شوف تشوف

الرأيسياسية

في معضلات الحروب والتسلح

 

عبد الإله بلقزيز

 

لم تحدث حالة الاضطراب في النظام الدولي ثنائي القطبية المنصرم سوى ظاهرة سباق التسلح، التي بدت محمومة بين الدولتين الكبيرتين في ذلك الإبان، والتي ظلت تهدد بتحويل الحرب الباردة بين الغرب والشرق إلى حرب ساخنة، على الرغم من أن الفريقين المتواجهين مالا إلى احتواء استقطابهما الحاد ببناء العلاقة بينهما على  قاعدة  الوفاق.

مع  ذلك، على المرء أن يتخيل كيف كان يمكن لسياسة الوفاق والتعايش السلمي بين الدولتين، وبين معسكريهما، أن يستتب لها أمر في مناخ ذلك السباق المحموم على تصنيع أسلحة الدمار وحيازتها، وفي سياق تنام مطرد للأزمات الدولية بين القوى الكبرى آنئذ!

وما تنفس العالم الصعداء إلا حين أعلن جورج بوش الأب وميخائيل غورباتشوف، في الثالث من دجنبر 1989 في مالطا، عن نهاية الحرب الباردة وقيام عهد سياسي جديد في العالم: أسابيع قليلة بعد سقوط جدار برلين. ولكن، بينما نزل الخبر على الأوروبيين بشرى تطمئن النفوس على المستقبل، وترفع عن كاهل أوروبا عبء حرب كانت ستكون بلدانها ساحتها الرئيس (حيث الرؤوس النووية من الجانبين منشورة على أراضيها)، لم يكن للخبر الوقع عينه في بقية أنحاء العالم، خاصة في بلدان الجنوب التي لم تكن، يوما، جزءا من منظومة الحرب الباردة، ولا من الشركاء الدوليين في سياسة الوفاق؛ فلقد كان عالم الجنوب والعلاقات بين دوله محكومة بقواعد وقوانين أخرى.

لم يكن في بلدان الجنوب من حروب، حينها، سوى الحروب الساخنة؛ الحروب التي تجري بالحديد والنار، وتزهق فيها أرواح مئات الآلاف، وتتدمر فيها مدن واقتصادات ومقدرات، وتتعطل بها التنمية، وأحيانا دورة الحياة نفسها. كان يحدث ذلك على الرغم من أن الجنوب كان عمليا – وبعد فشل منظومة عدم الانحياز – جنوبان: كل منهما مرتبط بمعسكر من المعسكرين الدوليين؛ ولكن الارتباط الذي لا تسري عليه قوانين الحرب الباردة، ولا قواعد الوفاق والتعايش السلمي المرعية بين الدولتين والمعسكرين!

كان مسموحا لدول الجنوب بأن تتقاتل وتسوي نزاعاتها بالحروب. وكان مشروعا، لدى الدولتين العظميين، أن تزودها بالسلاح والمستشارين العسكريين والخبرة الفنية والمعلومات الاستخبارية. بل كان يسعهما أن تخوضا حروبا ضد بلدان الجنوب مباشرة: في كوريا، وڤيتنام، وأفغانستان…، من دون أن تنتقض بذلك قواعد الحرب الباردة بينهما، ومن دون أن تخشيا على تعريض الأمن الدولي والاستقرار للخطر. لماذا؟ لأن الحرب الساخنة في الجنوب ضرورة حيوية للعظميين تعوض عن حرب باردة يقع الحرص على أن تبقى باردة في أوروبا، وحينها ما من بأس في تنفيس الاحتقان في الجنوب من خلال وكلاء محليين للقوى العظمى!

وكما لم تنه حقبة الحرب الباردة سباق التسلح داخل دول المعسكرين الغربي والشرقي – كما داخل دول الجنوب – كذلك لم يكن انتهاء الحرب الباردة، قبل ثلث قرن، إيذانا بنهاية سباق التسلح؛ في الغرب والشرق والجنوب، حتى لا نقول إن ظاهرة السباق تلك تعاظمت وزادت معدلا في هذه الفترة. وإلى ذلك، فإن دولا عدة في العالم دخلت إلى نادي الدول التي تمتلك صناعة عسكرية متقدمة، وتستخدم أنظمة تكنولوجية عالية الدقة في تصميم الأسلحة وتعظيم قوتها النارية وتصنيعها. وهذا ما وسع دائرة منتجي الأسلحة في العالم، وحرض على المزيد من التنافس في العالم على التصنيع الحربي، وعلى تسخير أكثر الموارد المادية وأكفأ الموارد العلمية البشرية له.

ولأن للإنتاج العسكري علاقة بالتجارة والتسويق، مثلما له علاقة بالاستخدام الذاتي لجيوش الدول المنتجة؛ ولأنه بات من أسباب تعظيم المداخيل القومية ومن بنى الإنتاج الأساس في الاقتصادات القومية، فقد فرض التنافس على الأسواق الإقدام الدائم على تطوير المنتوجات العسكرية وتجويدها من طريق الاستخدام الكثيف للتكنولوجيا في إنتاجها، بغية السيطرة على سوق السلاح، أو حيازة حصة من صفقات الأسلحة، أو أحيانا من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي من السلاح، لتجنيب النفس الخضوع لشروط المنتجين، أو لاحتمال التعرض لقوانين بمنع توريد السلاح إليها. وفي هذه الحالات جميعا، لم يعد الباعث على سباق التسلح وإنتاج الأسلحة، تجهيز الجيوش للحرب، أو للدفاع عن النفس فقط، بل المنافسة الاقتصادية على ميدان جزيل العوائد المادية على المنتجين فيه!

على أن وجها آخر لسباق التسلح واشتداد المنافسة على إنتاج السلاح وتسويقه، مما يحسن بالمرء أن يقرأ مغزاه ودلالاته. ليس ثمة ما يمكنه أن يفسر ظاهرة وفرة المنتوج الحربي (= العرض)، إذا لم يكن هناك، فعلا، طلب متزايد عليه، أي – بعبارة أخرى- إذا لم تكن هناك حروب أو مشاريع حروب؛ ففائض المعروض من المنتوجات العسكرية شأن يقع في نطاق المغامرة – بحسابات السوق- إذا لم يساوقه ويوازيه ارتفاع في الطلب. ولكن المشكلة تبدأ حينما يفكر من يفكر في اصطناع أسباب ذلك الطلب لتصريف المعروض من السلع، أي في إنتاج الشروط التي تقود إلى إشعال الحروب في العالم!

نافذة:

ليس ثمة ما يمكنه أن يفسر ظاهرة وفرة المنتوج الحربي (= العرض) إذا لم يكن هناك فعلا طلب متزايد عليه أي  بعبارة أخرى إذا لم تكن هناك حروب أو مشاريع حروب ففائض المعروض من المنتوجات العسكرية شأن يقع في نطاق المغامرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى