شوف تشوف

الرأي

لكل تأخر ثمن

عبد الرزاق الحجوي

يزحف الانهيار المناخي الذي كانت تسميته «التغير المناخي» مخففة. يزحف دقيقة تلو أخرى نحو الجميع، فقد سجلت بعض دول الخليج هذه الأيام سبعين درجة تحت الشمس وثلاثا وخمسين تحت الظل؛ وما هي إلا طلائع هذا الانهيار الأولى في انتظار قرن جد قاس على الإنسان وعلى الحيوان والطبيعة، فيا لها من مفارقة بدخول البشرية هذا النفق المظلم في أعلى العصور تقدما في باب المعرفة والعلوم وأكثرها غزارة وتغطية بالمعلومة.
لقد حصدنا بالمغرب مر الحصاد من فقدان المدن للعدد الكافي من الحدائق العامة، بإنتاج جيل تصعب عليك مشاهدة مباراة كرة قدم لتسعين دقيقة صحبته، فالعلاقة لا تحتاج إلى طول تفكير للربط بين ندرة توفر المتنفسات وصعوبة توازن نفسية المراهقين، فمدننا حتى لو أثثتها بعض الحدائق فهي مدن إسمنتية في الواقع، لعجز ما في قوانين التعمير، ساندته ما ذهبت إليه قوانين البناء في فرض صالون للضيوف من اثني عشر مترا مربعا صافية، حتى بالنسبة لشقة من خمسين مترا، ليحاصر جيل بكامله من أبناء الطبقات الاجتماعية في زنزانة من تسعة أمتار منذ طفولته، وليتها كانت خالصة لنشأته، بل هي في الوقت نفسه غرفة للتلفاز ولمائدة الطعام ثم المطالعة، نظرا لحرمة صالون الضيوف وغرفة الوالدين المقدسة. لنطلق العنان للتأويلات والتحليلات والمدارسات الدائمة حول التقدم المتواصل لآفات الجنوح والمخدرات وصعوبة التحصيل الدراسي… فإن رأى البعض أن الطبقة الوسطى التي تتوفر على قطاع صحي مدفوع الأجرة ومؤمن وعلى نظام تعليمي خاص مدفوع الأجر أيضا، ما يجعلها وذريتها في مأمن من كثير من سلبيات المشهد، إن رأى في هذه الطبقة خزانا كافيا للحاجة من النخب والأطر وما شابههما، فإن ظروف ومقومات عيش الطبقات الأدنى ستنتج ما يكفي من الجانحين لتعكير المشهد وتنغيص حياة كل صاحب سيارة وكل صاحب هاتف ذكي في الشارع. ولست هنا بصدد الرسم بالأسود، وأنا أول من يعترف بأن هذا الميزان ستعارضه كثير من العينات والنماذج الناجحة داخل الطبقات الاجتماعية وكثير من العينات الفاسدة من الطبقة الوسطى، لكنها نسبية لن تنسف القاعدة وهي متانة العلاقة بين ظروف النشأة ونوع المنتوج. ولا أتحدث سوى عما هو بشري، الذي سيعفى من كل مسؤولية لو توفرت الحدائق الكافية ولو توفر لهذا الجيل نصيبه من الخصوصية في تصميم الشقق الاقتصادية، التي هي من الحد الأدنى من الحقوق سيلتحق به مستقبلا الحق في الحماية من قسوة الطقس، في حدود ما هو ممكن بشريا ومتاح ماديا.
كنت أتمنى أن تختار لجنة تجديد النموذج التنموي تجربة العيش لشهر فقط مرة في دوار قصديري ومرة في قرية نائية بدون أي بطاقة بنكية أو حامل نقود، وتجربة كسب لقمة العيش بالطريقة نفسها لهذه الفئات، وركوب نساء اللجنة في شاحنات عاملات الضيعات الفلاحية والعيش وسطهن، ليل نهار، طيلة شهر، والدردشة العميقة كل ليلة مع شباب ومراهقي هذه الفئات لتدبيج تقرير بعد هذا المسح بتقنية «السكانير». وهي تجربة تصلح لصقل قريحة كل المسؤولين، لأن صلب مشكلاتنا قد لا يكون في الخطط والاستطلاعات، بقدر ما هو في القريحة وفي درجة الإيمان بالمسؤولية. ويبقى هذا مجرد رأي تكفله حرية التعبير، وليس حكما مسبقا لا على اللجنة ولا على المشروع المنتظر.
لقد تحول مكيف الهواء إلى ضرورة وليس مجرد كمالية من الكماليات في بعض مدن المغرب، حتى لدى الطبقات الاجتماعية، ومع زحف الانهيار المناخي سيتفاقم الوضع أكثر، لذلك وجب التنبيه رغم فشل سابق التنبيهات حول الحدائق العامة وتصميم الشقق، إلى ضرورة أن تتخذ قوانين البناء إجراءات جديدة في معايير البناء، بالنسبة لبعض المدن وتدابير أعلى لمدن أخرى حسب الموقع الجغرافي، حيث ستحتاج المدن الداخلية بعد تحديد سمك جديد للحائط الخارجي وفرض ازدواجيته إلى ضرورة ملء فراغه بمادة البوليستير جيدة العزل، فالسمك القانوني الحالي للحيطان لن يكون كافيا لعزل درجات الحرارة والبرودة المنتظر ارتفاعهما هذا القرن، فزيادة سمك الحائط والزيادة أيضا في ارتفاع السقف داخل الطابق العلوي لفتح المجال لتثبيت سقف عازل، ضرورة ملحة وخطوة تعتبر اليوم متأخرة ولها ثمن، ولن يتوخى منها خفض الفاتورة الطاقية، بل فقط التحكم فيها حتى لا تنفجر في وجه الدولة وفي وجه الأسر لاحقا، وحتى لا يزداد ضغط الطقس على باقي الضغوط داخل البيوت؛ خاصة وأن تطبيق مثل هذه المعايير لا يؤثر كثيرا في الكلفة الإجمالية لأشغال البناء، وتبقى القضية هي قضية وعي ومسؤولية. حيث سيكون من المجدي فتح دورات تكوينية للمقاولين وللبنائين، وبث وصلات إعلامية للتعريف بالفوائد الحيوية لمثل هذه الخيارات وضرورتها القصوى، ولم لا توجيه الأمهات أيضا لرفع القداسة عن صالون الضيوف، قداسة يحرم بسببها الأطفال من أحد أهم عوامل التوازن النفسي وهو الخصوصية. كما أن قضية الحدائق تقف منذ زمن على حل حقيقي يكسر رتابة هذه المدن وقسوتها على من لا يملكون لا ميزانية للسفر ولا سيارة ولا قدرة على ولوج الأندية ولا المسابح.. ممن تكلم الجميع باسمهم دون أن تصيب وصفتهم نواة الداء الذي يتعايشون معه. فأين كان انتباهنا وقت التخطيط لهذا التوسع العمراني؟ وما مدى بعد الرؤية حين نغفل ملاءمة قوانين البناء لأبسط حاجيات الحاضر والمستقبل؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى