
بدأت حكاية الستريمينغ مع منصات مثل «يوتيوب» ثم تطورت مع «تويتش» و«كيك» وغيرها، حين اكتشف البشر أن بإمكانهم أن يبثوا حياتهم أو لعبهم أو حتى صمتهم، وسيجدون دائماً من يشاهد. ظهر نجوم يحققون ملايين المشاهدات، يجلسون لساعات أمام الكاميرا، يعلّقون على الألعاب والأفلام والأخبار، ويرفعون شعارات الحرية المطلقة: «غير داويين»، «فان كونتنت»، «الواقع بلا زواق». وبينما هم «يظهرون الواقع»، ترتفع حساباتهم البنكية أكثر من دخل جامعات ومراكز بحثية كاملة.
على الجانب الإيجابي، أفرز الستريمينغ نموذجاً جديداً من ريادة الأعمال الفردية؛ شاب في غرفة صغيرة، إنترنت متوسط، وميكروفون محترم، يستطيع أن يبني إمبراطورية رقمية دون إذن إداري أو رقابة حكومية. فتح المجال أمام أصوات كانت مهمشة، وخلق فضاءً للتجريب، والتفاعل الفوري مع الجمهور، وإعادة تعريف مفهوم النجومية بعيداً عن احتكار القنوات الكبرى. كما سمح بتعليم مجاني في مجالات عديدة؛ من البرمجة إلى الرسم إلى تحليل المباريات، وكل ذلك في بث مباشر بلا إعلانات متعبة (على الأقل في البداية).
لكن، وكما يحدث دائماً، لكل ثورة تقنية فاتورة أخلاقية وعقلية. فالشباب الذين وجدوا في الستريمينغ متنفساً تحول عند بعضهم إلى إدمان حقيقي؛ ساعات طويلة أمام الشاشة، النوم مؤجل، الإهمال الدراسي، والعلاقات الاجتماعية اختُزلت في «شات» وتعليقات بلغة غريبة مشفرة. يتحول الدماغ شيئاً فشيئاً إلى مستقبل متقطع للمؤثرات السريعة: صوت عال، ضحك هستيري، شتائم «كوميدية»، تحديات خطيرة تحت عنوان «لا تجرب هذا في البيت»، مع أن أغلب المشاهدين سيفعلون العكس تماماً. هكذا يولد ما يُسمى بتعفن الدماغ؛ ليس مرضاً طبياً بقدر ما هو حالة من التخدير البصري والذهني، حيث يصبح التركيز على أي شيء أطول من دقيقة ونصف إنجازاً بطولياً.
ثقافياً، فرضت هذه الظاهرة قاموساً جديداً على الحياة اليومية؛ الناس صاروا يتحدثون بمنطق «الترند»، والعلاقات الإنسانية نفسها أصبحت محتاجة إلى «كونتنت». إن لم تكن قابلة للتصوير والبث، فهي مملة ولا تستحق وقتاً. كل حدث، من الإفطار العائلي إلى الخصام مع الشريك، يمكن تحويله إلى مادة ترفيهية، وجمهور الستريم ينتظر دائماً جرعة جديدة من الدراما ليستمر في المتابعة. ومن جهة أخرى، أصبحت بعض القضايا السياسية والحقوقية مجرد خلفية لزيادة المشاهدات؛ تحليل الصراعات والحروب في بث مباشر بين مباراة «فورتنايت» وتعليق ساخر على جسد مثير لمؤثرة مشهورة.
اجتماعياً، خلق الستريمينغ نوعاً من الديمقراطية الزائفة؛ الجميع يتكلم، لكن من يسمع فعلاً؟ الصوت الأعلى، الأكثر استفزازاً، هو الذي ينتصر. وهكذا تتحول منصات البث إلى مسرح كبير للمزايدات والتهريج، حيث تسجل الشتائم والادعاءات الجريئة أعلى نسب مشاهدة، بينما يظل المحتوى الرصين في زاوية مظلمة ينتظر خوارزميات رحيمة. الشباب الذين لا يجدون معنى في السياسة أو المؤسسات التقليدية يجدون في الستريمر بطلاً بديلاً؛ شخصاً «من الشعب»، «يقول ما لا يستطيعون قوله»، حتى لو كان ما يقوله في كثير من الأحيان مجرد مزيج من التعميمات والسطحية ونظريات المؤامرة.
نفسياً وسلوكياً، تُطبع الأجيال الجديدة على ثقافة التفاعل الفوري؛ كل شيء يجب أن يكون سريعاً، ممتعاً، مليئاً بالمؤثرات. الصبر على التعلم، على العلاقات العميقة، على العمل الطويل الأمد، يصبح مهارة نادرة. يرتفع مستوى القلق الاجتماعي لأن المقارنة مع حياة الآخرين لم تعد تتم عبر صور منتقاة فقط، بل عبر بث حي يبدو فيه كل شيء عفوياً وصادقاً، بينما هو في الحقيقة مسرح مدروس بعناية لإنتاج أكبر قدر من التفاعل.
هنا يبرز سؤال الحدود بين حرية التعبير والسقوط في خطاب الكراهية. الستريمر يرفع شعار «غير ضاحكين»، لكن النكات كثيراً ما تستهدف النساء، الأقليات، المختلفين. تتحول الميزوجينية إلى «ترند»، والعنصرية إلى «ميم» والتحريض على العنف إلى «تشالنج». المنصات تتحدث عن سياسات للاستخدام، لكن سلاح الربح الإعلاني أقوى من كل المبادئ؛ طالما أن الغضب يجلب المشاهدات، ستبقى مساحة واسعة للخطاب السام تحت حماية شعار «الرأي الشخصي» و«الترفيه».
هل الحل في الرقابة الصارمة؟ غالباً لا، لأن تحويل الستريمر إلى شهيد للحرية يمنحه قوة أكبر. الحل الأذكى ربما في دفع الجمهور نفسه إلى طرح أسئلة مختلفة: لماذا أتابع هذا المحتوى؟ ماذا يضيف لي؟ هل أضحك لأن النكتة ذكية أم لأنني تعودت على السخرية من فئة معينة؟ هل هذه الحرية فعلاً، أم مجرد استهلاك سلبي تحت غطاء الجرأة؟
الستريمينغ ليس شيطاناً رقمياً ولا ملاكاً تكنولوجياً. هو أداة ضخمت كل ما فينا، حس الدعابة لدينا ونزعاتنا العدوانية، رغبتنا في المعرفة وحنيننا العميق للهروب من الواقع. السؤال الحقيقي ليس إن كان الستريمينغ جيداً أو سيئاً، بل أي نوع من الجمهور اخترنا أن نكون، وماذا نفعل بأصابعنا المرتجفة قبل أن تضغط على زر «متابعة». نحن في أمس الحاجة إلى «ديتوكس رقمي» بشكل دوري، لا بث مباشر، لا شات، لا إشعارات، فقط صمت وكتاب ووجه حقيقي يجلس أمامك.





