
منذ أكثر من عقدين، اهتزت أوروبا على وقع واحدة من أكبر وأبشع القضايا التي طالت براءة الأطفال؛ قضية «أقراص زاندفورت»، التي كشفت عن شبكة دولية مرعبة من الاستغلال الجنسي للأطفال. أحداث مرعبة، شخصيات نافذة، وشهادات مؤلمة تتشابك في سرد يعكس هشاشة القيم الإنسانية في مواجهة قوى الظلام. تحقيق صحفي لصحافيين من منبرين إعلاميين فرنسيين كشف النقاب عن خبايا واحدة من أخطر الشبكات الإجرامية في العالم، ويتساءل عن دور السلطات وتغاضيها عن حماية البراءة وفرض العدالة.
إعداد: سهيلة التاور
في عام 2000، كشف صحافيان، أحدهما في صحيفة «لومانيتي» والآخر في «لوفيغارو»، بعد أشهر من التحقيق، عن وجود شبكة واسعة من الاستغلال الجنسي للأطفال وتجارة المواد الإباحية عبر أوروبا، في ما عُرف لاحقا باسم «قضية أقراص زاندفورت».
في يوليوز 1998، سلم مارسيل فيرفلوسيم، مؤسس جمعية لحماية الطفولة، إلى الشرطة البلجيكية والهولندية علنا 21 قرصا مدمجا (CD-ROM) تحتوي على عشرات الآلاف من الصور ومقاطع الفيديو الإباحية للأطفال، بما في ذلك مشاهد اعتداء واغتصاب وتعذيب لأطفال صغار جدا، معظمها تم التقاطها في استوديوهات مخصصة، وأحيانا داخل منازل رعاية اجتماعية للأطفال، أو ضمن بيئات أسرية.
وفي إطار تحقيقه في اختفاء طفل ألماني يُدعى مانويل شادفالد، اختفى منذ 1993 وكان عمره 12 عاما، توصل فيرفلوسيم إلى خيط في مدينة زاندفورت بهولندا، حيث واجه رجلا يُدعى غيريت أولريخ، والذي سلمه تحت الضغط قرصا مدمجا يحتوي على صور للطفل. وبعد أيام، اغتيل أولريخ في منطقة توسكانا الإيطالية على يد روبي فان دير بلانكن، أحد المزودين في الشبكة نفسها. قبل وفاته، وبعد توبته، كشف أولريخ لفيرفلوسيم عن مكان 20 قرصا آخر في شقته.
موقع «أبولو»
كان أولريخ يدير من شقته في زاندفورت موقعا لتجارة المواد الإباحية للأطفال يسمى «أبولو»، وهو اسم يخت يملكه صديقه ليو فان غاسلت، حيث كان يستغل الأطفال جنسيا، بعضهم تم اختطافهم من دول أوروبا الشرقية، ويتم تخديرهم وتقديمهم إلى زوار من علية القوم. يُعتقد أن الطفل مانويل شادفالد قُتل على هذا اليخت، بعدما تم استغلاله في بيوت دعارة في روتردام وأمستردام، وذلك أثناء وجود شخصيات بارزة على متن اليخت.
ذُكر اسم مسؤول هولندي كبير يُرمز إليه بـ«J.D» في التحقيقات، وكان قد شغل مناصب عليا بين عامي 1982 و2012 في مجالات الشرطة والعدل والهجرة والعلاقات الدولية. وقد وُجهت إليه اتهامات سابقة بالاعتداء الجنسي على أطفال، خصوصا في تركيا، ويبدو أنه كان يتمتع بـ«حماية عليا».
على الجانب البلجيكي، ذُكرت أيضا، عند الاطلاع على محاضر الشرطة الفيدرالية من عام 1996، أسماء «إ.د. ر» و«ج.ب. ج»، وكانا حينها على التوالي نائب رئيس الوزراء ووزير التعليم العالي، بل وحتى اسم الأمير «أ.»، وقد اجتمعوا خلال طقوس أورجيات شيطانية مع أطفال – والتي لا تعدو أفلام «سالو» لباول باسوليني و«عيون مغلقة على اتساعها» لستانلي كوبريك (الذي وُجد ميتا، مثل نظيره الإيطالي، بعد أيام فقط من إنهاء مونتاج فيلمه)، إلا أن تكون نسخا مخففة ورومانسية منها.
في فرنسا، عام 2000، ربط المحققون هذه الأحداث بقضية «جاك دوغي» من أواخر السبعينيات، الذي أدين بتهم استغلال جنسي للأطفال وتصوير مواد إباحية.
وقد تبين أن إحدى الصور في ملف زاندفورت، التي تظهر رجلين -أحدهما قاضٍ معروف- يعتديان على طفل، كانت أيضا ضمن ملفات قضية «كورال» التي تفجرت عام 1982، والتي اتُّهم فيها وزير الثقافة حينها «ج.ل»، وابن شقيق الرئيس «ف.م»، و«ج.ب. ر»، قاضي الأحداث ورئيس محكمة بوبيني.
بفضل تحقيقات الصحافيين «سيرج غارد» و«لورانس بينو»، وفحص دفاتر ملاحظات وعناوين «غيريت أولريخ» التي صودرت من شقته، تمكن المحققون من تحديد أسماء عملاء وأرقام حسابات مصرفية من جميع أنحاء أوروبا (خصوصا من أوروبا الشرقية) والولايات المتحدة، تعود إلى أفراد ومؤسسات، منها البنك الوطني الأوكراني، والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية الذي أسسه «جاك أتالي» في 1991.
باختصار، يمكن تفسير الصمت العام والجمود المؤسسي في هولندا وبلجيكا من خلال هذه الشبكات المعقدة، حيث تم الإفراج عن «مارك دوترو» في أبريل 1992 – قبل أن يختطف «جولي» و«ميليسا»- بقرار من «م. و»، وزير العدل آنذاك، والذي ورد اسمه أيضا في شهادات ثلاث ضحايا، منهن «ريجينا لوف»، مؤلفة كتاب «صمتا، يُقتَل الأطفال!». للأسف، القائمة ما زالت مفتوحة.
تمكن المحققون الفرنسيون، بمساعدة العائلات، من التعرف على 81 طفلا مفقودا على الأقل، من بينهم أطفال من إنجلترا والولايات المتحدة، من خلال ملف زاندفورت. لكن، وعلى الرغم من هذه الأدلة، قامت السلطات القضائية في بلجيكا وهولندا وفرنسا وألمانيا بإغلاق الملف دون متابعة، رغم الجهود التي بذلتها جمعية «مارسيل فيرفلوسيم».
شخصيات نافذة في الشبكة
أصبح من الواضح أن زبائن شبكة «أبولو» لم يكونوا مجرد منحرفين معزولين، بل شخصيات نافذة في السياسة والقضاء والإعلام، بل وحتى بعض أفراد الأسر الملكية الأوروبية، بحسب شهادات متعددة.
ولأن هذا النظام مغلق بإحكام من جميع الجهات، بواسطة شبكات قبلية غير مرئية ومنظمة، فإن أصوات الأطفال الناجين، رغم معاناتهم وشجاعتهم في التحدث، غالبا ما تُقمع وتُهمش ويشكك فيها عبر تقارير نفسية فاسدة، أو عبر قضاة متواطئين. وتعد «قضية أوترو» مثالا بارزا على ذلك.
وفي نمط معروف من التلاعب، تم اتهام «مارسيل فيرفلوسيم» نفسه بنشر مواد إباحية للأطفال والاعتداء على قاصر، رغم أن «الضحية» المزعومة اعترفت لاحقا بأنها تلقت أموالا لتقديم ادعاءات كاذبة.
ويُحتمل أن الأطفال والمراهقين في ملفات زاندفورت، الذين لم يُعثر على جثثهم أبدا، قد استُخدموا في تصوير أفلام «سنف موفيز»- أي أفلام تُوثق جرائم قتل حقيقية، غالبا ما تكون طقسية ومصحوبة باعتداءات جنسية- قُدموا كقرابين في سوق الانحراف البالغ.
لذا، من المرجح جدا، كما أكد «فيرفلوسيم»، أن هناك شريط فيديو يظهر «مانويل شادفالد» في وجود شخصيات مؤثرة، وقد يكون هذا الشريط قد استُخدم لاحقا كورقة ابتزاز دبلوماسي في لعبة جيوسياسية خفية.
وعند معرفة أسعار هذه الفيديوهات، والتي تباع اليوم جزئيا في الدارك نت، يصبح واضحا أن جماعات إجرامية منظمة في العالم، خصوصا في المناطق التي يكون فيها الأطفال أكثر هشاشة، تخدم طلبات شبكة من المتحرشين بالقُصَّرِ، تشمل أفرادا عاديين وأصحاب سلطة غارقين في انحرافهم، وبعضهم مرتبط بطقوس شيطانية حقيقية.
طقوس «الولاء» في عالم المافيا
لمن لا يملك خلفية في علم النفس المرضي، قد تبدو هذه الممارسات المجنونة غريبة، لكنها تشبه طقوس «الولاء» في عالم المافيا: عبر تجربة أقصى درجات العنف، يتم ضمان الولاء المطلق، وتُبنى روابط السلطة والتفوق. والتعدي على طفل، وهو أسمى درجات الظلم، يمثل نوعا من «التضحية المقدسة» لكسب مكانة مفترس متسلط في المجتمع.
كما أن طقْسنة العنف من خلال الإيمان بـ«قوى الشر»، والاندماج في أورجيات بلا حدود، يتيح تبرير محو التعاطف الداخلي. وغالبا ما ينتهي الأمر بالمشاركين في هذا الجحيم – سواء الجلاد أو الضحية- إلى الانتحار أو الإدمان أو الاغتيال.
السؤال المطروح؛ هل السلطة تؤدي إلى الانحراف، أم أن الانحراف هو ما يؤدي إلى السلطة؟ وبالطبع، هناك درجات متفاوتة من الجريمة الجنسية ضد الأطفال، تتراوح من مستهلك الصور إلى من يطلب تنفيذ القتل، مرورا بالقوادين والعملاء العرضيين. ولهذا، نحتاج إلى قضاء مستقل كليا، بعيد عن الهيمنة الهرمية، ليعيد فتح هذا الملف الحارق، ويدافع عن الطفولة ككنز من الأمل لا يمكن انتهاكه.
فمع مرور الوقت، تنهار الحصانات القبلية، وقد يجد من ظنوا أنهم بمنأى عن المحاسبة أنفسهم في مواجهة الواقع. كما رأينا في المسيرة البيضاء عام 1996 في بروكسيل، أو في فضيحة «إبستين» الأخيرة، فإن فضح هذه الجرائم من قِبل إعلام حر قد يكون الشرارة التي تشعل ثورات شعبية قادمة.