالمستشفى المحلي، وقد سبق لتقارير حقوقية أن دقت ناقوس الخطر حيال ما وصفته بالواقع الكارثي الذي باتت تعيشه الساكنة جراء غياب الأمن، وما يشكله من تهديد ومس صريح بالسلامة البدنية والحق في الأمن والأمان الذي تكفله المواثيق الدولية والتشريعات الوطنية، كما نبه التقرير الذي أعدته الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في وقت سابق إلى أن فضاء المحكمة الابتدائية لم يسلم بدوره من هذا التردي، إذ يعيش فوضى يومية بشكل باتت هيبة القضاء وسلطته في خبر كان، فأضحى فضاء المحكمة قبلة للمنحرفين والمختلين عقليا الذين صاروا يهددون سلامة المواطنين وكل العاملين في المحكمة بمنطق القوة العضلية لقضاء مصالحهم، في غياب تام للصرامة اللازمة من طرف المسؤول الأول على جهاز النيابة العامة، تفعيلا للقانون وفرض هيبة القضاء وحرمته واستقلاليته.
هذا الوضع الأمني ساهم فيه بشكل كبير انتشار مهول للمتعاطين للمخدرات، وتفشيها في صفوف شباب المدينة، نتيجة الضواحي الهامشية، في وقت تعرف المدينة نقصا حادا في القاعات المخصصة لهؤلاء الشباب قصد تفريغ طاقاتهم، كما أن دار الشباب التي تم إحداثها منذ سنتين، لا تزال أبوابها مغلقة رغم جاهزيتها لاستقبال هؤلاء، والتقليل من مخاطر الإدمان. وحسب بعض المصادر المحلية، فإن انتظار قص شريط افتتاحها، دخل عامه الثاني، حيث لا يزال شباب المنطقة ينتظرون عامل الإقليم، لفتح هذه الدار التي كلف إنشاؤها ملايين الدراهم، وبدأت واجهتها، تنهار وواجهتها الرئيسية تتعرض للتهشيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى