شوف تشوف

معانا ولا معاهم 2.2

 

 

 

لا أستطيع أن أتفهم هذه الثقافة المغربية التي تكره النجاح والناجحين، التي ورثناها عن الفرنسيين شأنها شأن البيروقراطية والفساد الإداري، عكس ما يحدث عند الأمريكيين الذين يقدسون الناجحين ويتخذونهم أمثلة يحتذون بها.

ولذلك، فحذار من أن تتحول حملة المقاطعة من فكرة نبيلة إلى حملة ضد بعض الأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال، فننتهي إلى ما انتهت إليه تونس عندما فرت منها رؤوس الأموال والاستثمارات بسبب استعداء النقابات للعمال ضد مشغليهم، فأصبحت تونس تعرف فورة في تأسيس الأحزاب والجرائد والقنوات وانقراضا منقطع النظير لفرص الشغل.

وفِي النهاية، فالشعب لا يعيش بخطابات وشعارات الأحزاب الرنانة بل بالخبز أساسا، والديمقراطية وحرية التعبير ليستا سوى وسائل وليستا غاية في حد ذاتها، فالغاية من الديمقراطية وحرية التعبير هي تحقيق الكرامة للمواطنين، وبدون شغل ليست هناك كرامة ولا هم يحزنون.

وأنا هنا لا أدافع عن الأغنياء، فقد كنت أول مهاجمي بنكيران عندما أهداهم هدايا ضريبية وقال ضمن الجلسة الشهرية بمجلس المستشارين إن حكومته «جاءت لتسهيل الأمور على رجال الأعمال المغاربة، ولم تأت ضد مصالحهم الاقتصادية».

وكنت أول المطالبين بفرض ضريبة على الثروة، وضريبة على المظاهر الخارجية للثراء، وقلت بالحرف إنه إذا كان من حق الأثرياء أن يتبجحوا بثرواتهم وأن يلبسوا ساعات الماس والذهب، ويركبوا سيارات «الفيراري» و«لومبرغيني»، ويقيموا لأبنائهم الأعراس بمأكولات مجلوبة من الخارج، فإن من حق الدولة أن تردعهم بهذه الضريبة حفاظا على السلم الاجتماعي. «نتا إلى بغيتي تفطح تفطح مع راسك، ولكن خلص عليه، حيت التفطاح ديالك غادي يخلق ليا مشكل مع الشعب اللي ما لاقي حتى باش يكوي على الخلعة».

فالحقد الطبقي هو أحد أكبر أعداء الاستقرار في أي بلد، وعندما يشاهد نصف المغاربة الفقراء كل هذا النعيم الذي ترفل فيه حفنة من الأثرياء، دون أن يكونوا قادرين على تلبية مطالب أبنائهم الأساسية، فإن منسوب العنف يرتفع ويكثر معه السطو وسائر الجرائم.

عندنا في المغرب أصبح استفزاز الأغنياء للفقراء رياضة وطنية، فكل من استطاع أن يتسلق السلم الاجتماعي ونجح في التسلل الطبقي، يفكر أول ما يفكر فيه في استعراض ممتلكاته على الناس، وهذا ما يسمى الغنى الفاحش، وهذا الفحش يجب أن يتوقف، والطريقة الوحيدة لإيقافه هي فرض الضريبة عليه.

وبالعودة إلى القارئ الكريم الذي سألني «واش معانا ولا مع بوتسوانا؟»، أقول له إنني لم أكن يوما في صف الدفاع عن مستغلي المياه المعدنية لأغراض تجارية.

وإذا كُنتُم تذكرون عندما تم تفويت مياه عين بنصميم لشركة أجنبية لكي تستغلها وتبيعها على شكل مياه معدنية اسمها «عين إفران»، فقد كنت الوحيد الذي هاجم وزير الماء آنذاك الاتحادي محمد اليازغي الذي رخص بذلك مفضلا الدفاع عن مصالح الشركة عِوَض الطبقات الشعبية، وكان ذلك بعدما منحهم شباط، عمدة فاس الاستقلالي، الإذن بالاستغلال.

ولم نسمع يومها بأي احتجاج آخر عدا احتجاج سكان منطقة عين بنصميم الذين حرموا من عينهم الطبيعية.

وأذكر أنني الوحيد الذي انتقد ارتفاع أسعار المياه المعدنية، عندما اندلعت حركة عطشانين بسبب ندرة المياه في تاونات وغفساي وزاكورة ومناطق أخرى، وناديت بخفض أسعار هذه المياه المعدنية لكي تخفف من مأساة العطش.

«جي نتا اليوم سولني واش معانا ولا مع بوتسوانا».

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالدرس الأهم الذي يجب استخلاصه من حملة المقاطعة يخص السياسيين ومسؤولي الشركات الكبرى.

وقد أظهرت هذه الأزمة التي يمرون منها أنهم لا يفهمون شيئا في تقنيات التواصل وتدبير الأزمات.

ويمكن أن نقول إن أخطر ما شهدته حملة المقاطعة ليس الدعوة إلى المقاطعة نفسها، بل تصريحات المسؤولين التي ألقت الزيت في النار وألهبت مواقع التواصل الاجتماعي.

وقد سمعنا قريب عبد الإله بنكيران المدير بشركة «سانطرال» يتهم الداعين إلى مقاطعة حليبه بالخونة، وهو اتهام لو صدر عن مدير بشركة في دولة تحترم فيها حقوق المواطنين وكرامتهم لأجبر على تقديم استقالته على الفور، ولقدمت شركته اعتذارا لكل من شعر بأنه أهين جراء ما قاله مديرها.

أما بالنسبة لما قاله وزير المالية في البرلمان واصفا دعاة المقاطعة بالمداويخ، فلم يكن له صراحة أي داعٍ، وكان الأجدر بِه أن يترك التعليق على الموضوع للناطق الرسمي باسم الحكومة، الذي فضل الصمت والاختباء حتى تهدأ العاصفة.

ويبقى الموقف السياسي الجبان هو ذلك الذي عبر عنه رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران، والذي عِوَض أن يتحمل مسؤوليته السياسية بشجاعة ويقول إنه هو من تسبب في الزيادة في أسعار المحروقات بإلغائه لصندوق المقاصة وفتحه للأسعار على تقلبات السوق العالمية، فضل أن يقول إنه يتفهم مقاطعة محطات «أفريقيا»، لكنه لا يتفهم مقاطعة الماء والحليب، علما أنه طالب شخصيا سنة 2014 عندما كان رئيسا للحكومة بمقاطعة منتجات شركة «دانون» بسبب الأسعار.

الدرس الثالث الذي يجب استخلاصه من حملة المقاطعة هذه، هو ضرورة طرح سؤال العادات الاستهلاكية للمغاربة وتلاعب لوبيات شركات المواد الغذائية بصحتهم وجيوبهم هنا والآن.

فالمغاربة تعلموا عادات استهلاكية سيئة في أكل الأطعمة السريعة والمشبعة بالمواد الحافظة والمصنعة. وأصبحنا نرى مئات الآلاف من الشباب الذي يشتغل طوال النهار في الشركات والمقاولات، يعيش على رايبي جميلة وطونيك أو ميريندينا وكانيط كوكا كولا.

وأمام أبواب المدارس والثانويات يتسمم التلاميذ يوميا بشيبس وسندويتشات محشوة بمواد لا يعرفون مصدرها.

كما أن التطور الذي عرفته علاقة المغاربة بالحليب، والذي وصل اليوم إلى التوتر، يجب أن يوضع في سياقه التاريخي.

فالحليب الذي نشربه اليوم لا علاقة له بحليب الأمس.

فقد عشنا في الثمانينات العصر الذهبي للحليب حيث كانت كرطونة حليب «سانطرا» عندما تفرغها الوالدة في الإبريق تقوم بيننا نحن معركة شرسة من أجل الظفر بعلبة الحليب، وسعيد الحظ الذي سيفوز بها يكون قد أعد للعملية شدقا من الخبز تحت إبطه سيطليه ببقايا الزبدة العالقة في جدران العلبة من الداخل.

كان الحليب في تلك الأزمنة حليبا وكانت الزبدة تطفو على سطحه عندما تسكبه طريا، أما عندما تغليه فقد كانت الزبدة تتحول إلى كلكولة تطفو فوق سطح الكأس.

عندما كان مالين الدار يطلبون منك الذهاب للدكان لاقتناء حليب «سانطرا»، فهذا يعني أن الضيوف جاؤوا أما «دانون» فهذا يعني أن شخصا مريضا في العائلة وأما البنان فقد كان امتيازا.

اليوم هناك عرض متنوع لكن تبقى الجودة سؤالا مطروحا. ولو أن المغاربة كانوا يقرؤون واطلعوا على كتاب

Lait, mensonges et propagande  لقاطعوا تناول الحليب ومشتقاته طوال حياتهم، لأنهم سيطرحون سؤال الحليب في علاقته مع الصحة والأمراض التي يعانون منها.

وعندما كنّا أطفالا كانت جميع المأكولات التي تباع أمام أبواب المدارس طبيعية وصحية ومغذية.

كان لديك الاختيار ما بين طايب وهاري سواء الحمص أو الفول، مع الملح والكامون وجرعات من البلول الساخن الذي كان بمثابة السيرو الذي يقاوم البرد ويزيل السعال.

كان بائع التقاوت يحرص على عرض صحنه المصنوع بمواد طبيعية وإلى جانبه بائع حلوى العود التي عندما تأكلها تعثر داخلها على تفاحة أو برتقالة صغيرة.

اليوم يعيش أطفال المدارس والثانويات على أكياس شيبس التي ترسلهم إلى المستعجلات، ويدمنون على اقتناء حبوب «قاقا» المخدرة وجميع أنواع القرقوبي المتوفرة بأسعار تنافسية من طرف عصابات تخلق الطلب والسوق وتوفر العرض.

وإذا كانت هناك من حملة مقاطعة يجب أن تنظم في المغرب فهي حملة مقاطعة المخدرات بكل أنواعها، والتي تدمر شبابنا وتهدد مستقبل البلد. فهل من دعوة إلى مقاطعة هذه السموم؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى