
بقلم: خالص جلبي
لنحاول الآن أن نترسم خطى العناء الإنساني والجهد الجبار الذي بذل حتى أمكن الكشف عن تراث القرون، وتم التعرف على كم ضخم من الإنجازات الإنسانية في صورة الحضارات، التي انبثقت من مجتمعات بدائية أمكن الكشف عن حوالي ستمائة مجتمع منها، ولكن الحضارات التي انبثقت كانت في حدود ثلاثين (أوصلها توينبي في النهاية إلى 32 حضارة)، أيضا في لغز حومت حوله الأسئلة عن السر في نهضة مجتمع ما من البدائية إلى الحضارة.
سنعرض الآن لنموذجين من الاكتشاف الحضاري، الأول في الحضارة الفارسية، التي كشف عن ألغازها البريطاني رولنسون، الذي بقي يتسلق الحبال إلى ارتفاع ثلاثمائة قدم لمدة اثني عشر عاما، من أجل فك ألغاز اللغة الفارسية القديمة، وبالتالي انبعاث الحياة في الحضارة، والإمساك بمفتاح الترجمان عبر التاريخ، ليقف فيروي لنا قصة الحضارة.
والنموذج الثاني هو حجر رشيد الذي كشف عنه شامبليون، فوقع مغشيا عليه، بعد جهد مضن استغرق عشرين سنة، فلما فك أسرار اللغة واستطاع القراءة أطل الفراعنة من قبورهم ينفضون عن عيونهم غبار القرون ليخاطبوه.
إيوان كسرى بين نظرتي الشاعر وعالم الآثار
عندما مر الشاعر (البحتري) على إيوان كسرى في القرن الثالث الهجري الموافق للتاسع الميلادي، ذهل للعظمة التي ما زالت تحملها الأعمدة في أطلال المدينة الكسروية في بقايا مدينة برسوبوليس، التي عمرت قرونا طويلة. وتحت تأثير هذا السحر الذي خطف بصره لم يصدق أهو صناعة جن، أم أنس، يتخيل فيها القوم يعيشون يمارسون حياة عظيمة في عتمات الماضي السحيق.
وقف ينشد الشعر ويخلد إيوان كسرى بهذه الأبيات الجميلة، وقد أخُذ بالمشاهد، وانبهر بصره من عظمة هذه الآثار، التي عجز هارون الرشيد عن هدمها حينما عزم على ذلك (1)
حضرت رحلي الهموم فوجهت إلى أبيض المدائن عنـــــسي
أتسلى عن الحظـــوظ وآسى لمحلٍ من آل ساســـان درس
ذكرتنيهم الخطــوب التـــوالي ولقد تذكر الخطوب وتنسي
وهم خافضون في ظـــل عال مشرفٍ يحسر العيون ويخسي
ليس يدري: أصنع إنس لجن سكنوه أم صنع جن لإنــــس
غير أني أراه يشــــهد أن لم يك بانيه في الملوك بنـــــكس
فكأني أرى المراتـب والقوم إذا ما بلغت آخر حســــــــي
وكأن الوفود ضاحين حسرى من وقوف خلف الزحام وخنس
وكأن القيان وسط المقاصير يرجحن بين حو ولعــــــــس
وكأن اللقاء أول من أمس ووشك الفراق أول أمــــــس
عمرت للسرور دهرا فصارت للتعزي رباعهم والتأســـــي
فلها أن أعينها بدمـــــوع موقفات على الصبابة حبــس (2).
حجر رشيد ولكن في أرض فارس
تحت ضغط الانبهار بالعمل العظيم الذي خلفته فارس، أصيب شاعرنا البحتري المنبجي (مدينة منبج في الشمال السوري) بالذهول، فلم يتمالك نفسه، فانطلق لسانه بكلمات الشعر الجميلة وهي الصناعة التي يعرفها، إلا أن هذا المنظر ترك أثرا مختلفا عند عالم الأثريات (هنري رولنسون) الذي تسلق حبلا ـ بعمل لا يخلو من المخاطر ـ ليقرأ النقوش التي تركها دارا، في عمل استغرق 12 سنة، من أجل فك رموز اللغة الفارسية القديمة، فكما كان لفك لغز الكتابة الهيروغليفية قصة مثيرة باكتشاف حجر رشيد، فإن فك لغز الكتابة الفارسية القديمة حصل فيها تطور مثير من نوع مشابه.
مراجع وهوامش:
- جاء ذكر هذه الواقعة في مقدمة ابن خلدون حيث نفاجأ بخبرين يسترعيان الانتباه، الأول منهما محاولة الخليفة العباسي هارون الرشيد، فعندما بطش بالبرامكة أرسل إلى خالد بن يحيى في محبسه يستشيره في هدم إيوان كسرى، فنصحه بأن لا يفعل ذلك، حتى يشعر الرشيد بعظمة الحضارة التي ينتسب إليها، تلك التي هزمت وورثت الحضارة التي قبلها، ولكن الرشيد ظن أن هذا نوع من التعاطف الخفي الذي يُكِنُه البرمكي لحضارة فارس، فقال: (أخذته النعرة للعجم والله لأصرعنه، وشرع في هدمه وجمع الأيدي عليه واتخذ له الفؤوس وحماه بالنار وصب عليه الخل)، المقدمة ص 246 ـ إلا أن الرشيد عجز عن ذلك، وأما المأمون ـ ولا نعرف الدوافع الخفية لعمله ـ فإنه قام بعمل مماثل حيال الهرم فيذكر ابن خلدون أنه جمع الفعلة لهدمه فلم يستطع. ويحتمل أنه أفضى إلى بعض الحجرات الداخلية السرية، ولا يستبعد أن يكون قد وصل إلى بعض الكنوز الأثرية. جاء عن عملية حفر الهرم في المقدمة ما يلي:(وشرعوا في نقبه فانتهوا إلى جو بين الحائط والظاهر وما بعده من الحيطان، وهنالك كان منتهى هدمهم وهو إلى اليوم، فيما يقال منفذ ظاهر ويزعم الزاعمون أنه وجد ركازا بين تلك الحيطان والله أعلم)، المقدمة، ص:247. ولعل البحث عن الكنوز كان دافعا لم تفصح عنه النقاب كتب التاريخ، حيث تبين أن أعدادا لا نهاية لها من الأجيال الفرعونية، تحت فكرة عقيدة اليوم الآخر والانتفاع بالكنوز في تلك الحياة، جعلهم يدفنون الكثير من كنوزهم معهم، وبذا كانت القبور الفرعونية دوما هدفا مغريا للصوص المقابر، فهم يبحثون ليس عن المومياء، بل الذهب، ولا يهمهم حرمة الأموات في كثير أو قليل. (2) ديوان البحتري ـ حياته وشعره ـ إصدار دار كرم بدمشق ـ إعداد ضحى عبد العزيز ـ ص: 53 حرف السين ـ وعاش البحتري بين 206- 285 هـ، أي في القرن الثالث الهجري، وهو من مدينة منبج التي تقع إلى الشرق من حلب قريبا من نهر الفرات، ومدح الخليفة العباسي المتوكل وعاصر الشاعر أبو تمام، وانضم كلاهما إلى جوقة المداحين، تحصيلا للمال كما جرت العادة في تلك الأيام ـ العنس: النياق ـ درس: بال قديم ـ الحو واللعس: سمرة مستحبة في الشفاه.
نافذة:
تحت ضغط الانبهار بالعمل العظيم الذي خلفته فارس أصيب شاعرنا البحتري المنبجي (مدينة منبج في الشمال السوري) بالذهول فلم يتمالك نفسه فانطلق لسانه بكلمات الشعر الجميلة وهي الصناعة التي يعرفها





