
خالص جلبي
لعل أكبر خرافة تعلمناها في تربيتنا السياسية شعار (الحقوق تؤخذ ولا تعطى)، وفي الحقيقة فالحقوق لا تؤخذ ولا تعطى، وإنما هي ثمرة طبيعية للقيام بالواجب. ومن يقوم بواجبه ينال حقوقه، إن لم يكن في الأرض فسينزل من السماء عطاء غير مجذوذ؛ فهذا قانون اجتماعي.
لنحاول تفكيك هذه الفكرة: هناك (قانون اجتماعي) يربط بين العلاقات الشخصية، وشبكة العلاقات الاجتماعية. وفكرة المركزية واللامركزية التي طورتها المجتمعات الغربية هي ثمرة نضج تلك المجتمعات. وكل تضخم في جانب الفرد يعني تورما غير صحي على حساب شبكة العلاقات الاجتماعية. وبقدر نمو الفردية بقدر اضمحلال الروح الاجتماعية. ودليل هذا من واقع مجتمعنا، حيث ترى البيوت من الداخل تلمع والشوارع من الخارج خنادق للأزبال والقمامات. في الحارة التي أسكن فيها بمدينة الجديدة نموذج لهذا، فهناك منظران متناقضان قبيحان، بين قصور ألف ليلة وليلة ودوار الغنادرية والطاجين حيث شوارع غير مسفلتة ولا ماء من البلدية، حسب رواية (الغول)، السباك (البلومبي)، حيث لا صحة ولا تعليم، مقابل مدرسة خاصة لتعليم الصبيان من الطبقة المخملية تزدحم حولها السيارات الفاخرة المزعجة التي تملأ أنوفنا بغبار طرقات لا تنظف وقمامات لا تجمع. وفي داخل المدينة ثمة شوارع تتزاحم فيها الحفر وتتنافس النقر، وكأننا على سطح القمر أو وجه امرأة جميلة ملأها مرض الجدري بالثقوب القبيحة، أقول للناس من حولي ويخطر في بالي أحيانا وأنا أهرب من عشرات الحفر في الطريق المؤدية إلى الحارة (الراقية كذا) عندنا المقابلة لفندق الجوهرة، لربما علي أن أقرع أبواب المترفين في الحارة فآخذ من كل بيت مبلغا بسيطا نسد به هذه الحفر القبيحة لطريق لا تتجاوز 300- 500 متر؟ وأتساءل هل الناس خرس وبكم؟ هل لا يشعرون؟ هل لا يهتمون؟ هل البلدية نائمة؟ هل جهل طام وعيب عام؟ هل لا توجد أموال وميزانية والمدينة هي أم الفوسفاط وأصل الأسمدة في العالم؟ في الواقع ليس عندي جواب، ولكن بالتأكيد ثمة سر خلف هذا التخلف ثم أقول في نفسي، الأمر أكبر من مدينة الجديدة، فحين ذهبت إلى الدار البيضاء التي أسميها السوداء لاضطرابها وعشوائيتها والفوضى الضاربة فيها، وحين أتذكر المدن الألمانية أو الكندية أصاب بالحزن لهذه الرقعة من العالم الإسلامي. قال لي الشاب الوسيم فؤاد أمازغي، في فندق «مارينا بيتش» بالفنيدق أنت تقول إن بيننا وبين تركيا مسافة مائة عام، لقد خدمت في كوناكري وبينها وبين المغرب مسافة 200 عام وضحك. قال مجرد أن تصل الطائرة إليهم تشم رائحة الهواء المسموم. أكتب هذه الأسطر من تطوان في الشمال، فلمست روحا مختلفة في المدينة أهمها احترام المارة الذين يعترضون مرور السيارات فيعاملون بغاية الاحترام وتقف السيارات، ولكن الكارثة كانت في محطة الحافلة الطرقية، حيث هجم علينا السماسرة وكذبوا علينا. معرفتي أن من يأتي يذهب إلى شباك التذاكر، فيشتري التذكرة ويعرف موعد الانطلاق. إنها الفوضى العارمة في أوطاننا كما أرى. نحن في حالة تحد ليست سهلة في بناء أوطاننا للنهوض بالشرق المنهوب المنكوب. أحيانا أقول هربنا من بشار البراميلي، ولكن من الذي يدعم ويقوي ويعوم هذه الأنظمة الفاشية التي تمسك برقابنا، بعد انهيار الدولة العثمانية التي كنا في ظلها؟
نحن نعرف في علم الأورام أن السرطان حينما يكبر يقضي في النهاية على نفسه والبدن معا. وحينما ترفع صور الأفراد شاهقات في بلد فهو يعني من طرف آخر إلغاء بقية الأمة. ونقطة خلاف الإسلام مع المسيحية هي في نفي صفة الألوهية عن شخصية المسيح، ليجلس بين كرسي بين البشر. ومن الغريب أن فكرة الأقانيم والتثليث في المسيحية اعتنقتها السياسة العربية، وفي أكثر من بلد نصبت صور ثلاث شاهقات تطالعك عندما تدخل مطارات جمهوريات الخوف والبطالة. إن حرص الإسلام على تحريم الصور لم يكن من أجل صورة الهوية الشخصية أو صور الديجيتال في الأنترنيت، بل من أجل نزع القداسة عن الصور. ولكن عندما يستلب الفهم من عقولنا نحافظ على الطقوس وننسى روح الإسلام. تماما كما واجه الصدوقيون والكتبة والفريسيون عيسى بن مريم؛ فكانوا يسألون عن الشبث والنعنع وينسون الناموس الأكبر، ويسألون عن البعوضة ويبلعون الناقة والجمل.
هناك علاقة صارمة بين فكرتي: (الحقوق) و(الواجبات)؛ فالواجب هو (حق) من جانب، وهو (واجب) من الوجه الآخر، تماما مثل وجهي العملة. إن أية (معاملة) هي واجب للموظف يؤديها، في الوقت التي هي حق لمن يستفيد منها. الموظف يرى من حقه أن يعالج بشكل جيد أثناء مراجعة المستشفى، في الوقت الذي يعتبر هذا واجبا للطبيب يؤديه، وهكذا تصبح (العملة الاجتماعية) تدور بين (حق-واجب) في كافة شرايين الخدمة الاجتماعية.
هذه العملة يجب أن لا تزَّور، وحسب قواعد الاقتصاد يعتبر المجتمع معه (فائض) في العملة، عندما يملك فائضا من عملة (الواجبات). نحن إذن أمام ثلاث معادلات اجتماعية:
(1) الأولى (الواجبات أكبر من الحقوق).
(2) الثانية حينما تتعادل الواجبات والحقوق، واجبات = حقوق.
(3)- الثالثة حينما تزيد الحقوق عن الواجبات، أو(الواجبات أقل من الحقوق).
الأولى: عند تحقق فائض الواجبات عن الحقوق، وهي ترمز إلى مجتمع متفوق حضاريا، الثانية: تساوي الحقوق والواجبات، وهي تعطي فكرة عن مجتمع متوازن، أما عندما تتفوق حركة المطالبة بالحقوق في المجتمع عن تأدية الواجبات اليومية، فإن المجتمع يبدأ في الانهيار. ويترتب على القانون الذي ذكرناه قانون اجتماعي آخر هو: عدم المطالبة بالحقوق أو بكلمة أدق تعميق اتجاه القيام بالواجب، لأن المجتمع الذي تعلم أن يقوم بواجباته سوف تنشق السماء وتتنزل عليه حقوقه. ومعظم أبنائنا الذين يذهبون إلى الغرب لا يفهمون (سر الفعالية) فيه. ويحصل ما سماه (مالك بن نبي) الارتماء في (مزابل الحضارة) أو الانزواء في (مقابر الحضارة). ويعني بكلامه رؤية الحضارة الغربية من ثقبين: الفساد الأخلاقي، والأجواء المهنية. والحضارة ليست هذا ولا ذاك، كما أنها لم تخلق في هذه الأمكنة. كان مالك يريد فهم الحضارة ككائن عضوي مترابط و»الشروط النفسية والاجتماعية» التي تولِّد هذه الفعالية. وهذه الفكرة حلت عندي إشكالية مهمة لماذا يتصرف من اختص في الغرب بعد عودته، بصورة غير التي كان يتصرف بها هناك؟ فلا يحافظ على الموعد ولا يتقيد بإشارات المرور، أو يعتقد بالخرافة إلى أخمص قدميه ولو كان مهنيا بارعا. والمجتمع الألماني الذي عشت فيه تسع سنوات وأتقنت لغته يعتبر من قمم مجتمعات العالم، فألمانيا هي صيدلية العالم، وأرض الفلاسفة، ومكان الموسيقيين المبدعين، وأرض حملة جوائز نوبل. في الوقت نفسه هي محرقة آوشفيتز، وأرض الهولوكوست، ومستنقع العنصرية، ومزبلة كبيرة لكل الإباحيات الجنسية. وما لفت نظري عندهم (أخلاقيات العمل)، فالإنسان الألماني قد يخمر في الليل ويعربد جنسيا، ولكنه في صباح اليوم التالي لا يتأخر في حضوره للعمل؛ فالعمل عنده مقدس. إن عندهم من الفائض في العملة الاجتماعية (الواجب) ما يجعل أمراضهم مسيطر عليها، وقوتهم من معرفتهم بطبيعة هذه الأمراض، والانتباه الدائم إليها، ومراقبتها ونشر فضائح الشخصيات السياسية، في ما لو تورط باختلاس ولو القليل أو قصر عن دفع ضريبته من خلال أداة نقد اجتماعية حادة. ومن الغريب أن مفاهيم الحقوق والواجبات متناثرة في تراثنا، ولكننا نقرأ النصوص بعيون الموتى. ذكر (ص) في يوم أنه سيكون أثرة (عكس الإيثار)، فقال الصحابة: ماذا نفعل يا رسول الله؟ قال (ص): أدوا الذي عليكم وسلوا الله الذي لكم. يقول الراوي لقد بلغ بنا أن أحدنا لو وقع من يده سوط فرسه ما طلبه من أحد ونزل فالتقطه. وصديقي توفيق، السائق المغربي، لفت نظره انهيار حجرتين ضخمتين في مدارة (رومبوا) إلى الشارع وتهديد السيارات المارة، قال توفيق الكثير صُدم وتأذى بالتأكيد. ثم نزل فأصلح المكان (صوّبها وقادّها) ومشى في طريقه وأخذ لها صورا. فهذه هي الحضارة وهذه هي روح المبادرة لو كنتم تعلمون، أما السياسيون الكذابون فاغسلوا أيديكم منهم سبعا إلى المرافق. قال توفيق متذكرا الحديث: الإيمان بضع وسبعون شعبة وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. نحن ما شاء الله نلقي الأذى في الطريق وكأن محمد بن عبد الله (ص) لا يخصنا ولم نسمع به.




