دين و فكر

في ضرورات التعايش

د. محمد ديـرا
يعد التعايش نزعة فطرية أودعها الله سبحانه وتعالى في الإنسان، بحيث يتعذر عليه أن يعيش بمفرده مهما أوتي من قوة بدنية أو مادية، وهو من باب أولى لا يستطيع كفرد أن يبني حضارة أو يؤسس لثقافة، وذلك ينسحب على الدول والجماعات في هذا العصر وفي كل العصور، حيث يستحيل أن تعيش دولة بمعزل عن غيرها من الدول، أو جماعة في انقطاع تام عن غيرها من الجماعات، وقد أثبتت الدراسات بأن أشد العقوبات أثرا على النفس هو ما يعرف بعقوبة العزل، حيث يفصل الإنسان تماما عن محيطه الاجتماعي، وتقطع صِلاته الإنسانية مع غيره من البشر، حتى وإن توفرت له في عزلته كل أسباب الراحة والرفاهية. ولقد أشارت دراسات اجتماعية إلى أن الأفراد الذين عوقبوا بما يعرف بـ «العزل الاجتماعي» لفترات طويلة ظلوا يعانون أمراضا اجتماعية ونفسية طوال حياتهم، وكثير منهم لم يعد إلى حالته السوية رغم المجهودات التي بذلت من أجل ذلك.
وإذا تجاوزنا العامل الفطري إلى العامل الديني، فلن نجد أي دين كتابي أو وضعي يدعو إلى القطيعة أو يحبذ التقوقع والانكفاء على الذات، بل العكس هو الحاصل، إذ نجد جميع العقائد والشرائع ترى في التعايش الإيجابي خيارا لا مناص عنه من أجل إعمار الأرض وبناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة، وفي الاختلاف حكمة التعارف التي أشار إليها القرآن الكريم صراحة في قوله تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم» (سورة الحجرات: 13).
ومن ثم كان التعايش مطلبا دينيا تناولته الأدبيات والفلسفات الدينية، ودعا إليه ومارسه الأنبياء والمصلحون، ولولا ضيق المقام لأوردنا نصوصا وأثبتنا مواقف وفصلنا القول في أدبيات كثيرة في هذا الإطار (ستأتي في مقالات لاحقة إن شاء الله)، ولا شك والحالة هذه أن أي دعوة تبرر الصراع أو تروج للصدام هي دعوة منافية لجوهر الدين وتصطدم بالحكمة الإلهية المتمثلة في اختلاف ألسنتنا وألواننا وتفرقنا في الأرض شعوبا وقبائل ليخدم بعضنا بعضا.
وإذا انتقلنا من العامل الديني إلى العامل الاقتصادي فسنجده هو الآخر يتأثر سلبا وإيجابا بدرجة التعايش بين الأفراد والأقوام والأمم، فكلما سمت قيمة التعايش في إطار الاحترام المتبادل والاعتراف بالخصوصيات العَقدية والثقافية كلما كان المناخ مهيأً لتحقيق معدلات تنموية عالية، والعكس صحيح أيضا، فكلما ساد التوتر واحتكم الناس إلى العنف والقوة في تسوية خلافاتهم كلما هبطت معدلات التنمية، بل قد تتعرض إلى انتكاسات مدمرة، ولسنا في حاجة إلى التدليل على ذلك ونحن نتابع كل يوم ما تخلفه الصراعات والصدامات من تأثير على الإنجازات المادية والحضارية الإنسانية في العراق وسوريا وأفغانستان وإفريقيا… في حين نجد كثيرا من الأشياء تحققت بالتعايش والاستقرار الاجتماعي في مناطق تنوعت فيها العقائد والأعراق مثل ماليزيا وأستراليا وأغلب دول أوربا.
وإذا كنا تحدثنا سابقا عن التعايش الذي يكون طرفاه معا هو الإنسان في صورته الفردية أو المجتمعية أو الدولية فإن هناك تعايشا آخر طرفه الأول هو الإنسان في إحدى الصور التي أشرنا إليها والمحيط البيئي بمجمله وبتعدد مكوناته، وهو تعايش لا يقل أهمية عن تعايش الإنسان مع أخيه الإنسان، إذ لا يمكن أن نجد لهذا الإنسان كوكبا آخر تتحقق له الحياة فوقه إذا ما عمد إلى تدمير كوكبه هذا، أو الإسهام في ذلك بأي صورة من الصور. لذلك فإن العمل على إفساده أو تلويثه أو تدمير مكوناته يعد قتلا للإنسان نفسه، يقول سبحانه وتعالى: «من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا» (سورة المائدة: 32). كما أن الإسراف في استهلاك خيراته وسوء استغلال موارده والعبث بها، وحرمان الأجيال القادمة منها يعد من المحرمات التي تحدث عنها القرآن الكريم بوضوح، يقول سبحانه: «كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين» (البقرة: 60) وقال سبحانه: «ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين» (القصص: 77). ولا شك أن هذا الأمر تتفق حوله كل العقائد والشرائع.
ختاما، فالتعايش من القضايا التي تستأثر اليوم باهتمام عالمي غير مسبوق، خاصة بعد ظهور نظريات تؤسس للصراع الحضاري والصدام الثقافي، وتنامي حركات التطرف والعنف. لكن المعول بعد الله سبحانه وتعالى على حكماء هذا العالم وعلمائه من أجل العمل الجاد والدؤوب لانتصار قيم الخير والسلام والتعايش لنؤسس معا لمستقبل أكثر أمنا لأجيالنا القادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى