
عمرو حمزاوي
أجبرت تداعيات الحرب الروسية- الأوكرانية إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على التراجع عن سياسة الاهتمام المحدود بالشرق الأوسط، وأعادت الولايات المتحدة إلى منطقة تغيرت بشدة خلال السنوات الأخيرة، وصار بها أكثر من موطئ قدم وموضع نفوذ للقوى العظمى المنافسة لواشنطن.
بجانب التغلغل الصيني الشامل والممتد من الاقتصاد والتجارة إلى التكنولوجيا والدبلوماسية، نجحت روسيا في استغلال النتائج الكارثية لتقلبات السياسة الأمريكية منذ 2001، لتعيد صياغة أدوارها في المنطقة في ما وراء موضع نفوذها التقليدي في سوريا.
قدمت موسكو نفسها للشرق الأوسط كقوة استقرار تبحث عن التعاون العسكري والأمني والاقتصادي والتجاري مع جميع حكومات المنطقة، دون أن تخير الشرق أوسطيين بينها وبين تحالفاتهم القائمة مع الولايات المتحدة الأمريكية. تركت موسكو واشنطن تضع القيود على صادرات السلاح للمنطقة، وعرضت هي سلاحها دون شروط. وظف صناع القرار في الرئاسة الروسية وفي الأجهزة الدبلوماسية حالة الغموض التي صنعتها تقلبات السياسة الأمريكية في ما خص أمن الشرق الأوسط، وحاولوا هم تصدير صورة جديدة لروسيا كقوة عظمى قادرة على التدخل العسكري والأمني المباشر للدفاع عن حلفائها (سوريا مثالا)، وتستطيع أيضا التأثير على تطورات ونتائج الصراعات الدائرة في المنطقة (ليبيا مثالا)، ولا تعارض الحلول الدبلوماسية لإنهائها كما تفعل مع إيران وتركيا في ما يتعلق بسوريا، ومع مصر والإمارات وتركيا وفرنسا في ما خص ليبيا.
عملت روسيا على مد شبكات تصدير السلاح والتعاون الأمني والاقتصادي والتجاري، بحيث لم يمنع دورها في سوريا من صياغة علاقة استراتيجية مع إسرائيل. ولم يمنعها القرب من إسرائيل من الحفاظ على روابطها القوية مع إيران، على الرغم من العداء المستمر والمتصاعد بين تل أبيب وطهران. ولم تمنع علاقات التعاون والتنسيق مع إسرائيل وإيران موسكو من أن تصدر السلاح إلى السعودية والإمارات ومصر وتركيا، وأن ترفع معدلات التعاون معها ومع الجزائر في شمال إفريقيا. بل ونجح صناع القرار الروس في تطوير تحالفات مصلحة مع حكومات الشرق الأوسط في ما خص أسعار الطاقة العالمية، التي تريد موسكو والعواصم الخليجية الحفاظ على ارتفاعها الراهن دعما لموازناتها العامة، ومزجوا بين ذلك وبين الاتفاق مع مصر والجزائر على بناء مفاعلات نووية بتمويل وتكنولوجيا من روسيا.
الهدف الاستراتيجي الواضح للأدوار الروسية في الشرق الأوسط، هو عدم السماح للولايات المتحدة الأمريكية بالتعامل مع المنطقة كالقوة المهيمنة الوحيدة.
الهدف الثاني هو الضغط في اتجاه تبلور نظام أمني جديد يرث الانفرادية الأمريكية وتشارك في صياغته القوى العظمى كلها، أي الولايات المتحدة والصين وروسيا وأوروبا، ومعها الأطراف الإقليمية المؤثرة. لذلك تقدم روسيا نفسها كقوة عالمية بديلة لا تتقلب سياساتها بتغير الإدارات، وتستطيع التعاون العسكري والأمني والتنسيق في ما خص أسعار الطاقة، بعيدا عن خطوط الصراع التقليدية بين إسرائيل وإيران، وبين الأخيرة ودول الخليج وبين تركيا والعديد من الأطراف العربية.
لذا لم يكن غريبا أن تصطف إيران وسوريا مع روسيا، وأن ترفضا إدانة العدوان الروسي على أوكرانيا وتمتنعا عن تطبيق العقوبات الغربية. غير أن الصدمة الأمريكية جاءت مع ابتعاد حلفاء واشنطن والغرب في الشرق الأوسط عن الإدانة الصريحة لروسيا وعن تطبيق العقوبات. حكومات السعودية والإمارات ومصر وتركيا، بل وحكومة حليف واشنطن الأول في المنطقة، إسرائيل، جميعها رفضت تطبيق العقوبات وأبقت على تعاونها وتنسيقها مع موسكو دون تغيير.
بل إن حكومات دول مجلس التعاون الخليجي رفضت ضغوط إدارة بايدن لرفع معدلات إنتاجها من النفط والغاز الطبيعي، لكي تنخفض الأسعار الحالية للطاقة، وينجو الرئيس الأمريكي وحزبه من عقاب الناخبين في الانتخابات القادمة. ومكنت دول الخليج بذلك روسيا من الحفاظ على حصيلتها العالية من صادرات الطاقة، وعاقبت من جهة أخرى إدارة بايدن على تجاهل أمريكا لحلفائها من العرب وحديثها المتكرر عن التوجه بعيدا عن الشرق الأوسط.
حصدت روسيا، إذا، بعضا من ثمار تحالفات المصلحة مع حكومات الشرق الأوسط وثمار سياساتها البراغماتية التي لم تضع شروطا على التعاون مع الجميع، وعملت على تقديم صورة جديدة لروسيا قوية وقادرة على التدخل العسكري وتصدير السلاح والتكنولوجيا وتقديم التعهدات الأمنية، صورة جديدة تستعيد ذاكرة الحضور السوفياتي المؤثر في شرق أوسط النصف الثاني من القرن العشرين.
نافذة:
حصدت روسيا إذا بعضا من ثمار تحالفات المصلحة مع حكومات الشرق الأوسط وثمار سياساتها البراغماتية التي لم تضع شروطا على التعاون مع الجميع