شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

سر تغيير الأمم

 

 

بقلم: خالص جلبي

 

فكرة المثلث الاجتماعي

حتى يمكن السيطرة صحيا وفي منطقة ما، فلا يشترط أن يتحول كل الناس إلى أطباء، بل يكفي قدر معين. وهذا يختلف من منطقة إلى أخرى، ويتعلق بمجموعة من العوامل (عدد السكان – الأمراض المتوطنة – الحالة المعيشية – التعليم – المواصلات… إلخ).

كيف يمكن خلق وضع صحي جيد في بلد ما؟ أقول تقريبا للموضوع ما يلي: حتى يمكن إشباع المجتمع صحيا والقضاء على الأمراض ومعالجتها في مجتمع ما؛ لا بد من وجود (كتلة اجتماعية حرجة) تقوم بالدور الصحي، هذه الكتلة الحرجة تنتظم (مثلثا) ذا أضلاع ثلاثة، يجلس في الضلع الأول (الأشخاص الفنيون)، (الأطباء والممرضون والفنيون… إلخ). ويكون في الضلع الثاني (المؤسسات الصحية)، (المشافي، المستوصفات، المخابر، ومراكز البحث العلمي… إلخ). أما الضلع الثالث فيحتوي على (الأفكار)، وهي هنا تمليح المجتمع بنشر الفكر الصحي الإيجابي، أي برفع مستوى الوعي الصحي عند الأفراد، فلا يكفي بناء مشفى وشراء أحدث المعدات كي ينتظم عمل المؤسسة الصحية، ذلك أن الحضارة ليست (شراء) للأشياء، بل هي عملية (بناء)، والشراء مهما كانت الأموال خلفه (سينفد) ﴿ما عندكم ينفد وما عند الله باق﴾، («النحل»: 96) وتختصر الحضارة في ثلاث كلمات: الإبداع ـ الصيانة ـ التطوير.

بناءٌ لها، وصيانتها، والقدرة على تطويرها، لأنها تمتلك السر الحضاري، وبالتالي العلاقة الجدلية بين الآلة والإنسان، وهي الآن جوهر مشكلة التطوير والتبعية بين الدول الصناعية ودول الأطراف.

 

(أشخاص + مؤسسات + وعي فكري)

إن انتشار الأفكار وإدراك الناس لأهميتها والتزامهم بها يؤدي إلى توتر الشبكة الصحية وقيامها بوظيفتها بفعالية، وتطبيق مثل هذه الفكرة يجعلنا ندرك أثر تطبيقها في بقية مساحات المجتمع من أسفل الشرائح الاجتماعية، وانتهاء بأعلاها. وكذلك يفهم الاقتصاد وبقية القطاعات الاجتماعية، بما فيها المؤسسة العسكرية.

وبالطبع فإن الاقتصاد كما قلنا لا يخرج أيضا عن القاعدة الصحية التي ذكرناها في ما سبق، أي وجود المثلث الذي يضم (أشخاصا + مؤسسات + وعيا فكريا مطابقا)؛ فهذا هو مثلث النهوض بأي مساحة اجتماعية، من خلال تشكيل الكتلة الحرجة، والشبكة الاجتماعية المتوترة. وهكذا فإن نهوض اقتصاد صحي لا بد من تهيئة عناصره الأولية، وأول عناصره الهامة على الإطلاق هو (الإنسان) الاقتصادي، أي الإنسان المختص بفهم ميكانيكية هذا العلم وقوانينه التي تحكم سيره.

 

فكرة الكتلة الحرجة

يمكن فهم المثلث الاجتماعي الذي ذكرناه بصورة أخرى، فحتى يحصل التغيير الاجتماعي لا بد من تشكل نسبة اجتماعية معينة من الناس لا ينقصون عنها ولا فائدة من زيادتها، إن لم تربك أي كتلة حرجةCRITCAL MASS) ) من الذين يبنون المؤسسات وينشرون الأفكار الصحية، لأن بعض الأمراض فيها قدرة العدوى، في حين أن الأفكار فيها قدرة العدوى دوما، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الفكرة الجيدة فيها صفة الخلود، في حين أن الفكرة السيئة فيها الصفة السرطانية (التورم غير الصحي والموت بعد حين)، وهو تعبير القرآن بأن الفكرة السيئة هي خبيثة MALIGNANT)) وفكرة (الكتلة الحرجة) كونية، سواء في المادة الصلبة أو السوائل، في البيولوجيا أو النفس، في الانفجار الذري أو غليان الماء أو التغيير الاجتماعي، فهو قانون أنطولوجي وجودي.

ولعله الذي أشار إليه ابن خلدون في مقدمته أيضا، من أن التراكم (الكمي) يُحدث انقلابا (نوعيا) مع الزمن.

ولمزيد من فهم الفكرة نقول: من أجل تمليح الماء حتى يحفظ الجبن، كانت النسوة قديما يلجأن إلى إضافة الملح بالتدريج، ولا يكفي مجرد الإضافة، بل لا بد من التفاعل حتى يذوب الملح في الماء تماما، أي يختلط بدرجة التجانس، وتستمر هذه (الإضافة) وهذا (التفاعل) إلى الدرجة التي يكون الوسط قد أُشبع إلى (الدرجة الحرجة)، بحيث إننا نعرف مثلا أنه مناسب لحفظ الجبن بوضع البيضة فتطفو على السطح.

سريان القانون من الفيزياء إلى الثورات الاجتماعية

إن قوانين المواد والسوائل تتشابه بدرجة كبيرة؛ فتفجير القنبلة الذرية يحتاج أيضا إلى (الكتلة الحرجة)؛ فلا تنفجر إذا وُضعت بكميات اعتباطية، بل لا بد من كتلة حرجة، بحيث تُضغَط كتلتان من مستوى (ما تحت الحرِج)، كي تصبحا بعد الدمج فوق الكتلة الحرجة؛ فيحصل الانفجار المهول.  وهذه (الكتلة الحرجة) تُعتبر سرا حربيا للدولة مالكة السلاح الاستراتيجي.

ويسري هذا القانون على النفس، فلا بد من وصول النفس إلى درجة (التأثر الحرج) كي تنفجر النفس بالبكاء والعيون بالدموع ﴿ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق﴾، (المائدة: 83).

ويصل هذا القانون إلى المجتمعات، فكما أن درجة غليان الماء لا تحدث إلا بـ(الدرجة الحرجة) وهي 100 سنتيغراد، فلا يتم الغليان حتى تصل الدرجة المتجانسة للماء كله الموضوع على بؤرة التسخين إلى درجة 100 سنتيغراد. وكذلك الحال في التغيرات الاجتماعية الكبرى التي تتخمر فيها الأحداث وتحبل فيها الليالي، فلا يحدث الغليان ما لم يصل إلى الدرجة الحرجة.

وهكذا فـ(الماء) حتى يغلي لا بد له من (الدرجة الحرجة)، و(القنبلة الذرية) تحتاج لانفجارها إلى (الكتلة الحرجة)، و(الجبن) حتى يُحفظ يحتاج إلى (الوسط الحرج)، والتغيير الاجتماعي لا بد له من كتلة إنسانية حرجة، سواء (نوعيا) أو (كميا)، حتى يتم الإصلاح المنشود.

ولتبسيط الموضوع أكثر نقول، كما إن خبراء السوائل أو الأطباء عندهم من الأجهزة ما يحكمون بها على تشبع الوسط بالكمية الحرجة، أو الغليان بالوصول إلى الدرجة الحرجة، كذلك يفعل خبراء المجتمع سبرا وقياسا وإدراكا، بل وتنبؤا عن تغير المجتمع.

 

نافذة:

التغيير الاجتماعي لا بد له من كتلة إنسانية حرجة سواء نوعيا أو كميا حتى يتم الإصلاح المنشود

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى