شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

من العبيد إلى الخدم.. حكايات صادمة عن نظام العبودية

الكتاب «لو تكلمت حيطان فاس-9-

 

مقالات ذات صلة

حتى مطلع القرن العشرين، كانت ظاهرة العبيد لا تزال مستشرية في المشهد المجتمعي المغربي، لكن نظام العبودية المغربي المدان هذا، كان ينفرد ببعض الخصوصيات، مقارنة بما كان يجري بمناطق أخرى من العالم.

خالد فتحي 

 

الناس الذين جرى استعبادهم

بصفة عامة، أثبتت لي الأبحاث التي أنجزتها في أوساط المجتمع التقليدي بمدينة فاس، أن هؤلاء الأشخاص المستعبدين كانوا في الغالب يحظون باحترام كامل داخل الأسر التي ينتمون إليها، وأنه قد كان بمقدور الإماء منهم أن يكتسبن صفة الزوجات، وأن يُعترف لهن بالأبناء الذين ينجبنهم من سيدهن كأبناء شرعيين مثلهم مثل أبناء الحرائر. وقد كان هؤلاء الأبناء المنحدرين من العبدات يتزوجون فيما بعد دون أن يصيبهم تمييز أو وصم. وكان اندماجهم في النسيج الاجتماعي يتم عبر المصاهرات المرتبة المنتشرة بكثرة آنذاك. ورغم كل هذا، ظل العبد دائما شخصا تكاد لا تراه العيون في مجتمعنا، إذ حتى بعد عتقه، كان لا يتخلص من الوصم، ويبقى نهبا طوال حياته للذكريات الأليمة التي رافقت تجربة اختطافه وبيعه في الأسواق.

وبما أن أمي كانت قد تعرفت على لفيف من العبيد الذين عاشوا تحت نفس السقف مع جدتها للا السعدية المراكشي العلمي وجدها الأمين بن علال، فقد كان بوسعها أن تحدثني عن الظاهرة كشاهدة اتسمت دائما بقوة ودقة ملاحظتها، فضلا عن رهافة إحساسها ونبلها الإنساني. كان من ضمن ما قالته لي: «رغم أن الإماء كن يرقين إلى مرتبة الزوجات مباشرة بعد وضعهن مولودا لسيدهن، إلا أن وصم العبودية كان يرافقهن مدى الحياة. لا يمكننا إلا أن ندين أولئك النخاسين الأنذال الذين تسببوا في هذه الجرائم الفظيعة ضد الإنسانية. صحيح أن أولئك الإماء اللائي عشن في كنف جدي كن عضوات كاملات العضوية في العائلة، لكن لا شيء كان بإمكانه أن يعوضهن عن سنوات المعاناة الطويلة التي كابدنها، أو يمحو في نفوسهن ألمهن الدفين».

كنت قد أثرتُ هذه القضية لأجل نقاشها على منصة فيسبوك، ووجدت أن الغالبية العظمى من المعلقين تشجب أي استغلال من الإنسان لأخيه الإنسان، في حين أن أقلية معدودة جدا، ارتأت أنه لا ضير في وجود دادة بالأسرة، ما دامت تلك الإماء محبوبات ومحترمات من طرف أفرادها. بعض المشاركين حاول أن يطرق الموضوع من زاوية ظهور أنواع جديدة ومقنعة للعبودية في العصر الحديث، بينما اعتبر بعضهم الآخر أن مجتمعنا، وإن حرم العبودية، إلا أنه لايزال في عمقه مجتمعا عنصريا.

كنت قد أنجزت تحقيقات داخل الأسر التي كانت تمتلك عبيدا، وقمت بتجميع عدد من الحكايات المختلفة التي استوفيتها أولا ثم قارعتها فيما بينها ثانيا قبل أن أخلص إلى هذه النتائج.

 

الدادة زيدي.. حكاية مأساوية

الحكاية الحزينة جدا لهذه الدادة معروفة بكل تفاصيلها لدى كل العائلة. وبما أنها لم تجرؤ كباقي العبيد على أخذ الكلمة خلال حياتها لتدين جهارا نظام الرق الذي ذاقت شروره، وخبرت ويلاته، فقد رغبت أن أتحدث الآن بالنيابة عنها، ولو أن ذلك قد تأخر عقودا بعد رحيلها. من المؤكد بداية أننا لن نستطيع أبدا أن نتقمص شخصية المظلوم، أو أن نحس إحساسا حقيقيا بآلام الآخر، ولن نعبر بكامل الصدق المطلوب، عن الشقاء والمآسي التي عاشها مثلما كان بإمكانه أن يفعل هو ذلك. لكني أحدس، أنني سأقربكم جدا من ظاهرة العبودية، كما جرت أطوارها على أرض الواقع.

عاشت ضرة جدتي هاته في طفولتها أحداثا صادمة… أحداثا تفوق طاقة الاحتمال عند بني البشر… أحداثا رهيبة، لا يمكن لها أن تنساها بالمرة. وقد لخصت مأساتها بهذه الكلمات: «أنا من أميرات مالي، ولدت كباقي الناس بين أحضان أسرة تتكون من أب وأم وإخوة. وكنا نحيا جميعا متآلفين متحابين داخل المجتمع الذي ولدت به وانتميت له. في يوم من الأيام، ابتعدت عن مكان إقامتي، رفقة صديقاتي، غير عابئة بخطورة الابتعاد عن محيط العائلة، كان ذلك دأب كل الأطفال من سني، ليتم اختطافي من قبل بعض المتربصين بنا. منذ تلك اللحظة الفارقة، التي أركبني فيها صائد الرقيق في لمح البصر أمامه فوق ناقته، وانطلق مسرعا بي لا يلوي على شيء، انقلبت حياتي رأسا على عقب». قلت لأمي ببراءة: «ألم يكن لها أن تصرخ وتطلب النجدة». أجابتني قائلة: «لقد خطر لي أنا أيضا هذا السؤال حين كنت طفلة في مثل عمرك، لكني لما أبديت لها الملاحظة نفسها، كان جواب دادة زيدي مقنعا جدا. قالت: «لقد أفقدتني المفاجأة القدرة على الكلام. كنت في كابوس لا أدري كيف أطبق علي. بقيت مذهولة مرعوبة أرتعش من الخوف، وقلبي يوشك أن يتوقف عن الخفقان. لازلت أعيش حتى الآن هول تلك اللحظات المرعبة. لقد نضبت دموعي منذ مدة بعيدة من شدة النحيب، ولم تعد لي دموع كي أذرفها. لقد مت من حينها، وأنا الآن أتظاهر أمامكم فقط بالحياة. لم أستوعب أني لن أرى عائلتي للأبد، إلا بعد أن توالت علي الأحداث والمصائب. كانت حكايتي وحكايات الصبيان والصبايا، الذين التقيت بهم في السجون التي تنقلنا بينها، متشابهة في قسوتها وفظاعتها. إحدى الفتيات روت كيف جرى انتزاعها ليلة زفافها من بين أهلها من طرف عصابة من المجرمين دون رحمة أو شفقة. كان كل ما قصته علينا في الأسر صحيحا، فنقش الحناء كان لا يزال يزين يديها وقدميها. تم إخفائي أثناء رحلة الاختطاف في مالي في أماكن لا أعرف اسمها إلى اليوم. كنا أسيرات نخضع لحراسة لصيقة، ولا نتلقى من الطعام إلا ما يسد رمقنا… لقد سامونا الخسف والهوان، وجعلونا نفقد كرامتنا نهائيا وإلى الأبد. كنا نتلقى معاملة أسوأ من معاملة القطيع. اغتصابهم لنا لعدة مرات كان شيئا عاديا. لقد دفنت هذه المأساة في أعماق الطبقات السحيقة لذاكرتي لمدة طويلة. لم يكن لي من خيار آخر سوى نسيان هذه الاعتداءات الجنسية، كي أتحمل البقاء على قيد الحياة. اعتقدت أحيانا كثيرة، أني تخلصت من ضعفي، وأني قد صرت امرأة قوية، لكن صور الأحداث التي عشتها، تعود ندية طرية، لتطفو على السطح مرة أخرى، كأنما قد حدثت البارحة فقط، فتذكرني بأن جرحي الداخلي، لا يزال ينزف بقوة، فأنا لازلت أرى إلى الآن، خيال تلك الوجوه المكفهرة، وأحس لليوم، لهيب تلك النظرات القاسية وهي تخترقني، فتطوح بي في صحراء المعاناة والألم في كل مرة أظن فيها أني قد استجمعت عزيمتي وتخلصت من ألمي».

 

ذاكرة الجسد لا تنمحي أبدا

استطردت دادة زيدي قائلة: «لا يمكن إلا أن نتأثر بشكل فظيع بحلقات المزاد العلني في أسواق النخاسة، في مراكش أولا، ثم في فاس ثانيا. كان المشترون يفحصونني بدقة وعناية، ويتلمسون كل أعضائي مثلما يتلمسون بهيمة في السوق. كانت الأسمال الممزقة التي تستر بعض مناطق جسدي الحميمية ترفع عني من غير حياء. لقد دققوا حتى في حالة أسناني. كنت أود لو أبصق في وجوه جميع أولئك الأجلاف، لكن لم أكن لأقوى على ذلك، وأنا بكل ذلك الضعف والهوان. لقد تمكنت المآسي التي مررت بها منذ اختطافي، من كسر كبريائي، بل لقد أوهنتني، وروضتني، حتى صرت مثل حيوان مدجن أليف». أضافت جدتي: «في فاس، كانت تجارة العبيد وتبادلهم يتمان في فندق البركة الكائن بحي القطانين، وبسوق الغزل أيضا».

كان جدي الأكبر لأمي، الحاج حماد ميكو، يحكي عن امتعاضه ونفوره من حلقات المزاد العلني تلك، وعن رفضه البات لاستعباد أولئك الناس المعوزين، لأن ذلك كان في رأيه مخالفا لمبادئ الدين ولقيم الإنسانية. حين تزوج للا مليكة بنت الأمين بنعلال قدمت إلى منزله مع الدادة، غير أن جدي الأكبر كان صارما، وقام بإرجاع الدادة من حيث أتت. لم يتفهم جدي لأمي، الذي اعتاد أن يعيش ببيته العشرات من العبيد آنذاك هذا الموقف الغريب بالنسبة إليه: لأن نظام العبيد حينها كان نظاما مقبولا ولو تم بغير ذلك قليل من الشجب. إذ بينما كان يعتبر أمرا عاديا لدى بعض العائلات، كان بعضها الآخر، يعبر عن وعي أكبر بقدسية قيمة الحرية لدى البشر، رافضا بشكل جازم استغلال الإنسان لأخيه الإنسان». حتى الزوجات الشرعيات كن يغضبن شديد الغضب من لجوء أزواجهن لشراء الإماء. كن يتحملن على مضض نزوات أزواجهن تلك. كان تسمية «الحريم» تأخذ كل معناها في بيوت الرجال المتحكمين الذين كانوا يضمون تحت جناحهم عددا لا يستهان به من النساء. كل النساء كن يحسبن تقريبا أو واقعيا ضمن فئة الرقيق، بما أن الكل كان يرزح تحت السلطة القوية لسيد البيت. كانت كل امرأة تعد من نساء الحريم، مهما كان وضعها الاجتماعي. لحسن الحظ أن البيوت التي كانت تعيش تحت نظام الحريم كانت قليلة في فاس.

كان كل عبد، وكل عبدة، يرتكب خطأ يوقع عليه العقاب من طرف عبد أو عبدة مثله أوكلت إليه هاته المهمة. حكى لي بعض الشيوخ من عائلتي عن حالة هنية التي ارتأى سيدها أن يردع من خلالها العبيد الآخرين. ملخص الحكاية، أنها حاولت بمساعدة من بعض الأشخاص، أن تزور وثائق للسطو على عقار، وحين افتضحت، عوقبت بالجلد أمام أنظار ابنتها طهور التي لم تفلح رغم دموعها وتوسلاتها إلى الجلاد، في تجنيب والدتها آلام الضرب وسوء المهانة.

كانت خالتي العجوز، قد علقت لي على هذه الحكاية التي كانت تعلم كل تفاصيلها قائلة: «إنه لمن العسف أن تقوم بتطبيق القانون بنفسك. فالعدل يقتضي عرض القضية على القاضي الذي يجري تحرياته ويصدر حكما، فالقضاء حينها كان مؤهلا ومنظما. هذا بالإضافة إلى أن أي إنسان ورع لا يمكنه قبول، لا نظام العبودية، ولا تلك العقوبات الجائرة التي كانت تستهدف العبيد حين يغضبون سيدهم أو يرتكبون خطأ ما. القرآن الكريم يشجب كل أشكال الظلم، فهو يحض على عتق العبيد، وبالتالي سعى إلى محاربة وتدمير نظام العبودية الذي كان سائدا خلال حقبة الجاهلية. لقد كان من المفروض أن يوقع العقاب أولا بأولئك النخاسين عديمي الضمير الذين تاجروا بالأبرياء».

كنت قد ارتعبت كثيرا لهذه الحكايات المؤلمة، فشرعت أبحث عن الأسباب التي تدفع لاختطاف الأطفال والمراهقين أولادا وبناتا. حين اختصرت الطريق، وسألت أمي، كان ردها أكثر من مخيف: «كانت النزاعات التي تنشأ بين القبائل مصدر تهديد لسلامة الناس وسلامة ممتلكاتهم. للأسف، عرفت بلادنا مرحلة بلاد السيبة (حالة الفوضى). كان الفرنسيون قد روجوا عن أنفسهم أنهم قد جاؤونا حاملين رسالة نشر السلم في البلد، وأنهم لم يقدموا لأجل السيطرة ونهب خيرات البلاد، في حين أنهم غضوا الطرف، ولمدة طويلة، عن الاتجار بالبشر. لم يطبقوا حتى القانون الصادر بإنهاء تجارة العبيد، ولم يلزموا الناس بتحريرهم. كان بعض النخاسين من المغاربة والأجانب، يغرقون أسواق عدد من المدن بأسرى أبرياء اقتنصوهم من آبائهم، فيعرضونهم للبيع، كما تعرض حيوانات السيرك».

ترى هنريت سيلاريي، وهي كاتبة ورحالة فرنسية، أن العبد لم يكن يعيش في تعاسة تامة رغم أنه كان تابعا لسيده في كل شيء: «وهو صغير، كان يرافق أطفال البيت في ألعابهم. وبعد أن يكبر قليلا، كانت تسند إليه أعمال بسيطة، وغير شاقة. كان يأكل، ويُعالج جيدا، ثم كان يشيخ في البيت الذي كبر فيه مرتبطا بسيده».

لم تكن دادات جدي الأكبر تحببن كثيرا الحديث عن مآسيهن، خصوصا مع الجيل الثالث للعائلة. كن يعطين الانطباع بأنهن راضيات بقدرهن. قليلات منهن من كن يزحن النقاب عن هذا المحظور: كن يجدن الالتزام «بقانون الصمت».

 

الاتجار بالعبيد ومحو هوياتهم

كان هؤلاء البؤساء، يباعون ويشترون في المزادات التي تقام بالساحات الكبرى للمدن، فقد كانوا سلعة مطلوبة تسعى لها السعي الحثيث بعض العائلات. كان أشهر سماسرة العبيد آنذاك، بنكيران وبوزرور.

بمجرد انتساب العبيد إلى منزل جديد، كان أهل البيت يشرعون في تصفية ماضيهم وسحق هويتهم الثقافية بشكل ممنهج. بل أكثر من ذلك، كانوا يطلقون عليهم أسماء جديدة، يختارها لهم سيدهم، حتى لا يبقى لهم أي ارتباط بتاريخهم الشخصي.

قدر للأمة زيدي هاته، أن تصبح أم خالي الهجين حبيبي سيدي، كانت محبوبة من قبل الجميع. عند مجيئها إلى منزل عائلة الأمين بنعلال، احتفظ لها بالحرف الأول من اسمها، ليتم تكريمها باسم امرأة من الحرائر: زينب. كانت تحظى باحترام كبير، لأنها وضعت ولدا ذكرا لزوجها، الذي لم يرزق إلا بالبنات من زوجاته الأخريات. كانت هناك قناعة سائدة مفادها أن إطلاق أسماء جديدة على الرقيق، يمحو جانب المعاناة من حياتهم كما تمحى الكتابة من اللوح.

تلك الأسماء الجديدة لم تكن بالطبع تحل المشكلة، فهي نفسها كافية لتمييزهم عن الأشخاص الأحرار مذكرة إياهم بمكانتهم الوضيعة.

لم تكن عائلة في فاس، في تلك الحقبة، تقبل أن تسمي أبناءها بأسماء اتفق على قصرها على العبيد. كانت الأسماء الجديدة لهؤلاء الرقيق تذكرهم عند النداء عليهم بوضعهم الاجتماعي المتدني، وبأنهم مجرد «حثالة» آخر السُلم الاجتماعي. كانت أمي تحفظ عن ظهر قلب كل الأسماء المخصصة للدادات والعبيد، وخصوصا أولئك الذين كانوا في ركاب جدها: ياسمين، مباركة، مسعودة، صايلة، مفتاح الخير، اسعدة، مبروكة، الضاوية، ياقوت، فتح الزهر، مبارك، فتاح، بريك…إلخ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى