سيرة البكاي ولد امبارك الهبيل ترويها ابنته لـ”الأخبار” في حوار مثير
اعتمادا على تقارير البوليس السري الفرنسي ووثائقه الشخصية
عندما قررت الكتابة عن والدها البكاي ولد امبارك الهبيل، تسلحت الكاتبة ذ. نعيمة الهبيل التجمعتي بترسانة من وثائق الأرشيف. في أبريل سنة 1961، عندما توفي “سي البكاي” الذي خدم في صفوف الجيش الفرنسي، لم يكن سنها يتجاوز سبع سنوات، وهو ما يعني أن صاحبة “Qui est si Bekkaï?” لم تلجأ نهائيا إلى الذاكرة بحكم أنها لم تعاصر والدها أيام شغله منصب الوزير الأول في أول حكومة بعد الاستقلال، ولا خلال سفرياته إلى فرنسا قبل نفي السلطان محمد بن يوسف.
في هذا الكتاب، تُعيد الابنة ذ. نعيمة الهبيل الحياة إلى وثائق البكاي الشخصية وأرشيف البوليس السري الفرنسي، وترسم صورة للعسكري والترجمان، الباشا ثم الوزير الأول، الذي طالما زاوج في صوره الرسمية والشخصية بين ارتداء الجلباب والبذلة الأنيقة، بدون أي حرج…
حاورها: يونس جنوحي
++++++++++++++++++++++++++++++++
ذ. نعيمة الهبيل التجمعتي: “كانت لدي رهبة وخجل من الكتابة عن حياة والدي”
في البداية أريد أن أبدأ معك من نقطة العلاقة بالوالد البكاي ولد امبارك الهبيل، وهي أنك لم تعاصريه لمدة طويلة خلال حياته الحافلة بالأحداث، فقد توفي سنة 1961، وعمرك وقتها لم يكن يتجاوز سبع سنوات. كيف خطرت لك فكرة تأليف كتاب عن حياته؟
+أظن أن الطريقة التي يكتب بها المرء كتابا، لا يمكن معها أن تضبط وتُعدد الدوافع التي أدت إلى ميلاده كلها مئة بالمئة.
بالنسبة للكتب التي ألفتها قبل كتاب: “من هو سي البكاي؟”، جاءت كلها بعد تجارب وأبحاث. مثلا، سبق لي تأليف ثلاثة كتب عن مدينة فاس والمدينة العتيقة وتراثها، بعد عشر سنوات تقريبا من الأبحاث. وكان دائما يلازمني إحساس بخصوص المقالات التي سبقت لي كتابتها والندوات التي شاركت فيها، أنه يتوجب عليّ تتويجها بعمل روائي. فقد انتبهتُ إلى عدد من الأمور والتقيت عددا من الشخصيات. ووصلتُ مرحلة بدأتُ أحس فيها أن هذه الكتب قد فرضت وجودها بشكل من الأشكال.
بعد ذلك كتبتُ رواية تناولت فيها مشكل مدن الصفيح، وهو عمل أدبي جاء بعد ثلاث أو أربع سنوات اشتغلتُ خلالها على مدن الصفيح في المغرب ككل.
ولكي أجيب عن سؤالك بخصوص الكتاب عن سي البكاي، فقد كنتُ بدأت الاشتغال على المشروع بحيث يكون فيه شقان، جانب تاريخي وجانب روائي.
هل كان لديك تخوف أن تكتبي عن شخصية البكاي ولد امبارك؟
+نعم. كان لدي ما يشبه نوعا من الخجل، أو “الرهبة”. وهذا مردّه إلى أنني كنت صغيرة جدا عندما توفي رحمه الله. ثم أيضا كان لدي تخوف من الإحاطة بالشخصية أكاديميا، بحكم أننا كما تعلم، نُعمل قاعدة “أذكروا أمواتكم بخير”. والدي أصبح بالنسبة للعائلة، والدتي والإخوان والأقارب، شخصية يتحدثون عن كل ما هو إيجابي بخصوصها. وعندما قررتُ الكتابة عنه لم أكن مرتاحة بهذا الخصوص. فقد كنت أرغب في أن أكتب عن شخصيته بشكل متكامل وأحيط بها من كل الجوانب.
بالنسبة لي كل شخصية، كيف ما كان صاحبها، تتكون من عدة جوانب. وهنا أستحضر مقولة تعجبني كثيرا لفيلسوفة فرنسية: “الشخص في حد ذاته برلمان”.
البكاي نشأ يتيما ووالده خُطف في حادثة غامضة
تقصدين أنك بصدد دراسة تاريخية عن شخصية البكاي؟
+أريد أن أشير هنا إلى نقطة مهمة، وهي أنني قبل أن أكتب هذا الكتاب: “من يكون سي البكاي؟”، كنت قد انخرطتُ في مشروع أنجزت فيه حوالي 80 بالمئة. وهو يتعلق بكتاب يحضر فيه الجانب التاريخي، والجانب الروائي أيضا.
وهنا سوف أعطيك مثالا. عندما بدأتُ عملية الكتابة، اكتشفتُ مسألة لم تكن العائلة تتحدثُ عنها، وهي أن جدّي، والد البكاي ولد امبارك، وكان قايدا، قد اختُطف من داره. حدث هذا سنة 1914، ووالدي وقتها لم يكن عمره يتجاوز سبع سنوات. وتمت عملية الاختطاف فجرا، وارتكبتها مجموعة من الرجال، بعضهم كانوا يتحدثون باللغة الفرنسية. واغتيل، وبقي مصير جثمانه مجهولا.
لا يزال مصيره مجهولا إلى حد الآن؟
+نعم. إلى حد الآن لا تزال هذه الواقعة محاطة بالغموض. هناك فرضيات واحتمالات. لكن لا يُعرف من نفذ الاختطاف ولا أسبابه. لأن الفرنسيين نفوا أن يكونوا مسؤولين عن العملية.
أين تمت عملية الاختطاف؟
+ في منطقة بركان. كان يسكن في قرية “جعرة”، وهي تبعد عن بركان حوالي عشرة أو خمسة عشر كيلومترا.
عندما بحثتُ في الموضوع، وجدتُ أن جدي رئيس قبيلة بني يزناسن، ومع قبائل أخرى، كانوا جميعا يواجهون الجيش الفرنسي وصمدوا أمامه لمدة. والجيش الفرنسي دخل إلى وجدة سنة 1907 ومنها إلى المنطقة الشرقية، أي قبل 5 سنوات على اتفاقية الحماية الموقعة سنة 1912.
مولده صادف استسلام “بني يزناسن” وهو من وقّع وثيقة استقلال المغرب
بالعودة دائما إلى سيرة الأب البكاي ولد امبارك الهبيل.. كيف رصدت بدايات حياته في علاقته بهذا المحيط؟
+كنتُ قد بدأت البحث في كتابات أحد العسكريين الفرنسيين، واسمه “الكابيتان بوانو”. هذا العسكري كتب تقارير مفصلة عن المنطقة، واكتشف أن القبائل، ومن ضمنها قبيلة بني يزناسن التي ينتمي إليها البكاي ولد امبارك، قد جمعوا آلاف الرجال ووصل عدد المحاربين ضد الجيش الفرنسي إلى 3500 محارب. لكن الجيش الفرنسي كان أقوى، واستعمل وسائل وحشية لقمع هذه القبائل. مثل إحراق المحاصيل الزراعية، وسرقة أغنامها، وهو ما جعل هذه القبائل تستسلم.
وهنا أريد أن أشير إلى أن الدافع الأقوى الذي جعلني أقرر أن أمضي في كتابي عن والدي، وهو عندما اكتشفتُ أن والدي وُلد في نفس الفترة التي قرر فيه والده الاستسلام ووضع السلاح سنة 1907. فقد وُلد بعد أسبوعين على عملية الاستسلام، في بداية شهر يناير، حيث أسس الفرنسيون ثكنة عسكرية لهم في المنطقة، وصعدت مجموعة من الجنود الفرنسيين إلى قمة جبل تافوغالت، معقل قبيلة بني يزناسن وعائلة “الهبيل”، ورفعوا أول عَلم فرنسي.
وهكذا فهناك دلالة رمزية من وراء هذه القصة، تبقى غريبة جدا. ومكمن الغرائبية هنا أن البكاي وُلد في نفس العام الذي استسلم فيه والده ونفس العام الذي رفع فيه الفرنسيون أول عَلم لهم في المغرب قبل الحماية. وهو نفسه الرجل الذي سوف يوقع يوم 2 مارس 1956، على وثيقة الاستقلال التي تُلغي هذه الحماية. وشخصيا رأيتُ في هذين الحدثين معا، رمزية تتعلق بشخصية البكاي. وهو ما حفزني على الكتابة. وبالمناسبة، هناك عمل مقبل، أرجو أن أنتهي منه قريبا يُطبع في القريب، أعتبره مُكملا للعمل التوثيقي الذي بدأته في الكتابة عن سيرة البكاي.
حسنا، بعد الحديث عن دوافع تأليف هذا الكتاب، نمر إلى أقوى معالمه أو محطاته. كيف تناولت الحقائق التاريخية المتعلقة بحياة الوالد؟
+هناك سياق خاص يتعلق بخروج الكتاب إلى الوجود لم أتطرق إليه. عندما كنتُ في خضم عملية الكتابة، التقيتُ بالسيدة ثريا بوعبيد الجعيدي، وهي فاعلة جمعوية، وتشتغل مع مجموعة من الجمعيات ولها فروع في مدن مختلفة، وتُشرف على “مدرسة السيرك”، وتناضل لمحاربة الهدر المدرسي وأسبابه، وتستقطب المنقطعين عن التمدرس إلى العلم. والشهر المقبل سوف تفتح فرعا في منطقة أمزميز في مراكش للعمل مع الأطفال في إطار محاربة الهدر المدرسي.
هذه السيدة عندما التقيتُها في إحدى الندوات، أخبرتها أنني أكتب كتابا عن والدي سي البكاي. حدث هذا قبل عامين، واتصلت بي وقالت لي إنها تتألم لأنها اكتشفت أن شُباننا ليس لديهم أي إلمام أو اطلاع على تاريخ المغرب. إلى درجة أنها وجدت طفلا لا يعرف من يكون محمد الخامس. وطلبت مني أن أكتب كتابا من الحجم المتوسط، وأن تكون قراءته سهلة، ويكون موجها إلى الشباب.
أعجبتني الفكرة، ووضعتُ الرواية التاريخية التي كنت بصددها جانبا، وانهمكتُ في هذا المشروع. وإذا رأيت هذا الكتاب: “من يكون سي البكاي؟” سوف ترى أن الأمر يتعلق بسلسلة “أعلام” مغربية. وعندما نسقنا مع دار النشر، واتُخذ القرار أن يصبح المشروع سلسلة من الكتب في هذا الإطار. وبدأنا بأولها والذي يحمل عنوان: “من يكون سي البكاي”.
“القايدة طاما“.. والدة البكاي أصرّت أن يتعلم بمدارس الفرنسيين
هل الحقائق التاريخية التي تناولتها في هذا الكتاب كلها مقتبسة من المراجع الأجنبية كما أشرتم سابقا، أم هناك توظيف لذاكرة العائلة التي عاش أفرادها مع سي البكاي؟
+عندما أشرتُ إلى واقعة اغتيال والد سي البكاي، فهذا أمر لم أطلع عليه في المراجع الفرنسية. واسمح لي هنا أن أوضح. تحدثوا عن دوره باعتباره “قايد” واجه الجيش الفرنسي وقاومه.
ما مصدر واقعة الاغتيال إذن؟
+هذا أمر كتبه أخي عاشور الهبيل، وهو أخي الأكبر. فقد ألف كتابين عن سي البكاي. وفي كتابه يحكي أن جدتي رحمها الله، والدة سي البكاي، هي التي حكت له هذه الواقعة. قالت له إن المختطفين جاؤوا فجرا ونفذوا الاختطاف. وأنها قضت مدة وهي تتردد باستمرار على سجن وجدة لاقتفاء أخباره، والاحتجاج لدى الفرنسيين. فقد كانت مقتنعة أن الفرنسيين هم الذين اختطفوه. لكنهم أنكروا أي صلة بموضوع اختفائه.
هل أثرت والدة البكاي في حياته؟ وهل لك أن تقربينا من طفولته؟
+والدي درس في المْسيد إلى حدود سنة 1920. أي إلى أن بلغ سنّه 13 سنة.
وفي هذا السياق، أطلق الفرنسيون وقتها مدارس ابتدائية خاصة بأبناء الأعيان.
ففي نواحي وجدة وبركان، كانت هناك عائلات استعمارية كثيرة، واضطروا إلى بناء مدارس لكي يتابع فيها أبناء (Les Notables) دراستهم.
وعندما بدأ والدي دراسته في هذه المدارس، كان معه ابن عمه وجزائريان. والبقية كلهم كانوا تلاميذ فرنسيين.
ومن الأمور الغريبة جدا، أن والدته رحمها الله هي التي كانت وراء انتقاله من المْسيد إلى المدرسة الفرنسية. وهي التي اتخذت هذا القرار، رغم أنها لم تكن مُتعلمة. وهذا دليل على ذكائها. كانوا يلقبونها في المنطقة “القايدة طاما”، وكانت لها حظوة كبيرة في القبيلة، حتى أنها كانت تتجول في المنطقة مُمتطية حصانها، وكاشفة عن وجهها، في وقت لم تكن فيه النساء يظهرن في الفضاء العام. وفرضت وجودها.
فهمتْ أنه من المهم أن يتعلم ابنها لغة المستعمر، وأن يتلقى تعليما عصريا، رغم أنها كانت في البادية، حيث تسود أفكار مقاطعة المدارس الفرنسية والنفور منها.
هل وجدت وثائق تعود إلى فترة دراسة سي البكاي في المدارس الفرنسية؟
+كانت هذه المدرسة أول تجربة له مع اللغة الفرنسية ومع الفرنسيين عموما، وسوف يتفوق بسرعة في جميع المواد.
وعندما أسس الماريشال ليوطي المدرسة العسكرية “الدار البيضا”، في مكناس، كان الغرض منها جمع المتفوقين والنخب لتكوين أطر عسكريين ومدنيين. وشرط الالتحاق بهذه المدرسة كان واضحا، وهو التفوق في اللغة الفرنسية، وفارسا ممتازا، وأن يكون التلميذ منتميا لواحدة من عائلات النخبة. وهذه الشروط كلها كانت تتوفر في سي البكاي.
المراقب المدني للمنطقة، هو الذي كان مكلفا باقتراح أسماء الشبان الذين تتوفر فيهم هذه الشروط. رفعت اللوائح إلى لجنة المدرسة في مكناس، وبعد دراستها، اختيرت مجموعة من الأسماء ورُفعت في لائحة إلى المقيم العام، وهو الذي يختار شخصيا الأسماء النهائية. إلى درجة أن الأسماء النهائية التي اختيرت للدراسة في مدرسة مكناس العسكرية لم يكن عددها يتجاوز 12 تلميذا فقط. وسي البكاي كان في اللائحة النهائية واستفاد من تكوين عسكري ومدني هناك، على يد أطر من أعلى مستوى. وهذه التجربة فتحت لسي البكاي آفاق مهمة، إذ استفاد من جولة علمية شملت كل مناطق المغرب، التقى خلالها بشخصيات مغربية وفرنسية، وكوّن فكرة عن النخب في المغرب.
الوالد تخرج في البداية مُترجما وليس عسكريا. صحيح؟
+صحيح. لدي مجموعة من الوثائق أحتفظ بها، وهي عبارة عن ملاحظات الأساتذة ونتائج دراسية باسم سي البكاي، تؤكد أنه كان الأول على دفعته عندما تخرج من المدرسة العسكرية في مكناس. وقد استوقفتني بعض الملاحظات التي وضعها الأساتذة، حيث شهد بعضهم أن البكاي يتوفر على خصال القائد بحكم تفوقه في الرياضة وفي العلوم أيضا.
اشتغل سي البكاي أولا مترجما في المحكمة العسكرية في مكناس لمدة ثلاث سنوات. وقضى ثلاث سنوات أخرى في سوريا، فقد التحق باعتباره عضوا في فرقة “الصبايحية” -Spahis Les- وهم مجموعة من الفرسان في الجيش الفرنسي، أنشأت سنة 1834، وتمثل “سلاح الفرسان” في الجيش.
حارب في سوريا مع فرنسا وأسر في الحرب العالمية وفقد ساقه
كيف تُفسرون التحاق البكاي ولد امبارك الهبيل بالجيش الفرنسي، رغم هذا العداء العائلي المبكر مع فرنسا؟
+في كتابي حاولت ما أمكن أن أتناول شخصية سي البكاي، وأستنتج ملامحها من خلال أعماله.
مثلا؟
+هناك أمر أشرتُ إليه في خاتمة الكتاب، واستنتجتُ بعد انتهائي من كتابة “من يكون سي البكاي؟” أنه كان لديه وعي شخصي بمدى الدور الذي يمكن أن يلعبه في الشأن العام. كانت لديه قناعة أنه كشخص، لديه مسؤولية، وأنه يتوجب عليه أن ينخرط فيها، وأعطيت مجموعة من الأمثلة.
مثلا عندما شارك في الحرب العالمية الثانية، وسوف أحكي لك كيف التحق بالمدرسة العسكرية وكيف قاتل في صفوف الجيش الفرنسي، فقد انخرط فيها منذ بدايتها سنة 1940، وذهب إلى شمال فرنسا. وهذا الفصل الذي تناولت فيه مشاركته في الحرب، توفرت لدي بخصوصه مراجع كثيرة.
تقصدين مراجع فرنسية عسكرية؟
+وجدتُ مراجع عبارة عن وثائق شخصية لسي البكاي. فقد كتب مقالا مطولا نشره في مجلة “الدار البيضا” التي تُصدرها هذه المدرسة العسكرية -تحمل نفس الاسم وتوجد في مكناس- والمقال نُشر سنة 1953، أي بعد نهاية الحرب.
وعثرتُ أيضا على مجموعة من الرسائل صاحبها كولونيل عسكري، وباحث في نفس الوقت، اسمه “موني”، والذي حضّر أطروحة درس فيها هذه المرحلة المبكرة من الحرب العالمية الثانية. وتطرق فيها للدور الذي لعبه “الصبايحية”. وعندما شارك في الحرب العالمية الثانية كان وقتها يحمل رتبة “ليوتنان”.
كيف التحق سي البكاي بالحرب العالمية، أريد أن تحكي لنا كيف انخرط فيها.
+أعلنت الحرب العالمية الثانية سنة 1939. وفي سنة 1940، كان سي البكاي يوجد في مراكش ونواحيها، في إطار مهمة. فقد كان وباء “التوفيس” منتشرا بقوة في المدينة، وكان الوضع خطيرا، وطُلب من الجيش أن يساعد القياد في التصدي للوباء.
ومباشرة بعد إعلان دخول فرنسا في هذه الحرب، خطب السلطان سيدي محمد بن يوسف وقتها وقال إنه يتوجب على المغرب أن يساعد الفرنسيين في محنتهم ولو أن المغرب مُستعمر من طرف الفرنسيين، فإن المغرب في هذه المحنة يجب أن يكون بجانب فرنسا.
وجاءت اللحظة التي طلب فيها الجيش الفرنسي أن ينتقل “الصبايحية” إلى فرنسا لكي يعززوا موقف الجيش في مواجهة النازية. وهنا أريد أن أشير إلى أنني وجدتُ وثائق كثيرة لسي البكاي، ووظفتها في هذا الفصل الخاص بالحرب، وتفاصيلها كثيرة جدا لا يمكن التطرق إليها كلها، إلى درجة أنني كنتُ أحس وأننا أحرر هذا الفصل أننا نكتبه معا à quatre mains كما يقول الفرنسيون، من كثرة ما وظفتُ مقتطفات رسائله وأيضا المقال الذي كتبه في مجلة “الدار البيضا”.
كيف عاش البكاي تجربة الحرب العالمية الثانية ومواجهة النازية في فرنسا؟
+لم تكن هذه المهمة سهلة. فقد دخل الفرنسيون الحرب وهم يعتقدون أنهم أقوى جيش في العالم. لكن ما وقع أن الجيش الفرنسي عاش فظاعات الحرب وكان في قلب مجزرة، وتفوق عليه الجيش النازي الألماني.
هناك شهادات كثيرة ووثائق تتعلق بمشاركة سي البكاي في هذه الحرب عندما ذهب إلى فرنسا. وكلها تُجمع على أنه صمد في الحرب. وهناك أمثلة كثيرة في هذا الباب، وهنا أذكر أحدها، عندما وجد نفسه مرة مطوقا بالدبابات الألمانية. وقد تعرض لإصابة بالرصاص، وسقط أرضا، ووجد نفسه أسير حرب. وبسبب الإصابة التي تعرض لها على مستوى الساق، فقد تقرر أن تُبتر. وعثرتُ على شهادات كثيرة لمسؤولين فرنسيين، اقرّوا فيها بالدور الذي لعبه في القتال، ومُنح له وسام اعترافا بأنه بطل حرب ضد النازيين. وفي مقاله الذي أشرتُ إليه سلفا، كتب يقول إن القدر كتب له أن يولد في بلد تحتله فرنسا. لكنه باعتباره رجلا حُرا، فقد اختار أن يذهب إلى مدرسة عسكرية، وأن يختار هذه المُهمة التي هي أكبر من مجرد مهنة. وأنه اختار أن يواجه النازيين.
فرنسا تتجسس على والدي منذ 1952 عندما كلفه السلطان بمهام
كيف جاءت مغادرة البكاي ولد امبارك للحياة العسكرية؟
+عند نهاية مهمته، عاد سي البكاي إلى المغرب. وبحكم استحالة أن يستمر في الجيش، فقد قدّم استقالته، وأصبح “قايد” لمدة سنتين، ثم أصبح باشا في مدينة صفرو لتسع سنوات، إلى أن ذهب إلى منفاه الاختياري في باريس.
سوف نصل إلى مرحلة باريس. كيف عاش سي البكاي مرحلة اشتغاله في السلطة، خصوصا وأن الوضع في المغرب وقتها كان يعرف صراعا بين الأعيان والوطنيين، أدى لاحقا إلى نفي السلطان محمد بن يوسف؟
+عندما كان سي البكاي باشا في صفرو، سوف يبدأ منذ سنة 1951، في الإعلان عن انتقاداته لمواقف الباشا الگلاوي. ففي هذه الفترة بدأ الكلاوي في التحرك لعزل السلطان سيدي محمد بن يوسف. واتصل في هذا السياق بمجموعة من الباشاوات والقياد لكي ينضموا إليه في حملته ضد السلطان، واتصل بسي البكاي الذي رفض هذه المسألة.
وفي نفس الوقت نلاحظ أن التقارب بين البكاي وسيدي محمد بن يوسف قد بدأ في نفس الفترة.
تقصدون أن هناك وثائق ورسائل تؤكد وجود اتصالات؟
+ما توفر لدي بهذا الخصوص، ونشرته في الكتاب، تقارير الشرطة السرية الفرنسية. اطلعتُ على مجموعة من التقارير يذكر فيها الفرنسيون مثلا أنهم لاحظوا أن البكاي توجه إلى القصر الملكي ثلاث مرات هذا العام.
هناك وثيقة أخرى تفيد أن سي البكاي في يوم 28 ماي 1952، سوف يتوجه لأول مرة في مهمة إلى باريس بأمر من السلطان سيدي محمد بن يوسف.
ما طبيعة هذه المُهمة؟
+كان الغرض منها أن يُحاول طرح خطورة سياسة الحماية الفرنسية في المغرب، أمام الرأي العام والمسؤولين الفرنسيين.
بعد ذلك، وفي سنة 1953، سوف تأتي العريضة التي كان وراءها الباشا الكلاوي، لجمع توقيعات القياد والباشاوات والمطالبة بعزل السلطان.
وحسب وثائق أرشيف البوليس السري الفرنسي، فإن سي البكاي كانت له ثلاثة لقاءات في القصر الملكي خلال شهر يوليوز من نفس السنة.
أي قبل شهر على نفي السلطان محمد بن يوسف..
+اللقاء الأول كان في الرابع من يوليوز، والثاني في العاشر من نفس الشهر. والثالث يوم 17 منه. وقد لعب ولي العهد وقتها الأمير مولاي الحسن دورا كبيرا في التخطيط لهذه اللقاءات.
والفرنسيون كتبوا في هذه التقارير السرية ما مفاده أن هناك تقاربا بين السلطان و”هذا الضابط السابق” ووصفوه -أي البكاي- بأن لديه موقفا وسطا ومكانة مهمة في المشهد المغربي.
ابتداء من سنة 1953 سوف يعلن البكاي عن قناعته أن مسألة العرش ليست من ضمن اختصاصات الحماية، ووقف ضد الگلاوي، مع الأقلية القليلة جدا من القياد والبشاوات الذين صرحوا للصحافة يستنكرون موقف الكلاوي ومن معه.
كان الأمر يتعلق بكل من قايد مكناس، والباشا الصبيحي في سلا، والباشا الفاطمي بنسليمان في فاس، وباشا صفرو الذي هو طبعا سي البكاي.
كيف عاش البكاي إذن لحظة نفي السلطان محمد بن يوسف؟
+أرسل سيدي محمد بن يوسف، البكاي في مهمة إلى باريس، وعندما كان هناك بلغه خبر نفي السلطان. إذ أن سي البكاي ولد امبارك ذهب إلى فرنسا مرفوقا باثنين من الفرنسيين اللذان كانا يؤيدان القضية المغربية. وبعد يومين فقط على وصوله إلى باريس، التقى رئيس الجمهورية الفرنسية وقتها “فينفسنت أوريول”، وفهم البكاي وقتها أن الرئيس الفرنسي كانت لديه مشاكل أخرى يعتبرها ذات أولوية على القضية المغربية. وفي نفس اليوم التقى رئيس الحكومة الفرنسية، وفهم منه أن المغرب ليس مطروحا في أولويات أجندات الحكومة. واضطر البكاي إلى عقد ندوتين صحفيتين لكي يفسر للرأي العام الفرنسي خطورة الوضع. وكتب رسالة إلى الأمير مولاي الحسن، ولي العهد، يشرح له فيها ما وقع ويطلب فيها المشورة والتوجيه لاتخاذ خطوة مناسبة، وسواء العودة إلى المغرب أو البقاء في فرنسا. وجاءه الجواب لكي يبقى في فرنسا.
وبعد أسبوع وقع نفي السلطان، واختار سي البكاي أن يبقى في باريس، ويتخذها منفى “اختياريا” له. وكتب له السلطان من المنفى رسالة مطولة، ورائعة، يُهنئه فيها على موقفه ويشجعه. ويمكن القول إن سي البكاي أصبح ناطقا غير رسمي باسم السلطان في فرنسا خلال فترة المنفى. وكان أثناء كتابته في الصحف ومنحه تصريحات للصحافة الفرنسية يردد دائما أن لديه محبة للفرنسيين بحكم تكوينه وثقافته، ولكنه في نفس الوقت لديه وفاء للسلطان سيدي محمد بن يوسف ولبلاده.
حين جلس البكاي وحيدا في مواجهة فرنسا في إكس ليبان
هل هذا التوافق ما جعل الاختيار يستقر على البكاي ولد امبارك لكي يصبح أول وزير أول في المغرب بعد الاستقلال؟
+تماما. لأنه فرض نفسه أولا كرجل ثقة، ليس بالنسبة للفرنسيين وحدهم، وإنما أيضا بالنسبة للوطنيين المغاربة. إذ المعروف أن سي البكاي، في الوقت الذي حصد فيه عداء الفرنسيين المؤيدين للكلاوي، فقد ربح مساندة الفرنسيين الذين كانوا في صف القضية المغربية.
لكن ما وقع لاحقا أن تجربته على رأس الحكومة كانت قصيرة جدا، ولم تستمر التجربة. كيف تقرأين هذا الوضع؟
+هنا أعود إلى شهادة عبد الرحيم بوعبيد التي تعود إلى سنة 1955، كما سجلها بنفسه، وقد كان وقتها قياديا بارزا في صفوف قياديي حزب الاستقلال. فقد تحدث عن التهييئ لمحادثات إكس ليبان. ونعلم أن الوطنيين وقتها انقسموا إلى فئتين. الأولى رفضت حضور المحادثات مع الحكومة الفرنسية وقاطعتها، والثانية حضرت وقالت إنه يتوجب المشاركة لتعزيز الموقف المغربي.
وحسب ما كتبه عبد الرحيم بوعبيد، فقد كان هناك اعتراف بمشروعية حضور سي البكاي لتلك المحادثات، واعتبر أن لديه صلاحية تمثيل الشعب المغربي وتمثيل السلطان إلى جانب الوطنيين الذين كانوا يقاسمونه نفس تلك الخصائص.
لكن هناك اتهامات بوقوف حزب الاستقلال وراء إنهاء تجربة حكومة البكاي سريعا.
+لكن في البداية، إذا اطلعت على شهادة سي عبد الرحيم بوعبيد، وقد وظفت مقاطع مهمة منها في كتابي، فقد كتب يقول إن لحظة حضور وفد حزب الاستقلال للمحادثات في إكس ليبان، كان سي البكاي دائم التواصل معهم وكان هناك تنسيق واتفاق رغم أن سي البكاي لم يكن عضوا في حزب الاستقلال ولم لديه ما يُملي عليه هذا الأمر. بل إن عبد الرحيم بوعبيد قال إنه عندما يتم الاتفاق على موقف مع سي البكاي، فإنهم يُدركون في الحزب أنه سوف يصمد في موقفه. أكثر من هذا، بوعبيد قال إنهم في حزب الاستقلال كانوا يتركون سي البكاي يأخذ الكلمة، وقال في حقه بالفرنسية إن حضوره وحده كان كافيا لشل الخصوم. وكتب حرفيا: “Sa présence seule, desarme l’adversaire”. وجدير بالذكر أن سي البكاي كان الوحيد الذي حضر لوحده بشكل فردي أمام ممثلي الحكومة الفرنسية في جلسات الاستماع.
ولماذا في نظرك لم تصمد حكومته طويلا رغم أنها تضمنت وزراء من حزب الاستقلال، وهناك إجماع أن الحزب أراد تمثيلية حكومية أكبر وانتهت تجربة حكومة البكاي.
+أنا لستُ سياسية. لقد أنهيتُ كتابي بهذه المسألة في الخاتمة.
سي البكاي لعب دورا مهما في هذه المرحلة الحاسمة التي سبقت الاستقلال.
وحزب الاستقلال قبل بسي البكاي لكي يكون وزيرا أول، ووافقوا على اسمه وانضموا إليه. لكن مباشرة بعد ذلك، برزت صراعات داخل حزب الاستقلال، ثم صراعات بين الاستقلال وأحزاب أخرى. وسي البكاي اتخذ موقفا قال فيه إنه ضد الحزب الوحيد. ووضع استقالته.
إذن البكاي ولد امبارك استقال قبل أن تُعدم تجربته الحكومية؟
+سي البكاي استقال في مناسبتين. وقد فاتني أن أشير إلى أنه استقال من منصبه كباشا سنة 1953، بعد نفي السلطان محمد بن يوسف وقال إن ضميره لا يسمح له أن يشتغل مع نظام غير شرعي.
ثم قدم مرة أخرى استقالته وهو وزير أول، وقال في تصريح صحافي إنه لا يستطيع الاشتغال في هذا الجو. وبعد استقالته دافع دائما عن الحرية العامة وعارض ظاهرة الحزب الوحيد.
سؤال أخير.. بعد هذه التجربة في الكتابة عن شخصية البكاي ولد امبارك، كيف تنظرين إليها في النهاية؟
+هناك تصريح أدلى به سنة 1957 لصحيفة “لوموند” الفرنسية، يلخص فلسفته وشخصيته، ونظرته إلى الحياة عموما، وأحب فعلا أن أختم به. يقول في معرض جوابه على كلام المارشال “جوان” المعروف بسياسته العدائية ضد المغرب خلال فترة الحماية، والذي ألّف كتابا، وهاجم فيه البكاي رغم أنه لم يذكره بالاسم، إلا أن الجميع فهموا أنه يقصد البكاي. وهكذا فقد ردّ عليه سي البكاي دون أن يذكره بالاسم أيضا، لكن الجميع عرفوا أنه يقصد المارشال جوان. وهنا أقتبس لكم جملة فقط من تصريحه. يقول: “مع أنني أعارض تماما ما قمتم به في شمال افريقيا، فأنا مع ذلك لم أرتكب خطأ اتهام فرنسا كلها. إن مشاعري نحو فرنسا تسمح لي بالتمييز الواجب بينها وبين بعض الفرنسيين الذين ارتكبوا أحيانا أخطاء جسيمة في حق المغرب”.