
إذا كانت الكثير من الاختراعات نحيا بها فإن بعضها قد يكون في بعض الحالات اختراعات نموت بسببها، وتجلب الكثير من الويلات، تلك هي قصة ميخائيل كلاشنيكوف وسلاحه الرشاش الشهير. رشاش تفاوتت الآراء حوله وتتحدد المواقف منه بالنظر إلى من يضغط على الزناد، أو كما يقول الكاتب والصحافي الإنجليزي في كتابه المعروف «بندقية الكلاشنيكوف»: «يمكن أن يكون الكلاشنيكوف بأيدي جيش دولة ما، كما يمكن أن يكون بأيدي معارضيها، أو بحوزة الميليشيات أو بأيدي المسلحين أو الأطفال المجندين الأفارقة». فهي بهذا المعنى بندقية تستجيب بكل طواعية لأي أصبع يضغط على الزناد، غير آبهة بمن ستكون الضحية طفلا كان أو امرأة أو أي شخص أعزل.
كلاشنيكوف السلاح الأكثر انتشارا في العالم
ارتبط اسم المخترع الروسي ميخائيل كلاشنيكوف Michail Kalachnikov (2013- 1919) بالسلاح الرشاش ذائع الصيت والمنسوب إليه. هذا الرشاش الذي يتميز عن غيره بعدة مميزات، من أهمها بساطته من حيث التفكيك والتركيب والدقة العالية وتحمله للصدمات، وأثبت كفاءته في الاستخدام في كافة الظروف، زيادة على ثمنه البخس وقدرته الهجومية الكبيرة فهو يستطيع إطلاق 600 طلقة في الدقيقة الواحدة، وأبان عن مقاومته للظروف المناخية الصعبة والطارئة، كالرطوبة والحرارة المرتفعة. حاز هذا الرشاش على شهرة كبيرة لدى الحركات التحررية والثورية عبر العالم، فقد كان السلاح المفضل لخفته وسهولة استخدامه وفاعليته القوية أثناء القتال. فهو السلاح الأكثر انتشارا في العالم، حيث تستخدمه معظم الجيوش النظامية وغير النظامية، سواء كانت حركات تحررية وطنية، أو حركات تمرد، أو حتى منظمات إرهابية أو إجرامية. ولد المخترع الروسي ميخائيل كلاشنيكوف في إقليم «ألتاي» الروسي، في أسرة كثيرة الأولاد، كان والده من ملاك الأرض الصغار في روسيا الذين تعرضوا بعد الثورة كغيرهم من ملاك الأراضي للتهجير إلى سيبيريا ومصادرة أراضيهم من قبل البلاشفة والسلطات السوفياتية، الشيء الذي أرغم ميخائيل على تزوير وثائقه الشخصية، مخفيا أصوله الطبقية والانتقال إلى كازاخستان، حيث عمل في محطة السكك الحديدية. عشية الحرب العالمية تم تجنيد كلاشنيكوف في الجيش الأحمر السوفياتي، وألحق بفوج الدبابات في أوكرانيا، حيث عمل سائقا للدبابة، وسرعان ما ظهرت موهبته في الاختراع، فوضع تصاميم لصنع عدادات جديدة للدبابات لقياس الوقود المستهلك أو لحساب عدد طلقات مدافعها، ما جعل شهرته تكبر داخل الجيش الأحمر، باعتباره مخترعا موهوبا حتى أن القائد الأسطورة غيورغي جوكوف، الذي يخلو سجله الحربي من أي هزيمة، استدعاه وشجعه على المضي في اختراعاته، وأوصى القادة بضرورة العناية بهذا الجندي الشاب والعبقري. مسار هذا المخترع كان غريبا لم يكن يسمح له بأن يحقق هذه الشهرة العالمية لم يتجاوز في دراسته المرحلة الثانوية، وقد كان هذا الأمر معتادا جدا في أغلب جنود السوفيات، لكنه كان يتميز عنهم باطلاعه الواسع، فهو يقول عن نفسه: «إن جامعاتي التي تعلمتُ فيها هي الكتب».
فكرة اختراع نبتت بين الجرحى وردهات المستشفيات
شارك كلاشنيكوف في الحرب العالمية الثانية ضد الألمان، وأصيب إصابات بالغة استلزمت نقله إلى المستشفيات الروسية لتلقي العلاج، وهناك بدأت تتبلور لديه فكرة اختراع الرشاش، يقول: «هناك وعلى الرغم من الآلام التي كنت أعاني بسبب جروحي، كانت فكرة وحيدة تسيطر على ذهني طوال الوقت، وهي كيف يمكن اختراع سلاح يسمح بقهر النازيين»، ويضيف: «في المستشفى سمعتُ جرحى يتذمرون من عدم امتلاكهم رشاشات، في حين يملكها كل الجنود النازيين».
أشاد القادة في الجيش والمتخصصون في صناعة الأسلحة السوفياتية بجودة تصميم الرشاش، وفي المقابل لم يتحمسوا كثيرا لصنعه، واعتباره سلاحا جديدا يزود به الجيش الأحمر لأسباب تقنية محضة. بعد الحرب العالمية الثانية بقليل بدأ الروس في تصنيع رشاش كلاشنيكوف بشكل جزئي، فظهرت على الفور مزاياه كأخطر سلاح لدى الجيش الأحمر، ثم انتقل إلى البلدان الحليفة لها. على الرغم من أن كلاشنيكوف لم يجن من اختراعه أي مال ولم تسمح له السلطات العليا في البلاد بتسجيل براءة الاختراع باسمه، فإنّها عينته عضوا في مجلس السوفيات الأعلى، رفقة الشخصيات الروسية البارزة مثل الكاتب ميخائيل شولوخوف، ورائد الفضاء الشهير يوري غاغارين، والشاعر رسول حمزاتوف.
اعترت ميخائيل كلاشنيكوف في أواخر حياته مشاعر الندم على اختراعه لهذا السلاح الفتاك، أحيانا يبرر صنيعه كما ذكر في كتابه «السلاح الذي غير العالم»: «إنه ذنب الألمان أنني أصبحتُ صانع سلاح، ولولاهم لكنتُ صانع آلات فلاحية». وأحيانا أخرى يعبر صراحة عن قدر كبير من التأسف بقوله: «أنا فخور باختراعي، لكنني متأسف لاستعماله من قبل الإرهابيين، كنتُ أفضل أن أبتكر آلة يمكن استخدامها، ويمكن أن تفيد المزارعين، كآلة جز العشب مثلا». كما صدرت عنه أيضا الكثير من التصريحات التي عبر فيها عن مخاوفه من أن تكون لديه مسؤولية أخلاقية تجاه الضحايا الذين قتلوا برشاشه، وأرسل رسالة إلى بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية يقول فيها: «يظل يواجهني السؤال نفسه بلا إجابة: إذا كانت بندقيتي سببا في ضياع أرواح الناس، فهل أتحمل أنا المسيحي المؤمن بالأرثوذكسية مسؤولية تلك الوفيات؟… كلما طال بي العمر حاصر هذا السؤال عقلي، وازددت حيرة حيال سماح الله للإنسان بأن يملك كل تلك الرغبات الشيطانية…»، وبخط واهن وقع الرسالة: «عبد الله المصمم ميخائيل كلاشنيكوف». في سنة 2013 توفي ميخائيل كلاشنيكوف بعد مدة أمضاها مصابا بالصمم لكثرة تجاربه على البنادق وأزيز الرصاص، وهو في حيرة من أمره هل كان اختراعه لعنة، أم رحمة؟ وهل كان أفضل له أن يخترع بديلا آخر عن رشاشه الشهير يعود بالنفع على الناس؟ لقد كان بالفعل اختراعا أورث صاحبه الندم.





