شوف تشوف

شوف تشوف

اللحم إلى خناز…

عندما تحدثنا مرارا عن الفساد في بعض الجامعات، سواء في بيع المناصب الإدارية أو التربوية، أو في التسجيل بأسلاك الدراسة الثلاثة بها، كان دائما ما يخرج بعض “دهاقنة” نقابتي التعليم العالي ليتحدثوا عن “الاستهداف المبيت للأستاذ الجامعي” و”العمالة لجهات تستهدف الجامعة” و”معاداة الإصلاح الجديد”. وهي شعارات تريد أن توهمنا بأن جامعاتنا بخير، وأن كل الفضائح التي تندلع فجأة تكون خلفها مؤامرة، فيما واقع الحال غير هذا، بشهادة ما يقوله هؤلاء الدهاقنة أنفسهم في بياناتهم ومداخلاتهم المسجلة في مجالس الكليات والجامعات التي ينتمون إليها. وبشهادة الصراعات التي ينخرطون فيها هم أنفسهم، والتي حولت أغلب شعب الجامعات ومسالكها إلى ممالك وجزر معزولة لا أستاذ فيها يرد التحية على زميله، فبالأحرى أن يتعاون معه.
وقبل أيام خرج أستاذ جامعي بكلية الحقوق بمكناس ليتحدث من داخل “العصيدة” عن بعض مظاهر الفساد التي تعرفها بعض الجامعات المغربية، حيث تحمل مسؤوليته ونشر شريطا مصورا يتحدث فيه عن بعض مظاهر الفساد التي تعرفها امتحانات ولوج سلكي الماستر والدكتوراه بالجامعات، إضافة إلى مباريات التوظيف بالتعليم العالي. وهي مظاهر، بحسب ما صرح به الأستاذ صوصي العلوي تضرب في العمق مبادئ الشفافية وتكافؤ الفرص بين الطلبة والمترشحين.
العجيب في تداعيات هذا التصريح، هو قرار اللجنة العلمية لشعبة القانون الخاص بكلية الحقوق بمكناس القاضي بتجريد هذا الأستاذ من حقه في إلقاء الدروس النظرية داخل الكلية، بمبرر “التشويش والتحريض”.
ورغم أن أستاذ القانون لم يسم جامعة بعينها أو أشخاصا بالاسم، إلا أن اللجنة العلمية لشعبة القانون الخاص دعت بكل إلحاح السلطات الجامعية الوصية إلى اتخاذ الإجراءات الإدارية اللازمة في حقه، معتبرة أن سلوكاته تخرق مقتضيات قانون الوظيفة العمومية، مع عرضه على مجلس تأديبي عاجل، قصد اتخاذ المتعين، بل ودعت إلى المتابعة الجنائية للمعني بالأمر بتهمة “قذف الأساتذة”.
بغض النظر عن الدوافع التي جعلت هذا الأستاذ الجامعي يقول ما قاله، فإن المؤكد أن هناك مشكلات مزمنة في جامعاتنا، تتعدى المشكلات المعتادة، والمتمثلة في النظام البيداغوجي والاستقلالية الصورية للجامعات والطريقة غير الشفافة في تعيين رؤساء الجامعات وعمداء الكليات ومدراء المدارس العليا، إنها المشكلات التي تتعلق بالذهنيات، والتي حولت العديد من الشعب والمختبرات إلى تجمعات عائلية، تجمع الآباء بالأبناء والبنات، والأزواج بالزوجات والأصهار. ولنا بالوثائق أدلة كثيرة في كليات مختلفة. لكون رؤساء هذه الشعب أو النافذين في إدارة الجامعات أو الكليات يعتبرون هذه المؤسسات ضيعات شخصية لهم الحق الحصري في التصرف فيها.
هنا تصبح القوانين مجرد أدوات لتبرير الفساد، حيث تعلن المباراة في المواقع الرسمية، وفق جدولة زمنية محددة، ويتم تقديم الترشيحات من طرف الجميع وكأن الأمر فعلا شفاف. ويتوصل كل المرشحين بتوصيلات وضع الملفات، سواء رقميا أو ورقيا، ويتم تكوين اللجان، وفق ما تنص عليه القوانين، أي أعضاء من داخل المؤسسة وأعضاء من خارجها من باب الموضوعية “زعما”. لكن هذه القوانين لا تتدخل في طبيعة العلاقة الموجودة بين إدارة الجامعات والكليات بأعضاء اللجان، بما في ذلك “الأجانب” منهم. إذ العرف السائد، هو أن فريق الشعبة “خاصو يجيب اللي يخدم معاه”. بمعنى “اللي تعرفو حسن من اللي متعرفوش”. وهنا يصبح الفساد مشروعا ومبررا بموجب القانون.
فالذي يحدث هو أن المناصب في أغلب جامعاتنا تُحدث تحت الطلب، ويتم تحديد الناجحين في بعضها قبل الإعلان عن المباريات. وما تقوم به نقابتا التعليم العالي، من باب الاستقطاب وتكثير سواد “الأتباع”، على صعيد إدارة الجامعات والكليات، أكبر من أن يتم إخفاؤه. فإذا خلق منصبان في شعبة ما يتم تقسيمهما بين النقابتين “فيفتي فيفتي”، مع الأخذ بعين الاعتبار طبعا “الناس دالرئيس أو العميد”. وإذا حصل، صدفة أن أحرج أحد المرشحين “المجهولين” أعضاء اللجنة بكفاءته، خلافا للمرشح المقصود بالمباراة، فإن عصا القانون دوما موجودة لإلغاء المباراة جملة وتفصيلا، والاكتفاء بإصدار إعلان مكتوب عليه “الناجحون: لا أحد”.
يحدث هذا دوما، ولا أحد يحق له، بما في ذلك رئيس الحكومة أو الوزير الطعن في القرار، لأن اللجن العلمية “قانونية” وبالتالي “ذات سيادة”.
لكن، وفي انتظار أن تُنسى المباراة الأولى، يتم انتداب المرشح “اللي عندو جداتو فالشعبة أو الإدارة” كأستاذ زائر ليستأنس به الطلبة والأساتذة والإداريون، وقد تخصص له تعويضات عن ساعات العمل، ليتم فتح باب الترشح مرة أخرى تحت مسمى آخر، بحيث يبدو لك جليا بأن الإعلان عن المباراة ينقصه فقط التصريح بأن “فلان أو فلتانة هو المعني أو المعنية بالمباراة”، فلا داعي لإزعاجه أو إزعاجها.
لذلك فما قاله الأستاذ العلوي ليس تجنيا، وإن حرص زملاؤه على تقديمه قربانا على مذبح كبريائهم المجروح، لأنهم ألفوا أن يسمعوا هذه الحقائق من أفواه الطلبة والصحافيين ولم يكونوا يتوقعون أن يشهد فيهم شاهد من أهلهم.
وإلا ماذا يعني تخلي بعض كليات الحقوق خاصة عن العديد من المناصب المحدثة وتجميدها وعدم فتحها أمام العاطلين، إرضاء لمحامين ومستشاري وزراء ومسؤولين في إدارات عمومية كبرى، والذين يقدمون دروسا فيها فقط لأنهم يبحثون عن “تيكيت” أستاذ جامعي.
ما يحدث في التسجيل في الإجازات المهنية المتخصصة وكذا الماسترات وسلك الدكتوراه لا يخرج عن هذا المناخ الفاسد. فالجميع يعرف أن بعض الأساتذة الذين يُحدثون هذه المسالك، يحق لهم أن يسجلوا فيها من أحبوا ويطردوا من شاؤوا. هنا تفتح الأبواب للاستغلال الجنسي والرشوة عند بعضهم، والتي قال الأستاذ سابق الذكر إنها تصل إلى خمسة ملايين سنتيم في سلك الماستر، وعشرة في سلك الدكتوراه. كما تفتح الأبواب لـ”باك صاحبي” و”عقل على الخير باش تردو ليا” والتي يسميها مسؤولو بعض الجامعات والكليات ورؤساء الشعب والماسترات ومختبرات الدكتوراه بـ”المجاملة”.
نعم يسمونها “المجاملة” كنوع من التسويغ الأخلاقي للفساد. سأجامل المسؤول فلانا بتشغيل زوجته أستاذة جامعية أو تسجيله في سلك الماستر ليظهر بمظهر المثقف، لأني في حاجة إلى بقعة أو سيارة إلى غير ذلك.
لذلك يحدث كثيرا، أن “طلبة” من نوع خاص، وأغلبهم موظفون لا يجدون نصف ساعة في اليوم لشرب فنجان قهوة، يسجلون في كليات تبعد عنهم بمئات الكيلومترات. ومنهم من يسجل بـ”الكلمة” فقط على غرار ما كان يحدث في الأسواق الأسبوعية لأيام زمان عملا بمقولة “الله يربح”. ويكتفي في نهاية الأسدس بـ”جولة” يسجل فيها الحضور في الامتحانات، و”ها الماستر فالجيب”. أما في الدكتوراه فالأمر سهل بالنسبة لبعض المسؤولين. إذ يمكنهم اختيار أطروحات جامعية يمكن أن تدخل المعطيات المتضمنة فيها تحت طائلة السر المهني، ويتم تفريغ موظف صغير لصياغتها، و”ها نتا دكتور بالفور آ الشيفور”.
ومن الطبيعي أن يتم انتقاء أعضاء لجنة المناقشة، والذين يتنافسون في المدح التكسبي للمسؤول، ليحصل، بعد جلسة “مغلقة” للجنة، على ميزة مشرف جدا مع توصية بالطبع. والأهم هو أن عقولهم كلها تفكر، وهم يقرؤون قرار اللجنة وقوفا، في الحفلة الخاصة التي سينظمها لهم سعادة الدكتور الجديد.
هنا لا عجب أن بعض أعضاء لجان مناقشة رسائل الدكتوراه يشترطون صنف الفنادق التي سينزلون بها، والمشروبات التي سيشربونها، بل ويفرضون نوعية “الصحبة” التي ترافقهم في حفلتهم الخاصة.
إنها جامعاتنا و”حنا ماليها”، وكما يقال “اللحم إلى خناز كايهزوه ماليه”. وذلك ما فعله الأستاذ العلوي بالضبط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى