شوف تشوف

الرئيسية

«جاهلية» علوم التربية

تبنى المغرب منذ عشرية الإصلاح مقاربة التدريس بالكفايات، وأعاد تعزيزها في الرؤية الاستراتيجية وأيضا في القانون الإطار..، ليكون التدريس والتكوين بالكفايات مشروعا للمستقبل، حيث يمكن للتلميذ أو الطالب مثلا في حالة «التصديق على المكتسبات الحرفية والمهنية»، الحصول على شهادات مدرسية وجامعية دون الحاجة للمرور عبر الطريق التقليدي للأقسام والمدرجات. فالأهم الآن ليس ما يتذكره التلاميذ والطلبة من كلام معلميهم وأساتذتهم، بل ما يكتشفونه ذاتيا في ممارساتهم، وما يستخلصونه من الأخطاء التي يرتكبونها وهم يواجهون الوضعيات الحياتية التي تصادفهم.
عندما نقول إن الأمر يتعلق بمشروع لمغرب الغد، فإنه من الطبيعي أن لا يقتصر الأمر على المناهج وطرق التدريس، بل سيشمل الهندسة اللغوية وموارد ووسائط العملية التعليمية وأيضا التوجيه المدرسي والمهني والإرشاد الجامعي، ثم أخيرا نظام التقييم والامتحانات والإشهاد. أي كل البنية التربوية والتكوينية، مع ما يفرضه هذا من تحديات قانونية وتنظيمية وإدارية وعلمية جبارة، تَرِد عناوينها في نص القانون الإطار، غير أن التحدي الأكبر سيكون ثقافيا ونفسيا..، ذلك أنه رغم مرور عشرين سنة بالتمام والكمال على تبني هذه المقاربة، وما تتضمنه من طرائق متنوعة في بناء المناهج وفي التدريس والتقييم والدعم، ماتزال ذهنيات الممارسين، بمختلف مراتبهم ومواقعهم، تتصرف على منوال الطرق التقليدية، سواء في التخطيط أو التدبير أو التقييم، وعندما نقول التقييم، فإن هذه الطرق التقليدية لا تقتصر على تقييم التلاميذ، بل وأيضا تقييم المتدربين والموظفين.
كل من يمارس فعل التدريس أو فعل التكوين، سيلاحظ أننا نعيش الآن في مفترق طرق من حيث مقاربات التدريس والتكوين. فلو سألنا مجازا يستعد لاجتياز مباراة الالتحاق بمهنة التدريس، وأستاذا يستعد لاجتياز الامتحانات المهنية أو يستعد لولوج مركز تكوين المفتشين أو الموجهين أو المخططين، لو سألنا هؤلاء عن طرائق التدريس، فإنهم سيبدؤون فورا في تمجيد مقاربة التدريس بالكفايات على حساب مقاربة التدريس بالأهداف، بل وسيتحدثون عن المقاربتين بنفس طريقةِ المسلمين الأوائل في الحديث عن الإسلام والجاهلية. وأصبح الأمر «كاريكاتوريا» من فرط تكرار أن البيداغوجيا التقليدية مثلا تعتبر المعلم مركز العملية التعليمية، بينما البيداغوجيا الحديثة تعتبر المتعلم هو المراكز، إلى غير ذلك من المقارنات، لكن في مقابل هذه «التوبة البيداغوجية النصوح» نجد ممارساتهم، سواء كانوا مدرسين أو مفتشين أو أساتذة مُكونين ماتزال تنتمي لـ«جاهلية علوم التربية».
الوجه القبيح لهذا الانفصام هو أننا أصبحنا مقتنعين بأن كل المرجعيات النظرية المؤسسة للتربية المعاصرة، ونظريات التعلم، ونظريات تنشيط وتدبير جماعة الفصل، وطرائق التدريس والبيداغوجيات وطرائق الدعم والمعالجة، كل هذا يصلح فقط أن نحصل به على مقعد في مركز تكوين أو ترقية إلى درجة مهنية أعلى أو نحصل به على منصب في مصلحة أو قسم، بينما نحن في قرارات نفوسنا، مازلنا تقليدانيين جدا، نعتبر دروسنا أوردة ينبغي أن تُحفظ، مع أننا مجرد ناقلين لمعارف ولسنا علماء، ونعتبر أخطاء المتعلمين والمُكوِّنين خطايا توجب التحقير والتوبيخ، مع أننا لسنا ملائكة ولا أنبياء، ويزعجنا كثيرا أن يبدي تلميذ أو طالب أو متدرب انزعاجا أو تأففا من أمر نعتقده نحن حقيقة نهائية، مع أن الدهشة وإبداء الرأي هما بداية التعلم.
فعندما نرى الطريقة التي ستنظم بها مراكز تكوين أطر التربية هذه السنة امتحانات التصديق على المجزوءات وامتحانات التخرج، والتشديد على أن يشمل التقييم فترة التكوين الحضوري لوحده، فإننا نفهم معنى أن يكون كل حديثنا عن البيداغوجيات الحديثة والكفايات مجرد لغو لا غير. ففي السطح نَدَّعي بأننا نكون كفايات مهنية، لمدرسين أو إداريين أو مفتشين أو موجهين أو مخططين أو مبرزين، لكن في العمق نحن نقوم بإملاء المجزوءات، على غرار ما يفعله شيوخ الكتاتيب القرآنية مع أجزاء المصحف الكريم، ونفرض على المتدربين إرجاعها لنا إن هم رغبوا في نقطة تمكنهم من تعيين جيد. والوجه المأساوي من كل هذا، هو أن الجميع يتواطؤ على هذا الانفصام، إذ قد تجد أستاذا مكونا أو مفتشا يسأل مرشحا عن بيداغوجيا الخطأ ولكنه قد يطرده إن أخطأ وقد يقصيه إن أبدى رأيه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى