
فى مثل هذه الأيام قبل أربع سنوات، فقد تنظيم «داعش» آخر معاقل سيطرته الجغرافية في منطقة الشرق الأوسط، حين دُحرت قواته في قرية الباغوز، شرقي سوريا، لتسقط دولته التي أعلنها في يونيو 2014.
لقد مرت الذكرى على استحياء، رغم أنها ما زالت صالحة للاحتفال؛ إذ تراجعت بالفعل قدرة التنظيم على شن الهجمات إلى أقصى درجة ممكنة، وتقوضت بُناه التنظيمية، وضُربت خطوط إمداده، لكن الهواجس ما زالت قائمة؛ فصوته ما زال يسمع على «الإنترنت»، وتتردد أصداء بعض عملياته في مناطق مختلفة في إفريقيا، ويصعب جدا الحسم بعدم قدرته على العودة للضرب مجددا.
كان «الخليفة» المزعوم أبو بكر البغدادي قد قُتل بعد ستة أشهر من معركة الباغوز، كما قُتل اثنان من خلفائه لاحقا، وتم تطويق فلول التنظيم في أماكن أخرى بالمنطقة، أو طردهم إلى الصحارى، وبموازاة هذا النجاح الميداني، كان هناك نجاح آخر يتحقق في شبكة «الإنترنت»، التي يمكن القول إنها شكلت مرتكزا جوهريا في استراتيجية «داعش» منذ أعلن دولته.
ورغم ذلك، فلا يمكن القول إن «داعش» انتهى تماما، وإنه لم يعد قادرا على تهديد أمننا؛ فما زال هذا التنظيم قادرا على القيام ببعض الأدوار الخطرة التي دأب عليها منذ إطلالته الشريرة على المشهد الإقليمي والعالمي.
يستطيع «داعش» اليوم أن يجند أفرادا، وأن يدفعهم إلى شن عمليات إرهابية، وأن يبث سمومه عبر بعض الوسائط الإعلامية، فيحرض على العنف، ويشيع التمييز، وينشر الكراهية، رغم أنه فقد معظم قدراته الاستراتيجية.
ولذلك، لا يمكن اعتبار أن «داعش» بات جزءا من الماضي، أو أنه تحول من آليات ووقائع ملموسة على الأرض إلى مجرد أفكار.. لكن يمكن القول إن «داعش» هُزم استراتيجيا، وإنه لم يعد بوسعه إحداث تغيير ملموس في مسار السياسات الوطنية والإقليمية والدولية.
ليس هذا احتفالا بالنصر، ولكنه محاولة لفهم الطريقة التي تم عبرها إجهاض محاولات «داعش» للتحول إلى دولة ذات ارتكاز ترابي وسيادة، وإلى لاعب عالمي يمكن أن يرسي استراتيجيات، ويغير في مسارات السياسة الإقليمية والدولية.
والواقع أنه لم يكن بوسع العالم أن يهزم «داعش» استراتيجيا، كما هو حادث الآن، من خلال عمليات القصف والقتال الميداني (التي كان لها أثر كبير من دون شك) فقط، فهذا النصر لم يكن ليتحقق من دون هزيمة «داعش» في ميدانه الأثير الذي هو شبكة «الإنترنت».
هزيمة «داعش» لم تكن ممكنة من دون تقليص المساحات التي احتلها في الفضاء الاتصالي الإقليمي والعالمي، عبر استراتيجيته الشرسة للتمركز اتصاليا، وهي الاستراتيجية التي لاقت نجاحا مبهرا مع صعود التنظيم.
ففي شهر أكتوبر من العام 2014، أكد الجنرال جون آلين، المنسق الأمريكي للتحالف الدولي ضد «داعش»، أن دول «التحالف» نجحت في تكبيده خسائر كبيرة على مستوى العتاد والأفراد، لكنها أخفقت في مواجهته في ساحة «الإنترنت»، بعدما اعتبر أن هذا التنظيم يمتلك «ماكينة دعائية رهيبة».
وبالفعل، فإن التنظيم كان قد تمكن من تطوير استراتيجية إعلامية متكاملة، وتلك الاستراتيجية حولت القدرات الاتصالية التي يمتلكها إلى «أداة قتال رئيسية»، ويمكن القول إن تلك الأداة بالذات كانت على قدر عال من الفاعلية والنجاعة ضمن الوسائل المختلفة التي استخدمها لتحقيق أهدافه.
وفي ذروة ازدهار التنظيم، امتلك شبكة إعلامية ضخمة ومؤثرة، تكونت من مئات المدونات، كما طور عددا من المنتديات الإلكترونية، التي عملت كحاضنات إرهابية واستقطبت أفرادا من مجتمعات عدة؛ مثل منتديات «النصرة الجهادية»، و«شبكة حنين»، وشبكة «الزرقاوى».
واستطاع التنظيم أن ينتج العديد من المواد الإعلامية جيدة الصنع، والتي حظيت بانتشار وتأثير بالغين؛ ومنها مؤسسة «الفرقان»، و«الاعتصام»، و«الحياة»، و«أعماق»، و«البتار»، و«دابق»، و«أجناد»، وغيرها.
لقد أدركت الدول الكبرى أن هزيمة «داعش» لا يمكن أن تتحقق من دون تقليم أظافره على الشبكة، وهو الأمر الذي أدى إلى تعزيز مطالبات دول مثل الصين وروسيا بإخضاع «الفضاء الإنترنيتي» لمقتضيات السيادة الوطنية.
كانت الشبكة العنكبوتية هي ميدان تفوق «داعش»، الذي يحب أن يلاقي أعداءه فيه، وكانت مواقع «التواصل الاجتماعي» هي سلاحه الفعال، ولذلك فإن دحر التنظيم لم يكن ممكنا من دون جهود منسقة، استهدفت وجوده على الشبكة بمثل ما استهدفت فاعليته الميدانية.
ستظل قدرة «داعش»، أو أي من أمثاله، على العودة والضرب مجددا مرهونة بمسارين؛ أولهما على الأرض، وثانيهما في «الإنترنت»، وستظل القدرة على ملاحقة هذه النزعات مرهونة بتوحيد الجهود الإقليمية والدولية وصلابة الإرادة.
ياسر عبد العزيز





