شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

قصص تجارب الإحصاء المغربية

أولاها كانت قبل 6 قرون والفرنسيون اتُهموا بالتزوير

يونس جنوحي

الإحصاء العام للسكان الذي يستعد له الأطر والتقنيون هذه الأيام، يبقى سابع تجربة إحصاء مغربية للسكان.

المتخصصون يقولون إن تكلفة إحصاء هذا العام سوف تكون الأعلى في تاريخ المغرب، والسبب أن المندوبية السامية للتخطيط زادت من أعداد التقنيين والأطر المشاركة، وهو ما يعني تلقائيا ارتفاع تكلفة العملية.

كيف عاش المغاربة تجارب الإحصاء الأولى؟ ولماذا هاجم الوطنيون تجربة الإحصاء اليتيمة، التي أجرتها الإدارة الفرنسية في المغرب سنة 1952.. وهل انتظر المغاربة فرنسا لكي تُجري أول إحصاء؟ سلاطين المغرب القدامى، قبل 6 قرون، جرّبوا إحصاء المغاربة في سياقين تاريخيين منفصلين.. هذه إذن هي الحكاية.

++++++++++++++++++++++++++++++

عالم مغربي أول من أحصى المغاربة قبل 600 سنة

بحسب ما سبق أن كشف عنه المؤرخ المغربي عبد الهادي التازي، فإن أول محاولة فعلية لإحصاء المغاربة تعود إلى فترة الدولة المرينية، أي قبل أزيد من 6 قرون، في عهد أبي الحسن علي بن عثمان، وهو سابع سلطان مريني يحكم المغرب والذي حكم المغرب ما بين سنتي 1331 و1348م.

هذا السلطان يعتبر تاريخيا من بين أهم من حكموا المغرب، بحكم الحرب التي خاضها لاسترجاع جبل طارق ووسع الدولة المغربية وأوصل حدودها إلى تلمسان، وكاد أن يحكم تونس أيضا.

الإحصاء الذي وقع في عهده، قاده العالم المغربي إبراهيم عبد الرحمن التازي، وشمل سكان أهم مناطق المغرب. وحسب ما أورده المؤرخ المغربي عبد الهادي التازي، فإن الهدف من هذا الإحصاء كان توزيع مساعدات على المغاربة الذين نجوا من وباء الطاعون. فقد عرف المغرب وقتها موجة انتشار للوباء راح ضحيتها الآلاف في بوادي ومدن المغرب.

إبراهيم التازي كان رجل دولة متمرس، فقد سبق له أن شغل مناصب في القضاء وعُين سفيرا في مهام دبلوماسية أيام الدولة المرينية. ودرّس في غرناطة، أيام مد الدولة المرينية وتأثيرها الواسع جغرافيا.

وكانت الدولة المغربية وقتها قد قررت توزيع المساعدات على الناجين، لكن التحدي كان إحصاء من تبقى ومعرفة أعداد الناجين في الأقاليم. فجاءت فكرة هذا العالم المغربي الذي كان نابغة في الحساب، واقترح على السلطان أن يتم إحصاء الناجين في عموم المغرب، لمعرفة مقدار المساعدات الواجب صرفها على تجمعات الناجين في قبائل البلاد.

وقد نُقل عن المؤرخ عبد الهادي، ما قاله في إحدى الندوات التي عُقدت سنة 1981: «الدولة المرينية كانت تقوم بجرد إحصاء سائر الشهداء الذين راحوا ضحية الوباء العام الذي غزا المغرب عن طريق البحر المتوسط.. ».

أحد الأثرياء المغاربة في القرن 19 أعطى للصحافي البريطاني لاورنس هاريس سنة 1909، تصورا للإنسان المغربي عن عملية الإحصاء. فقد قال هذا الثري المغربي، واسمه عبد الله ابن مقتة – كان صديقا للدبلوماسيين الأجانب الذين اشتغلوا في المغرب، كما أنه كان مقربا جدا من السلطان الحسن الأول الذي توفي سنة 1894- إن المغاربة لا يحبون أن يتم إحصاؤهم!

وتحدث عن نشوء الدولة المغربية وتطورها، واختيار فاس عاصمة للعلويين، والانفجار الديموغرافي الذي عرفته المدينة، بعد اختيارها عاصمة للبلاد.

وقد نقل عنه الصحافي لاورنس هاريس في مذكراته، ما قاله عن تاريخ المغرب، وموقف المغاربة من الإحصاء. يقول: «قبل أزيد من ألف عام، جاء الشرفاء الأدارسة من مصر إلى المغرب، وأقاموا بمدينة وليلي، التي مررت قربها في طريقك إلينا بفاس. المولى إدريس الثاني حظي بعدد كبير من الأتباع والمريدين، وهو ما أوجب ضرورة إنشاء مدينة أخرى أكبر لتستوعب كل الأتباع. واختار وزيره عمير بن مصعب الزيدي، أن يقيم المولى إدريس الثاني في فاس. المدينة يقسمها النهر إلى ضفتين، الضفة الأولى وبها جامعة القرويين، والأخرى التي تسمى الأندلس. لأن بضع مئات من المغاربة فروا من الأندلس بإسبانيا، وسكنوا بفاس. أما اليهود، فقد سمح لهم بالسكن في المنطقة التي يطلق عليها: فندق الجهادي.

في فترة من الفترات، بنيت أسوار لتفصل الضفتين، مشكلتين بذلك مدينتين منفصلتين. ونشبت حروب ضارية بين الطرفين، ولم تهدأ الحرب إلا بعد أن جرف الموحدون تلك الأسوار ووحدوا المدينة.

فاس الآن تضم أزيد من مائة ألف من السكان، ولسنا متأكدين من العدد، لأننا لا نحب إحصاء الناس».

 

من مولاي إسماعيل إلى محمد الخامس.. تجارب منسية

بعد تجربة المرينيين، كان السلطان المولى إسماعيل سباقا بدوره إلى إطلاق محاولة لإحصاء الأملاك الحبسية في عهده، بعد أن بنى مكناس، عاصمة الدولة المغربية وقتها. وقد كانت تلك المحاولة، إحصاء شاملا في ربوع المغرب، ووفر معطيات عن أعداد سكان البلاد وانتشارهم الجغرافي. حدث هذا سنة 1705 م، وهي الفترة التي لم تكن تتوفر فيها أي أرقام بخصوص العدد الحقيقي لسكان المغرب.

لم يكن الفرنسيون يملكون أي معطيات عن المغرب في عهد المولى إسماعيل، وكانت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين قد انطلقت في عهده وحلت سفارات فرنسية في المغرب وقعت على إثرها عدد من الاتفاقيات. لكن أول معطيات رسمية جمعها الفرنسيون عن المغرب جاءت بعد 1830، أي بعد احتلال الجزائر. وقد أطلق الفرنسيون حملات تشجيعية لعلماء وباحثين فرنسيين لكي يتوغلوا في المغرب ويُجروا تجارب، ومنها تجربة إدمون دوتي الذي أعطى توزيعا تقريبيا للسكان المغاربة فوق المجال الجغرافي، وقدم جردا لثروات المغرب وأعطى عددا من التوقعات والانطباعات، والمعطيات أيضا.

بعض الباحثين المغاربة، في ما يتعلق بتاريخ المغرب خلال القرن العشرين، نسوا تماما عملية الإحصاء الكلي للسكان المغاربة سنة 1960، في أواخر فترة حكم الملك الراحل محمد الخامس. والتي تبقى أول عملية إحصاء رسمية في تاريخ المغرب المستقل.

ومنهم من انتقل في الأبحاث العلمية من الحديث عن إحصاء 1952 الذي تم في عهد إدارة الحماية الفرنسية، مباشرة إلى إحصاء 1971 الذي كان الأول في عهد الملك الراحل الحسن الثاني والذي أشرفت عليه وزارة الداخلية، دون التركيز على محاولة إحصاء 1960 التي عرفت عددا من الصعوبات والعراقيل قبيل إطلاقها.

كان السياق المحلي وقتها في المغرب يعرف تحولا على مستوى الإدارات، وعدم استقرار سياسي يتمثل في الصراع حول تعيين حكومة مغربية تُحقق التوافق السياسي. وهو ما يفسره سقوط تجربتي امبارك البكاي وقِصَرُ مدة حكومة بلافريج، ثم عبد الله إبراهيم.

بعض المصادر التي تحدثنا إليها في «الأخبار»، تؤكد أن إرهاص عملية الإحصاء كانت قد وضعتها حكومة عبد الله إبراهيم، وشارك إلى جانبه عبد الرحيم بوعبيد، الذي كان وزيرا للاقتصاد.

تبقى تجربة 1960 أول محاولة اختبر فيها المغرب قدرات الأطر الإدارية المحلية لقيادة عملية الإحصاء العام للسكان والسكنى، والذي كان متزامنا أيضا مع مشروع محمد الخامس الذي يهم محاربة الأمية في صفوف سكان القرى والمدن الصغرى.

محاولة 1960 لم تنل ما تستحقه في الجانب التوثيقي، رغم أن نتائجها، بحسب ما يؤكده المتخصصون، لعبت دورا كبيرا في إنجاح تجربة إحصاء 1971 التي كانت الأولى في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، واتُهم فيها رضا اكديرة والجنرال أوفقير بتكريس التلاعب بنتائج الإحصاء وجمع معطيات غير دقيقة.

 

++++++++++++++++++++++++++++++

هل كذب الفرنسيون في أول إحصاء رسمي لسكان المغرب؟

أول إحصاء إداري رسمي عرفه المغرب، ذلك الذي نظمته الحماية الفرنسية، بإشراف من الإقامة العامة في الرباط سنة 1952. خلص هذا الإحصاء الذي وظفت فيه فرنسا إمكانياتها العسكرية والإدارية لكي يكون شاملا، إلى أن عدد سكان المغرب هو 7 ملايين و440 ألف نسمة بالضبط.

بينما كان أول إحصاء في عهد المغرب المستقل، ذلك الذي أطلقه الملك الراحل محمد الخامس فترة قصيرة قبل وفاته، والذي حدد عدد سكان المغرب في 11 مليونا ونصف مليون نسمة.

وُصف هذا الارتفاع في أعداد السكان بالصاروخي. بينما بعض المتخصصين المغاربة حددوا سببا وجيها لهذا الارتفاع، وهو أن المغرب عندما تولى إحصاء سكانه بنفسه، وفّر مصداقية كبيرة في إعلان عدد المغاربة بدون أي خلفية سياسية استعمارية.

هذا الاتهام الذي وجهه المتخصصون المغاربة إلى الإدارة الفرنسية لم يكن وليد الصدفة، فقد سبق تجربة إحصاء 1952. فبعد الدوريات والمنشورات الفرنسية التي أعلنت فيها الإقامة العامة منذ 1920، تحسن مستوى عيش المغاربة بعد مجيء الإدارة الفرنسية، كان الوطنيون المغاربة دائما يواجهون هذه الدعاية الفرنسية ويكذبونها.

في دراسة بعنوان «خدعة الاستعمار الأوروبي في إحصاءاته، سكان مستعمراته ومحمياته»، والتي نشرتها مجلة «دعوة الحق» في عددها 91 سنة 1964، تعليقا على تحول عدد المغاربة من 7 ملايين إلى أكثر من 11 مليون نسمة في فترة قصيرة:

«فكيف إذن يمكننا أن نصف هذا الانفجار السكاني في المغرب، لاشك أنه نتيجة لقيام الدولة المغربية بإحصائها سكانها بنفسها وهي يتمتع باستقلالها الأكمل ولانكشاف حيل الاستعمار لنا في إحصاءاته لمستعمراته وممتلكاته ومحمياته.

فعندما وطئت قدما الرجل الأبيض الأوروبي أقطار إفريقيا وآسيا واحتلها بخيله ورجله عمد إلى التقليل من تعداد سكانها، لأسباب ثلاثة هي في نظري :

أولا- إمكان الزيادة في تعداد سكان مستعمراته كل عشر سنوات، قصد الادعاء أن تزايد السكان يقع بفضل استتباب الأمن في المستعمرات، وإيجاده وسائل العيش «للأهالي»، ونشره الوسائل الصحية بين السكان.

ثانيا- التقليل من عدد السكان في ممتلكاته، لئلا يلفت إليها الأنظار وللحط من شأنها في أعين الدول حديثة العهد بالاستقلال.

مما سبق يبين لنا أن خدعة الإحصاء الاستعماري التي خدع بها الاستعمار الأوربي طيلة أعوام سكان مستعمراته ومحمياته وجمعية الأمم السابقة وهيأة الأمم المتحدة، لتبرير حكمه شعوب آسيا وإفريقيا قد انكشف عندما قامت الدول حديثة العهد بالاستقلال بإحصائها سكانها بنفسها، فوجدت أن لا دخل للاستعمار الأوروبي في تزايد سكانها.

وأن ادعاء هذا الاستعمار أن له الفضل في تزايد سكان مستعمراته إنما هو محض كذب وبهتان».

 

وطنيون أحرجوا فرنسا بكُتيب فضح معطيات ديموغرافية

في العام 1952، أصدر قياديون من حزب الاستقلال كُتيبا باللغة العربية، وُزع على نطاق واسع، يشرحون فيه ما أسموه محاولات فرنسا «التستر» على حقائق بالأرقام، تتعلق بنسب الوفيات في المغرب، خصوصا في صفوف الأطفال، وضربوا في عمق الدعاية الفرنسية القائمة وقتها، والتي كانت الإقامة العامة تُروج لها بقوة، ومفادها أن سياسة فرنسا في المغرب أدت إلى انخفاض الوفيات وتعافي السكان وازدياد أعداد المغاربة في القرى كما في المدن.

هناك باحث مغربي اسمه المهدي المنبهي، أصدر سنة 1966 مقالا علميا كان عبارة عن دراسة ديموغرافية. جاء في تقديمه ما يلي: «يظهر من خلال أهم المعطيات الديموغرافية لبلاد المغرب العربي أن عدد السكان في تزايد مستمر منذ عدة سنوات، وهذه الثروة البشرية يجب أن نقدرها اليوم ونبحث عن أسرارها حتى نعرف كيف نسخرها للنمو الاقتصادي لهذه البلدان، أو حتى لا تكون عائقا من عوائق نموها وازدهارها فنبحث عن التوازن بين المعطيات والحاجيات، فإذا ألقينا نظرة على جدول تطور عدد السكان في بلاد المغرب العربي في ما بين سنتي 1936 إلى 1956 فإننا نلاحظ أن عدد هؤلاء السكان كان يبلغ سنة 1956، 23.970.000 نسمة، بينما صار يناهز ما بين سنتي 1960 و1961، أي بعد خمس سنوات: 27.870.000 نسمة».

هذا الإقرار بازدياد أعداد السكان في المنطقة التي كانت كلها تابعة للإدارة الفرنسية، كان يقابله رفض من قبل الوطنيين، قبل تاريخ الدراسة وبعدها، للإقرار بدور فرنسا في ازدياد أعداد المغاربة.

الفرنسيون يقولون إن الفضل في هذا الانفجار الديموغرافي، خصوصا في المغرب، مرده إلى تعميم التلقيح وتحسن الخدمات الصحية. بينما وطنيو حزب الاستقلال الذين أصدروا الكُتيب الذي ينتقد فرنسا، يؤكدون أن الوفيات في صفوف الأطفال والرضع كانت في ارتفاع كبير، بعكس ما تروج له فرنسا.

تناولتُ الكتيب الذي كنت أحمله معي. كان ينتقد الفرنسيين بشدة، لأن مرافق المستشفى، المخصصة للأوروبيين أفضل من تلك التي خصصت للمغاربة. وهذا الأمر صحيح، لكن لم تتم الإشارة إلى حقيقة مفادها أنه إلى أن جاء الفرنسيون، فإن الخدمات الصحية المحلية نادرا ما كانت موجودة على الإطلاق.

هناك رقم لفت انتباهي: «لم تكشف السلطات أبدا عن معدل الوفيات الرهيب في صفوف السكان المحليين، خصوصا الأطفال. معدل وفيات الأطفال المحليين كان هو 283،6 في الألف. وهو المعدل الأعلى في العالم. بينما كان معدل الوفيات في صفوف الأطفال الفرنسيين في المغرب 84،1 في الألف».

معدل 283،6 في الألف كان رقما لافتا، لأن المغرب لا يتوفر على إحصائيات حية، وبالتالي فإن هذا الرقم يستدعي أن يتم التحقق منه.

لم يكن أي زعيم وطني قادرا على شرح كيف تم الوصول إلى هذه النسبة. ولا السلطات الفرنسية في الرباط – والتي لم تظهر أي تردد في الكشف عن معدلات الوفيات- استطاعت ذلك أيضا. وقد كانت بالفعل كل الإحصاءات المنشورة متاحة مجانا.

وجود تجمعات غير منظمة، خصوصا في «القرى»، يعني أنه لا توجد أي سجلات رسمية للولادات، الزواج، أو الوفيات. وهذا الأمر لا ينطبق على السكان الأوروبيين.

على نحو طارئ، معدل الوفيات في صفوف الأطفال في هذه الحالة هو 63 طفلا في الألف. وليس 84,1 طفلا. ومع ذلك، فقد أصبح من الممكن أخيرا إجراء تقديرات واسعة تشمل عددا من المستويات والأقسام.

في جميع المدن الكبرى في المغرب، تم تسجيل رقم قياسي لأول 1000 طفل وُلدوا في سنة 1951. وبعد سنة بالضبط، أطلق الزوار التابعون لقطاع الصحة، استفسارات بشأن رفاهية هؤلاء المواليد. هذه المعاينة أظهرت أن الوفيات في صفوف الأطفال المغاربة بلغت معدل 129 في الألف.

الأرقام المتعلقة بالأطفال اليهود، والذين يبقى وضعهم أفضل، تتراوح ما بين 93 إلى 115 في الألف. لا يمكن أن تُعتبر هذه الأرقام مضبوطة، بطبيعة الحال، لكنها تُبين أن الرقم المتمثل في 283،6 أو 386 رقم مرتفع جدا!

بالإضافة إلى هذا، فإن معدل الوفيات في صفوف الرضع المغاربة، يرجع بدرجة كبيرة إلى الالتزام بالطرق البدائية المحلية خلال عملية الولادة.

 

لماذا تأخر إحصاء المغاربة بعد الاستقلال؟

إذا سلمنا أن الفرنسيين أحصوا المغاربة رسميا، مرة واحدة على الأقل سنة 1952، فإن محاولات تقدير أعداد المغاربة وطبيعة نمط عيشهم وظروفهم المعيشية، لم تتوقف قبل دخول فرنسا إلى المغرب واستمرت إلى آخر سنوات الحماية.

لكن أولى محاولات المغرب إحصاء سكانه بعد الاستقلال، لم يُكتب له أن يُنظم إلا سنة 1960 – رغم الانتقادات التي طالت العملية، كما أن الإحصاء لم يكن شاملا- أي بعد خمس سنوات على الاستقلال، ولم تتبعها أي محاولة أخرى لإحصاء المغاربة، رغم التطور الكبير الذي عرفته الإدارة المغربية بعد ذلك.

هناك دراسة، عممتها وزارة الإسكان بشراكة مع إدارات عمومية أخرى، جاءت فيها دراسة فرعية بعنوان: «تطور الساكنة المغربية منذ الاستقلال»، تناولت بعض الأرقام المتعلقة بسكان المغرب بعد الاستقلال، واعتمدت في إنجازها مراجع مهمة من قبيل أبحاث متخصصين مغاربة أمثال محمد بنعتيق ودراسات جماعية لباحثين من اليونيسكو بخصوص التنمية الثقافية، بالإضافة إلى دراسة لأمينة التنزاني كان عنوانها «الثقافة والسياسة الثقافية في المغرب».

لكن أكثر ما يهمنا من بين فروع هذه الدراسة الواسعة التي جاءت في أكثر من 150 صفحة، ما يتعلق بتعداد السكان المغاربة.

إذ جاء في محور تطور أعداد السكان، ما يلي:

«نُظِّم أول إحصاء للسكان بعد الاستقلال سنة 1960. ومنذئذ دأب المغرب على تنظيم إحصاء عام للسكان كل عقد، وكان آخرها سنة 2004.

فمن 1960 إلى 2004، تضاعف عدد السكان بمعدل 2,6، متنقلا من 11,6 مليونا إلى 29,9 مليون نسمة، بحيث إن نسبة نموه السنوي انخفضت بنسبة 2,6 في المائة خلال الفترة المتراوحة بين 1960 و1970، وبنسبة 1,4في المائة ما بين إحصاء 1994 وإحصاء 2004.

ويكتسي النمو الديموغرافي الحضري حدة أكبر مما هو عليه بالوسط القروي، إذ تطورت الساكنة الحضرية ما بين الإحصاءَين الأخيرين بوتيرة سنوية متوسطة قدرها 2,1 في المائة، فيما لم تتجاوز هذه النسبة 0,6 في المائة بالنسبة إلى الساكنة القروية.

وينبغي – ما دمنا نتحدث عن الثقافة- تأكيد أن النقاش العمومي حول المسألة الديموغرافية لم يتعرض في المغرب لتأويلات إيديولوجية أو سياسية قاطعة، كما هو الحال بالنسبة إلى العديد من البلدان.

وكنتيجة للنمو الديموغرافي المتسارع خلال العقدين الأولين من الاستقلال، فإن التجلي الديموغرافي عن كل سن للسكان المغاربة أضحى يعكس اليوم السمة الشابة والمتنامية للشرائح العمرية النشيطة. وتصل نسبة البالغين من العمر أقل من 15 سنة حاليا إلى 30 بالمائة، في حين تناهز نسبة البالغين من العمر ما بين 15 و59 سنة أكثر من 62 بالمائة. أما في ما يخص نسبة الأشخاص المسنين فيلاحظ استقرارها النسبي على مدى الخمسين سنة الأخيرة، بحيث استقرت اليوم في نسبة 7,6 بالمائة. وإذا كان صغر سن الساكنة بمثابة إمكان بشري مهمٍّ، فإنه جعل مختلف السياسات العمومية في مواجهة تحديات كمية، سيما في ميادين التربية والصحة والشغل».

 

 

إحصاء 1971 بين هيمنة «اكديرة» ومهاجمة المعارضة

آخر إحصاء عام للسكان عرفه المغاربة رسميا، بشكل موسع، كان في سنة 1952. وكانت هناك أصوات تدعو إلى ضرورة تجديد الأرقام المتعلقة بحركية المجتمع المغربي وتطور سكانه، لمعرفة التحديات التي كانت تنتظر الحكومة، والدولة أيضا.

إذ إن إحصاء السكان الذي تم سنة 1960، بأمر من الملك الراحل محمد الخامس، وشاركت في تنظيمه أطر من فرنسا، لم يكن إحصاء شاملا، بحسب المعطيات المتوفرة. وهكذا فقد كان المغرب في حاجة إلى عملية إحصاء واسعة ومعمقة، تضاهي تلك التي عرفها المغرب سنة 1952.

وهكذا فقد وافق الملك الراحل الحسن الثاني على إطلاق عملية إحصاء شامل للسكان سنة 1971، وهي السنة التي عرفت وقتها أحداث عصيبة، وشهدت فيها البلاد ازديادا في إيقاع المعارضة، سواء في البرلمان أو حتى على مستوى التنظيمات السياسية.

كان المغرب قد خرج لتوه من حالة الاستثناء التي دخلها سنة 1965.

بدأت العلاقات مع فرنسا في التحسن، بعد قطيعة دامت 5 سنوات، بسبب قضية المهدي بن بركة. بينما كانت الأصوات الداعية إلى تنظيم انتخابات حرة في ارتفاع مستمر.

وفي هذا السياق، جاءت عملية إحصاء السكان سنة 1971، وهي العملية التي هيمنت عليها وزارة الداخلية.

كان مسؤولون مغاربة أمثال «باحنيني»، الذي كان يترأس تجربة حكومية إلى وقت قصير، والوزير بنهيمة، لا يملكون النفوذ الذي يجعلهم مؤهلين لمنافسة هيمنة كل من رضا اكديرة، الذي كان وزيرا للداخلية بدوره في ستينيات القرن الماضي، وصديق الملك الحسن الثاني. ثم الجنرال أوفقير، الوزير الفعلي للداخلية في السنة التي جرى فيها الإحصاء.

حضور كل من اكديرة وأوفقير في المشهد السياسي سنة 1971، جعلهما معا يؤثران على سير عملية الإحصاء. إذ إن مسؤولين مغاربة بارزين في الداخلية، كانوا مدينين للرجلين معا، بكل السلطات والصلاحيات الموضوعة بين أيديهم.

اتهمت المعارضة، ممثلة في الاتحاديين وبرلمانيي حزب الاستقلال وقتها، كلا من الجنرال أوفقير ورضا اكديرة بالتحكم في عملية الإحصاء والتلاعب في أرقامها، وتزوير المعطيات المتعلقة بالمدن الصغرى والدواوير.

إذ سُجل أن أعوان الداخلية وقتها، شجعوا السكان على عدم التصريح الكامل بأنشطتهم الاقتصادية وما يملكونه داخل منازلهم، وهو ما أثر سلبا على عملية جمع المعطيات.

ورغم الحملات الإعلامية التي شجعت المغاربة وقتها على ضرورة التعاون مع موظفي الإحصاء وتحري الدقة في الإجابات، إلا أن أعدادا واسعة من المغاربة كذبوا بشأن أعداد أبنائهم ومصادر دخلهم، وسط انتشار إشاعات بأن الدولة سوف تفرض عقوبات على أرباب الأسر الذين أنجبوا الكثير من الأبناء. وبحكم أن المغاربة وقتها لم يكونوا جميعا قد حصلوا على دفاتر «الحالة المدنية»، ولم يوثقوا زواجهم بعقود إدارية، فقد كان إحصاء أعداد الأبناء والزوجات بدقة أمرا مستحيلا.

هذا الإحصاء لم يشمل الأقاليم الجنوبية، بحكم أنه حدث قبل المسيرة الخضراء وتحرير المناطق التي انسحبت منها إسبانيا. لكن وزارة الداخلية سارعت إلى إحصاء سكان منطقة العيون وبوجدور والسمارة ووادي الذهب سنة 1974، أي بعد ثلاث سنوات على الإحصاء الرسمي لبقية مناطق المغرب، وأضيفت الأرقام المتعلقة بهذه المدن الجنوبية لتعزز بقية أرقام مناطق المغرب. وهذا يعني أن عملية الإحصاء السابقة للسكان (أي محاولة 1960) لم تكن بدورها شاملة. وهكذا فإن عملية إحصاء المغاربة سنة 1952، كانت أوسع عملية إحصاء اعتمدت فيها فرنسا على إداراتها العسكرية المنتشرة في عموم المغرب وقتها، ونسقت مع الوحدات الإسبانية المنتشرة في الصحراء ومناطق شمال المغرب، لكي تُكون فكرة شاملة عن تعداد المغاربة والخصائص والمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى