شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

معارك أجدادنا المنسية في رمضان.. أهمها عقوبات رجال المخزن والصراعات حول السلطة

«على امتداد قرون متواصلة، تناثرت فوق رقعة التاريخ شظايا معارك طاحنة خلال شهر رمضان، ومصالحات احتُرمت فيها قدسية شهر الصيام.

وبين هذه وتلك، سُجلت أحداث كثيرة من تاريخ المغرب، باختلاف سياقها وأسبابها، تزامنت مع شهر الصيام، وتحركت خلالها أقلام المؤرخين، لتسجيل وتوثيق ما وقع من أحداث خلال شهر رمضان، قبل مئات السنين..».

 

يونس جنوحي

 

رسائل رمضانية قاسية لكسر شوكة رجال «المخزن»

 

«وبعد،

فقد عينا حامله الأمين الطالب محمد التازي الرباطي للوقوف على مستفاد منافع فاس ومكسها وترتيب أمورها على ما ينبغي، لما نعرف فيه من الحزم والضبط. وقصرنا أمورها كلها على نظره ليريحك في كلفتها، مثل ما كان فعل مولانا المقدس بالله بمراكش من تكليف الأمين الرباطي بها، فانضبط أمرها على يده بسبب ذلك.

وقد جعلنا له النظر في جميعها، سواء في ذلك الأبواب والأسواق وفندق الجلد وغيرها. بحيث من استحسن إقراره على الجلوس بمحل من تلك المحال يقدر، ومن أراد عزله وإبداله يعزل ويبدل بغيره. وهو يتولى محاسبتهم وحيازة ما يتحصل منها ورفعه لأمناء دار عديل، فنأمرك أن تسند له ذلك كله وتشد عضده عليه ولا بد. وعين له محلا بدار عديل يكون يجلس به وينزل به ما قبضه».

هذه الرسالة، صدرت عن المولى محمد الرابع، ويعود تاريخها إلى رمضان سنة 1862، ويظهر من لغتها أن المولى محمد الرابع لم يكن راضيا عن أداء بعض موظفي المخزن، خصوصا في الإدارات المكلفة بجمع الضرائب في الموانئ، فباشر عددا من الإصلاحات، رغم أنه كان شديد المرض.

رمضان لتلك السنة كان مناسبة أحدث فيها السلطان محمد الرابع زلزالا من التعيينات الإدارية، إذ سرّح أعوان المخزن في عدد من الموانئ، وأدّب آخرين بنقلهم إلى مناطق أخرى، وعيّن آخرين في مناصب المسؤولية.

والسبب أن شكايات كثيرة وردت على محمد الرابع يشتكي أصحابها من فساد بعض أعوان المخزن وكبار موظفي الموانئ المغربية والعاملين في الضرائب، فباشر السلطان عددا من الإصلاحات.

ونص هذه الرسالة كاملة يوجد في أرشيف وثائق عائلة التازي المخزنية.

سبق أن تناولنا في أكثر من مناسبة موضوع الرسائل المخزنية الصارمة في تطهير «دار الضريبة» المغربية، وطرق تدخل المخزن لإصلاح الإدارة عبر التاريخ.

إذ إن السلطان محمد بن عبد الرحمن كان يقوم بجولة في عدد من المناطق للوقوف على حاجات الناس وتفقد شؤون الدولة، واسترعى انتباهه ورود شكايات كثيرة إليه بخصوص بعض المسؤولين الكبار في جهاز المخزن، والذين كانوا محسوبين على وزراء في القصر. وبالتالي فإن الشكايات التي تُرفع إليه بشأنهم قلما تجد طريقها إليه.

وفي تلك الجولة تعرض له عدد من المشتكين وطلبوا منه أن ينصفهم، وكان أغلبهم من التجار، حيث اشتكوا إليه من «بطش» بعض جامعي الضرائب واحتكار بعض التجار من أصدقائهم للتجارة واستقوائهم عليهم.

وهنا قام محمد بن عبد الرحمن بإرسال رسائل نارية إلى مسؤولين في القضاء والضرائب ووبخهم، لتكون تلك الرسائل من أكثر الوثائق التي خلفها هذا السلطان العلوي أهمية، قبل وفاته.

السر وراء صمود هذه الوثائق كل هذه السنوات، أن بعض العائلات المخزنية احتفظت بها في أرشيفها الخاص، سيما عائلة الأمين محمد التازي الذي كان مقربا جدا من المولى عبد الرحمن، ثم ابنه محمد الرابع.

وهذا الأخير احتفظ في خزانته الخاصة التي وصلت إلى ورثته، ومنهم إلى المؤرخ المغربي عبد الهادي التازي، بمئات المراسلات بينه وبين السلطان، حيث عهد إليه بالقيام بعدد من الإصلاحات وعقاب عدد من المسؤولين المغاربة إما بعزلهم نهائيا والتزام بيوتهم إلى أن يحين أجلهم، وهي العبارة التي وردت حرفيا في جل رسائل السلطان الذي قرر تأديب كل المسؤولين موضوع تلك الشكايات التي حُجبت عنه، والذين ثبت فعلا أنهم متورطون في تلك الممارسات، حيث حكم عليهم باعتزال مناصبهم وتسليم كل المسؤوليات التي عهد إليهم السلطان بها.

وهكذا كان أغلب المعزولين قد قرروا التزام منازلهم من تلقاء أنفسهم، حتى لا يصبحوا مادة للتشفي بين الناس، ومنهم من تم إبلاغهم بعدم مغادرة أماكن سكنهم في حصار لهم استمر لسنوات.

عفا المولى محمد الرابع، في سنوات حكمه الأخيرة، عن عدد من الموظفين المخزنيين الذين عاقبهم، خصوصا وأن قصص بعضهم صارت مضرب المثل في النهايات السيئة لموظفي المخزن الذين استغلوا مناصبهم. وبعد وفاته سنة 1873، بقيت قصة «الحملة التطهيرية» التي هندسها المولى محمد الرابع في رمضان سنة 1862، مضرب المثل لسنوات.

 

عندما غدرت قبيلة آيت سخمان ببعثة السلطان في عز رمضان

في رمضان لسنة 1888، خرج السلطان المولى الحسن الأول على رأس جيش، من مدينة مكناس، ليغزو به قبائل «فازاز» في منطقة صنهاجة. وهي المنطقة التي تضم قبائل كثيرة، بينها قبيلة تُسمى آيت سخمان.

أظهرت هذه القبائل احتفالا كبيرا بالسلطان، وهكذا تقرر ألا تجري أية معركة لإخضاع هذه القبائل، سيما وأنهم احتفلوا بموكب السلطان وأظهروا الطاعة.

لكن أفراد قبيلة آيت سخمان طلبوا من السلطان أن يبعث معهم طائفة من الجيش لكي يدفعوا له المؤن والهدايا. حكى المؤرخ الناصري هذه الواقعة في مرجعه، «الاستقصا»: «فَأرْسل مَعَهم السُّلْطَان مِائَتي فَارس وَعقد عَلَيْهِم لِابْنِ عَمه الشريف الْفَاضِل الناسك مولَايَ سرُور بن إِدْرِيس بن سُلَيْمَان، وجده سُلَيْمَان هَذَا هُوَ أحد مُلُوك هَذِه الدولة العلوية حَسْبَمَا تقدم، فَلَمَّا توسطوا حلَّة آيت سخمان مَعَ الْعشي تناجوا فِي مَا بَينهم والشيطان لَا يفارقهم فاتفقوا على الْغدر بأصحاب السُّلْطَان وفرقوهم على مداشرهم وحللهم، فَلَمَّا كَانَ وَقت الْعشَاء الْأَخِيرَة أظهرُوا عَلامَة بَينهم وسعت كل طَائِفَة إِلَى من عِنْدهَا من أَصْحَاب السُّلْطَان فأوقعوا بهم، فَقتلُوا مِنْهُم نَحْو الْعشْرين على مَا قيل وأفلت الْبَاقُونَ بجريعاء الذقن، وَكَانَ فِيمَن قتل مِنْهُم كَبِيرهمْ الشريف مولَايَ سرُور الْمَذْكُور وَكَانَ من خِيَار عشيرته رَحْمَة الله عَلَيْهِ، رَمَوْهُ برصاصة وطعنوه بتفالة، وَكَانَت هَذِه الفعلة الشنعاء بِإِشَارَة كَبِيرهمْ عَليّ بن الْمَكِّيّ من بَقِيَّة آل مهاوش، الَّذين تقدم الْخَبَر عَنْهُم فِي دولة السُّلْطَان مولَايَ سُلَيْمَان رَحمَه الله، ثمَّ أَسرُّوا من ليلتهم تِلْكَ فَلم يصبحوا إِلَّا بآيت حديدو، فَقبض عَلَيْهِم من الْغَد وَضربت أَعْنَاقهم. وَقَالَ بعض من حضر الْوَقْعَة إِنَّهُم لما فعلوا فعلتهم هربوا من تَحت اللَّيْل وَتركُوا زُرُوعهمْ وأمتعتهم فِي مداشرهم، وَلما انْتهى الْخَبَر إِلَى السُّلْطَان بعث فِي طَلَبهمْ طَائِفَة من عسكره وَضم إِلَيْهِم خيل شقيرين إخْوَانهمْ وَكَانُوا راكبين مَعَ السُّلْطَان مظهرين للطاعة، فانتهبوا أمتعتهم وانتسفوا زروعهم وهدموا أبنيتهم وحرقوا بُيُوتهم».

 

++++++++++++++++++

الكَرني.. القائد الذي أخلى العرائش سنة 1610 لكي يحتلها الإسبان والناس صيام

عندما فر المأمون من العرائش إلى إسبانيا لكي يتحالف مع ملكها ضد أخيه السلطان زيدان، كان قد اتفق هناك مع الإسبان على أن يترك لهم مدينة العرائش ويخليها من السكان لفائدتهم، إن هم تحالفوا معه ضد أخيه. وفعلا كان له ذلك، حسب ما جاء في «الاستقصا»، أهم مرجع في التاريخ المغربي.

عندما وصل الخبر إلى فاس، خلقت حالة استنفار خوفا من المأمون، فتقرر إرسال وفد من الأعيان لاستقباله في العرائش فور وصوله إلى المغرب، حتى لا يطال انتقامه مدينة فاس.

كان المأمون قد اتفق مع ربان السفينة، على أن يضرب بالمدافع فور وصوله إلى مياه العرائش، لكي يُري للمغاربة مقدار القوة العسكرية التي تحالف معها ضد أخيه. جاء في «الاستقصا» في ذكر ما قام به المأمون عند وصوله إلى العرائش: «وَأمر قبطانَ النَّصَارَى أَن يخرج مدافعه وأنفاضه إرهابا وإظهارا لقُوَّة النَّصَارَى الَّذين استنصر بهم، فَفعل حَتَّى اصطكت الآذان وارتجت الْجبَال وَنزل القبطان من السَّفِينَة للسلام على الْأَعْيَان فَلَمَّا رَأَوْهُ مُقبلا أَمرهم الشَّيْخ بِالْقيامِ لَهُ، فَقَامُوا إِلَيْهِ أَجْمَعُونَ وجازوه خيرا على مَا فعل مَعَ الشَّيْخ من الْإِحْسَان والنصرة، وَسلم هُوَ عَلَيْهِم بِنَزْع قلنسوته على عَادَة النَّصَارَى، وَأنكر النَّاس على أُولَئِكَ الْأَعْيَان قيامهم للْكَافِرِ وضربوا بعصا الذل، حَتَّى أَنهم فِي رجوعهم إِلَى فاس تعرض لَهُم عرب الحياينة فسلبوهم وَأخذُوا مَا مَعَهم وجردوهم من ملابسهم جَمِيعًا، مَا عدا القَاضِي ابْن أبي النَّعيم فَإِنَّهُ عرف بزِي الْقَضَاء فاحترموه. ثمَّ إِن الشَّيْخ انْتقل إِلَى الْقصر الْكَبِير وَهُوَ قصر كتامة وَقصر عبد الْكَرِيم، فَأَقَامَ بِهِ مُدَّة وراود قواده ورؤساء جَيْشه أَن يقفوا مَعَه فِي تَمْكِين النَّصَارَى من العرائش، ليفي لَهُ الطاغية بِمَا وعده من النُّصْرَة، فَامْتنعَ النَّاس عن إسعافه».

المثير أن السكان عندما امتنعوا عن إسعاف المأمون، لم يتحالف معه سوى القائد الكَرني الذي كان في الأساس تابعا له.

وفعلا ذهب القائد الكَرني لكي ينفذ مهمة إخلاء العرائش، وعندما أعلنوا أمامه أنهم يرفضون المغادرة، نشبت معركة كبيرة انتصر فيها القائد على سكان المدينة.

عندما أصبح الكَرني مسيطرا على مدينة العرائش، كان وقتها شهر رمضان على الأبواب، فكانت تلك الأيام عصيبة على النازحين.

بقي القائد الكَرني مقيما في العرائش الخالية، إلى أن دخلها الإسبان في اليوم الرابع من رمضان واستولوا عليها رسميا.

تزامن احتلال العرائش مع شهر رمضان، تسبب في إعلان حالة من السخط في مدينة فاس، وقاد علماؤها حملة من الخطب والمواعظ لحث الناس على الجهاد وتطهير المدينة من الإسبان. وما يسجله التاريخ أن أحد كبار مشايخ فاس، وهو الشريف أحمد بن إدريس العمراني، هو الذي كان يطوف على مجالس علماء فاس ويدعوهم إلى الجهاد والخروج لإغاثة مُسلمي العرائش. إلا أن أحد القواد، واسمه «القايد حمو» هو الذي تدخل وصد حملة الجهاد التي لم يُكتب لها أن ترى النور، لكي يكون شهر رمضان لهذه السنة، الموافق لـ 1610 ميلادية، إحدى أشد المناسبات الدينية على المغاربة.

 

 

عندما صالح المولى إسماعيل ابن أخيه «المتمرد» بفضل «رؤيا» رمضانية

هذا السلطان الذي حكم المغرب ما بين سنتي 1672 و1727، وكانت فترة حكمه واحدة من أكثر الفترات السياسية إثارة في تاريخ المغرب، اشتهر بتعدد الجبهات التي فتحها لتثبيت الحكم ومواجهة التحديات الخارجية. نُسجت عنه الأساطير والحكايات، ووصف بأنه أقوى من حكم البلاد.

كان المولى إسماعيل يقرب منه بعض الناس، ويلازمونه خلال مقامه بالقصر الذي اتخذه مركزا للسلطة.

ويورد المؤرخ المغربي الناصري، في مرجع «الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى»، حديثا لأحد الذين كان يثق فيهم المولى إسماعيل، جاء فيه: «حدثني بعض الثقات أن السلطان المولى إسماعيل رحمه الله أعياه أمر ابن أخيه المذكور، فأصبح ذات يوم دهشا كئيبا فقال لوزيره العباس المحمدي إني رأيت في هذه الليلة رؤيا أخزتني إلى الغاية. فقال: وما هي يا مولانا؟ وعسى أن تكون خيرا. قال: رأيت كأن هؤلاء الجنود الذين معنا ما بقي منهم أحد ولم يبق إلا أنا وأنت متخفين في غار مظلم. فسجد الوزير شكرا لله، وقال له: أبشر يا مولانا فقد نصرنا الله على هذا الرجل. فقال له السلطان: ومن أين لك ذلك؟ فقال له قوله تعالى: ثاني اثنين إذ هما في الغار، إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا.. فما ظنك باثنين الله ثالثهما. فسرّ السلطان بذلك غاية السرور وانسرى عنه ما كان يجده من الغم، وعلم أن رؤياه بشارة من الله تعالى له، وعلى إثر ذلك وقع الصلح بينهما في رمضان ورجع السلطان إلى حضرته..».

هنا جانب خفي من شخصية المولى إسماعيل الذي تواترت عنه حكايات كثيرة في كتب التاريخ عن شدة العقوبات التي أنزلها بمن خالفوه أو خرجوا عن طاعته، حتى لو كانوا من مقربيه. ولم يكن يميز في عقابهم بين الوزير والخادم. إذ إن عقاب المولى إسماعيل شمل أبناءه أيضا، وتؤكد الروايات التاريخية أنه أمر بشن حرب ضد أكبر أبنائه، لأنه تمرد عليه عندما ولاه على منطقة سوس، وأرسل إليه أخا له لكي يؤدبه. وما زالت رسائل المولى إسماعيل إلى أبنائه مرجعا تاريخيا لفهم شخصية المولى إسماعيل. ولم يتردد في كسر شوكة المنافسين الذين كانوا يريدون الاستئثار بالحكم لأنفسهم على مناطق المغرب، وكان شهر رمضان شاهدا على عدد من المواجهات التي أدّب فيها المولى إسماعيل المتمردين ضده، فكان أن أرسل إليهم جيوشا لتصفيتهم وإخضاع رجالهم ليعودوا إلى حضرة السلطان. بينما كان الصلح حلا وسطا في حالات كثيرة، على رأسها هذه الحالة التي أوردها الناصري في كتابه، والتي تصالح فيها السلطان مع ابن أخيه في عز شهر الصيام.

 

 

عفو المولى الحسن الأول عن المتمردين خلال شهر الصيام

كان معروفا عن المولى الحسن الأول، الذي لم يرث الحكم على طبق من ذهب، أنه كان دائم السفر لتفقد مناطق المغرب كاملة، حتى أنه وصل إلى أقاصي الصحراء وبايعته قبائلها وصولا إلى موريتانيا والسينغال قبل وفاته سنة 1894، حتى أنه اشتهر في كتب التاريخ أن عرشه كان فوق صهوة جواده، في إشارة إلى كثرة تنقلاته خارج قصر فاس أكثر من مكوثه داخله، ولم يكن يثنيه حلول شهر رمضان عن استئناف سفرياته، رغم مشاق السفر وقتها وصعوبته، خصوصا وأن شهر رمضان تزامن مع شدة حرارة الصيف في كثير من المناسبات.

أحد التدخلات التي قام بها المولى الحسن الأول في نواحي فاس، والتي تزامنت مع شهر رمضان، إخماده للتمرد الذي أعلنته بعض الزوايا، وكان حلول شهر رمضان سببا في ألا تقع أية مواجهات دموية بين جيش السلطان والمتمردين، إذ سرعان ما طُوي الخلاف بإعلان المتمردين عن عودتهم إلى حضرة السلطان، بمجرد ما أن وصلهم خبر قدومه إلى المنطقة.

إذ كان معروفا عن المولى الحسن الأول أن جيشه كان يتبعه، لكنه كان يفضل أن يتحرك مع حاشيته ومرافقيه، ولقاء زعماء القبائل وحل المشاكل في مختلف الأقاليم بدون أن ترافقه وحدات الجيش التي لم تكن تتدخل إلا في الحالات التي تعلن فيها القبائل تمردها التام ضد الدولة.

استحضر السلطان الحسن الأول حرمة شهر الصيام خلال سنوات حكمه، حتى أنه كان مناسبة لفتح عدد من المساجد في مدن تاريخية.

إذ كان المولى الحسن الأول دائما يسعى إلى ترسيخ العادة المغربية التي تكررت في أكثر من مناسبة تاريخية. مثلا، مسجد القرويين المعظم، الذي تأسس ليصبح قلب جامعة القرويين، أول جامعة في التاريخ، تأسس خلال شهر رمضان. ومساجد أخرى إما تأسست في رمضان، أو بدأت أشغال تشييدها في شهر رمضان بأمر من سلاطين الدولة العلوية على وجه الخصوص.

وهكذا فقد تكررت المناسبات التي خرج فيها المولى الحسن الأول، بالتزامن مع شهر رمضان، لتفقد أحوال الدولة وحل النزاعات. إلى درجة أنه كان يؤجل، كما وقع في فاس سنة 1889، استقبال الوفود الأجنبية التي تتزامن زيارتها إلى المغرب مع شهر رمضان، إلى أن تنتهي طقوس الصوم. إذ حل وفد من بريطانيا للقاء المولى الحسن الأول بهدف توقيع اتفاق مع المغرب، لكن الوفد البريطاني ظل في طنجة، في مقر المفوضية البريطانية، في انتظار وصول رسالة من فاس تحدد موعد الاستقبال في القصر الملكي، وفهم الدبلوماسيون الأجانب سريعا أن المولى الحسن الأول لم يُرد استقبالهم في شهر رمضان، وأرجأ التواصل معهم إلى ما بعد عيد الفطر.

قدسية شهر الصيام عند المولى الحسن الأول تجاوزت عدم استقباله وفدا دبلوماسيا رفيعا تزامنا مع رمضان، بل بلغت أنه عفا عن المتمردين ضد «المخزن» عندما عرضت عليه قضيتهم في شهر رمضان، وأطلق سراحهم رغم التهديد الذي كانوا يمثلونه على القواد وممثلي المخزن في مختلف الأقاليم. إذ كان الامتناع عن أداء الضرائب للدولة، أخطر أنواع العصيان في المغرب، ولولا تزامن بعض وقائعه مع شهر رمضان، لما عفا السلطان المولى الحسن الأول عن المتمردين.

 

 

 

عندما حارب العبيدُ الصائمون لكي يعود المولى عبد الله للحكم

كان رمضان لما بين سنتي 1741 و1742 استثنائيا بكل المقاييس، بل إن الذين عاشوه لم ينسوه طوال حياتهم.

إذ تزامن شهر الصيام في تلك السنة مع زوبعة سياسية كبيرة عاشها المغرب.

ما حدث أن المولى عبد الله وأخوه المولى زين العابدين، كانا على خلاف كبير. ولم يكن تفصل بينهما سوى مسافة قصيرة بين فاس ومكناس.

وجاء في كتب التاريخ أن المولى زين العابدين، والذي لم يحكم المغرب إلا لفترة قصيرة، استقر في مكناس وأراد أن يخرج منها لإخضاع فاس. إذ إن سكانها تخلفوا عن بيعته ولم يُخفوا أنهم يناصرون أخاه السلطان مولاي عبد الله.

قبل حلول شهر رمضان، جرت تطورات سياسية كبيرة، إذ إن الجيش الذي اتخذه المولى زين العابدين لكي يحاصر به فاس ويخضعها عرف انشقاقا حادا، إلى درجة أن العبيد الذين كان يتشكل منهم هذا الجيش قرروا أن يجمعوا أغراضهم ويرحلوا عن فاس ويتجهوا صوب مكناس وامتنعوا عن المشاركة في الحرب. لكنهم، وخلال عودتهم إلى مكناس، أحرقوا مزارع كثيرة ودمروا المحاصيل.

كان المولى عبد الله وقتها قد رحل صوب الجبال، وعندما علم بخبر تمرد العبيد ضد أخيه زين العابدين، قرر العودة إلى «دار الدبيبغ».

وعندما علم جنود جيش العبيد بخبر عودة المولى عبد الله، بعثوا إليه في منتصف رمضان وفدا كبيرا من قوادهم ومن يمثلهم، وأخبروه بأنهم خلعوا المولى زين العابدين وبايعوه. وزُينت مدينة فاس في أيام شهر رمضان لاستقبال المولى عبد الله. وتَذْكُرُ كتب التاريخ أن الاحتفالات استمرت شهرين بعد رمضان احتفالا بالمولى عبد الله في مدينة فاس.

بالعودة إلى الوقائع والأحداث، فقد كان وراء تمرد العبيد ضد المولى زين العابدين أسباب كثيرة، أهمها أن تزامن معركة فاس مع اقتراب شهر رمضان، جعل أغلبهم يعدلون عن قرار دخول المدينة. لأن غزو فاس وقتها كان يعني سقوط أعداد كبيرة من القتلى. وكان علماء القرويين قد حذروا مرات كثيرة من عواقب «الفتن» الداخلية.

والدليل على أن العبيد كانوا يتجنبون وقوع القتال في رمضان، أنهم فور مبايعتهم للمولى عبد الله والاحتفال بجلوسه على العرش لأشهر في فاس، سرعان ما تمردوا ضده بعد مدة قصيرة. والسبب أن السلطان مولاي عبد الله قرر عدم الاستقرار بين العبيد في مكناس، رغم أن قصر المدينة كان أحد مظاهر قوة حكم الدولة العلوية، بعد أن شيده عبيد المولى إسماعيل وآلاف الأسرى الأوروبيين. وترك المولى عبد الله كل مظاهر القوة، وانتقل للاستقرار في «دار الدبيبغ» بعيدا عن مكناس.

ولما طالت مدة مكوثه خارج مكناس، تمرد العبيد ضده، وحاولوا استمالة المولى المستضيء الذي كان يقيم في مراكش، وعرضوا عليه أن يُبايعوه سلطانا للمغرب.

لم يقف المولى عبد الله مكتوف اليدين، بل نهض ليجمع كلمة القبائل، وبايعوه، عربا وأمازيغ، على نصرته. وهكذا عندما وصل أخوه المستضيء إلى مكناس مدعوما من مراكش، اكتشف أنه لا قبل له بمواجهة كل القبائل التي كانت في صف أخيه المولى عبد الله، وعاد أدراجه ليلا بعد أن أيقن أنه لن يستطيع مواجهة جيش أخيه.

عبيد مكناس الذين بايعوا المولى عبد الله لكي يحكم المغرب في شهر رمضان، هم أنفسهم من تمردوا عليه، شهرين فقط بعد رمضان، وهو ما يؤكد أن القرار «السياسي» الذي اتخذوه كانت تتحكم فيه إملاءات دينية، حيث فضلوا عدم القتال في شهر رمضان، لكنهم سرعان ما عادوا إلى عادة «التمرد» بعده.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى