شوف تشوف

الرأي

قصة عجيبة

 شامة درشول

 

 

 

كتب أحد المعلقين على أحد منشوراتي على صفحتي الفيسبوكية يقول: «هذه قصة عجيبة، عليك أن تتحدثي عنها في عمودك اليومي على جريدة «الأخبار»».

تقول القصة التي وصفها القارئ بالعجيبة، إن والدتي فقدت منذ ما يقارب الأشهر الستة سلحفاتها التي رافقتها لسنوات، وإن أمي حزنت كثيرا على رحيل «لفكرون»، فكتبت فيه مقالا يحمل العنوان نفسه أتحدث فيه عن الدور الكبير الذي لعبه هذا «لفكرون» في حياة والدتي، وكيف أنه كان طبيبها النفسي الذي تفرغ فيه كل غضبها من والدي حين كان حيا، وكيف أنه كان مؤنسها الذي تتحدث إليه حين رحل والدي، وكيف كنت أغضب من والدتي التي أطلب منها أن تحضر لي سلطة الخس والطماطم والخيار، وأني أريد الجزر مبشورا مع عصير البرتقال، لأجدها تقدم ما طلبته لـ«لفكرون»، وتنسى أني أنا من طلب منها هذا وليس هو.

تحدثت كثيرا في مقالي ذاك عن كرهي لـ«فكرون أمي»، وكيف أني كنت أمازحها أني أشك أني لست ابنتها، وأن عليها أن تكشف لي عن والديّ الحقيقيين لأنها تفضل «لفكرون» علي أنا ابنتها الوحيدة وأصغر العنقود.

حزنت أمي كثيرا حين رحل «لفكرون»، ولم أنس عينيها الخضراوين المليئتين بالقلق وهي تقول لي: «لفكرون مات مسكين ابنتي»، وأجيبها بسخرية: «بقى لي غي لفكرون يبقى فيا»، وترد علي: «قلبك ولى قاصح ابنتي اشامة».

لكن ما حدث قبل فترة، جعلني أعيد النظر ليس فقط في علاقتي مع «فكرون أمي»، ولكن أعيد النظر أيضا في موازين هذا العالم.

كنت في زيارة لبيت العائلة، صعدت السطح، كانت ابنة أخي تلعب هناك، فرأيت شيئا يمشي على مهل، كان سلحفاة صغيرة جدا، عكس ذاك «لفكرون» الكهل الذي عمر طويلا في منزلنا. سألت ابنة أخي إن كانت السلحفاة لها، فقالت لي: «لا، إنه ملك لميمة»، سألتها إن كانت أمي قد اقتنته، فقالت لي بحماستها تلك، وبكثير من الفرنسية: «لا لا عميتو، سأحكي لك ما حدث، لقد كنا عائدات من السوق أنا ولميمة وفاطمة، كنت ألعب ونحن في طريقنا إلى المنزل، حين وقع نظري على السلحفاة، كانت تمشي على مهل، واعترضت طريقنا، فحملتها بين يدي، واستدرت إلى لميمة وقلت لها: «ميمة انظري ماذا وجدت».

أنصتت بتمعن لما كانت تحكيه ابنة أخي، وتابعتها وهي تكمل قائلة: «وقررت لميمة أن تحضره إلى المنزل».

أنهت ليليا الصغيرة الحكاية، لكنها بقيت عالقة في ذهني، فحملتها إلى متتبعي صفحتي على «فيسبوك»، هناك حيث أسرد من الحين إلى الآخر القصص الخفيفة، لكن قصة السلحفاة الصغيرة لم تكن خفيفة، كانت مليئة بالمعاني التي أردت مشاركتها مع قراء الصفحة، وأن يتمعنوا جيدا في ما يحدث لهم، وأن لا شيء يحدث بالصدفة، وإنما كل الأشياء تحدث لسبب، تحدث في وقتها الذي حدده الله، وتحدث بالمقدار الذي يراه كافيا. وتظهر صورة أخرى من رحمة الله بعباده، حين يمنح شيئا للعبد، فيفرح، ثم يأخذه منه، فيحزن، ولا يهون حزن العبد على الله، فيبعث له عوضا. الله لا يعلم فقط بما في قلوب الناس، بل يحترم مشاعرهم، فيصر على تعويضهم خيرا.

قصة عجيبة فعلا، لقد صدق القارئ الذي كتب معلقا عما حكيته بعجالة على صفحتي، فالله، الذي أخذ من والدتي روح ذاك «لفكرون»، علم بالحزن الذي ألم بقلبها، علم بالفراغ الذي سكن حياتها بعد رحيله، علم أن «لفكرون» ليس مجرد حيوان يؤنس والدتي، بل هو بعض من ذكريات كثيرة كانت تجمعها بوالدي رحمه الله، ولم تكن مستعدة لفقدانها.

أشفق الله على والدتي، وحين كانت أمي تسلم أمرها لحكمة وقدر وقضاء الخالق، كان الله يحضر لها عوضا، ويرسله في التوقيت والمكان المناسبين. الله وحده يعلم السبب في إرسال العوض ستة أشهر بعد رحيل «فكرون والدتي»، لذلك اكتفيت بأن أتأمل تدابير الله الذي قرر وضع سلحفاة في طريق والدتي وهي عائدة من السوق، ربما كانت أمي لن تنتبه وهي تجر قدميها اللذين أنهكهما الزمن، فشاء القدر أن تكون رفقتها ابنة أخي، وشاء القدر أن تعترض السلحفاة طريقها وهي تلعب.

لا شيء يحدث بالصدفة، فقهاء المتصوفة وحكماء الأديان الأخرى يفقهون هذه القاعدة، ويعون جيدا أن الشخص الذي يمر بحياتك ويؤذيك، هو معلم أرسله الله لك لتتعلم على يديه درسا قاسيا لكنه سينفعك في دنياك، وأن الشخص الذي يمر بحياتك ويحسن لك، إنما هو رسول من الله ليخفف عنك ألم الدرس القاسي، وربما ليحضرك لتلقي درس قاس آخر. المهم أن تكون أنت تلميذا نجيبا، لا تدع الحياة تمر بين يديك سريعة، بل تتأمل الله وهو يعزف على لحن حياتك، وما عليك أنت إلا أن ترقص هربا من النار، أو فرحا بالمطر.

قصة عجيبة، وكم من قصص عجيبة عشت، لم أفقهها يومها، وبدأت أنتبه إليها أكثر حين وضع الله السلحفاة في طريق والدتي، وعدت بذاكرتي إلى الكثير من الأحداث التي مررت بها سواء منذ يوم، أو شهر، أو سنة أو سنوات. تذكرت كل الصعاب التي مرت علي، وتذكرت كل الأفراح التي طرقت حياتي، وتذكرت الأشخاص الذين سخرهم لي لتعليمي الدروس القاسية، أو لمداواة جروحي، وابتسمت وأنا أتذكر «فكرون أمي»، وأكرر في نفسي: «لا شيء يحدث بالصدفة، مهما ظهر لنا أن ما يحدث هو مجرد قصة عجيبة».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى