كريم أمزيان
ملف «جرائم الأموال» الذي تفتحه «الأخبار»، يعيد إلى الأذهان موضوع تفاقم المشاكل التي تعانيها الجالية المغربية المقيمة في الخارج، فضلا عن تردي مستوى الخدمات المقدمة من قبل الموظفين في القنصليات والسفارات المغربية ببلدان المهجر، سواء من حيث تسريع الإجراءات الإدارية، أو جودتها. فقد سبق للدبلوماسية المغربية في دولتين أوربيتين، أن عرفت اختلالات أدت إلى إعلان غضبة ملكية على بعض ممثلي الدبلوماسية المغربية، كانت سببا مباشرا في إنهاء مهام 70 في المائة من القناصل المغاربة، وبداية لتنفيذ مشروع حركة واسعة في صفوفهم، بهدف وضع حد للاختلالات والمشاكل التي تعرفها بعض القنصليات. كما صدرت تعليمات بالحرص على اختيار القناصل الذين تتوفر فيهم شروط الكفاءة والمسؤولية، والالتزام بخدمة أبناء الجالية المغربية بالخارج، تنفيذا لتعليمات صارمة، من أجل تحسين جودة الخدمات القنصلية.
أحداث هذا الملف دارت رحاها في مدينة «بريتوريا»، التي تبعد بحوالي أربعين كيلومترا عن مدينة «جوهانسبورغ»، العاصمة الاقتصادية لجنوب إفريقيا، حيث توجد سفارة المغرب التي تغطي عددا من الدول المحاذية لها، على الرغم من أن المغرب ما زال لم يعين فيها سفيرا، بالنظر إلى دعم هذا البلد للطرح الانفصالي، وانضمامه إلى البلدان التي تقف في صف الجزائر وصنيعتها «البوليساريو».
خلال أيام قليلة بعد تفجر الملف، الذي عاد بطله إلى استئناف عمله في الرباط، بعد انتهاء مدة إلحاقه، واعتبره مسؤولون مغاربة فضيحة كبرى بكل المقاييس، بعدما علموا أن بطلها لم يكن سوى موظف مغربي تم تكليفه بمهمة في قنصلية المغرب بإحدى الدول التي ليست علاقتها مع بلادنا على أحسن ما يرام، فورط نفسه في ملف جنائي ثقيل، تطور إلى جريمة مالية في بلد كان يجب عليه أن ينأى بوضع نفسه في موقف يخدش صورة المغرب، في الوقت الذي يجب على ممثليه فيه خدمتها وتلميعها، وصدرت تعليمات صارمة بالتدقيق مع كل المسؤولين الذين يمثلون الدبلوماسية المغربية في دول العالم، فيما أمر مسؤولون بضرورة متابعة المتهم في هذا الملف، حتى يكون عبرة لزملائه.
إلحاق ثم فضيحة
بالرجوع إلى تفاصيل هذا الملف ووثائقه، سيتبين أنه متعلق بموظف يدعى (ع.ق.ل)، رأى النور في اليوم الأول من سنة 1956، بمدينة تازة، وكان يشتغل متصرفا من الدرجة الأولى بالخزينة العامة للمملكة، وهو أب لطفلين يقطنان معه بشقة في حي اليوسفية بمدينة الرباط.
بداية فصول هذا الملف، الذي جرت أحداثه في مدينة «بريتوريا»، بينما يتم التحقيق فيه بالرباط، انطلقت مباشرة بعد الشكاية التي تقدم بها الوكيل القضائي للمملكة نيابة عن الدولة المغربية، إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالرباط، في مواجهة الموظف المذكور، من أجل تهمة «اختلاس أموال عمومية»، واستنادا إليها جرى فتح بحث في الموضوع.
لم تتأخر مجموعة البحث الأولى بالفرقة الولائية للشرطة القضائية بولاية أمن الرباط سلا تمارة الخميسات، في بداية بحثها التمهيدي الذي يعد خطوة أولى في التحقيق في هذا الملف، بتعليمات من النيابة العامة، الذي أنجزت بشأنه محضرين للضابطة القضائية، بتاريخ 10 شتنبر 2013، اللذين جرت إحالتهما على الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بالرباط، بعد البحث مع المتهم الذي تقررت متابعته في حالة اعتقال، قبل إحالة المسطرة على قاضي التحقيق بالغرفة الخامسة في المحكمة ذاتها.
خلال الفترة التي عين فيها محاسبا لشساعة سفارة المغرب بجنوب إفريقيا، والتي امتدت من يوليوز 2008 إلى غشت 2012، اكتشف بعدها المحاسب الجديد اختلاسات، فتم وضع شكاية في الموضوع، جرى بعدها اعتقال المتهم الذي توبع في حالة اعتقال من قبل قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بالرباط.
الفترة التي انصب عليها بحث عناصر الشرطة القضائية، هي تلك التي عين فيها محاسبا لشساعة سفارة المغرب بجنوب إفريقيا، التي امتدت من يوليوز 2008 إلى غشت 2012.
المتهم الذي عرف أن تهمة ثقيلة تحاصره، اعترف أنه حين تسلم مهامه لم يجد أي اختلالات مالية، بالمركز المحاسبي الذي عمل فيه، حيث أكد وهو يجيب عن تساؤلات المحققين، أنه وجد كل السجلات المحاسبية دقيقة، إلى جانب وثائق تبرز المداخيل والنفقات، التي كان يتصرف فيها المحاسب الذي سبقه، وأنها متوازنة ولم يعثر على أي خلل يشوبها، بعدما عمل على تفحصها، إلا ما تعلق بعقود عمل الأعوان المحليين التي لم يتم تجديدها، فأكد على أنه عمل على وجه السرعة آنذاك على مراسلة وزارة الشؤون الخارجية والتعاون، وطالبها بالعمل على تجديدها.
ميزان محاسبة «مختل»
إجراء البحث التمهيدي معه، كشف أنه خلال كل سنة من السنوات التي قضاها محاسبا في سفارة المغرب بـ«بريتوريا»، كان يقوم بإنجاز ما يسمونه «ميزان المحاسبة المالية»، استعدادا للسنة المالية الجديدة. ولم يغفل التأكيد على أن المبلغ المالي الذي قدمت شكاية بشأنه، من قبل لجنة التفتيش التابعة للخزينة العامة للمغرب التي حلت بسفارة المغرب بجنوب إفريقيا، حيث كان يزاول مهامه، والمقدر بحوالي 200 مليون سنتيم، إنما يضم مجموعة من مصاريف السفارة لشهري يوليوز وغشت 2012، بما قدره 1.691.457.30 درهما، وأنه كان يعد الحوالات الخاصة بها، من أجل تسليمها إلى خزينة البعثات الدبلوماسية بوزارة الشؤون الخارجية والتعاون، وأن سبب تأخره في تقديمها، مرده إلى مرض كان يعاني منه، ولم يمكن إدارته من أي ملف طبي بخصوصه.
وإذا كان قد اعترف بمآل المبلغ المالي المذكور، أكد في الوقت نفسه، جهله بمبلغ 351.776.50 درهما الوارد ضمن الشكاية، التي كانت سببا في اعتقاله وإجراء البحث معه، مشددا على أنه لم يكن يمسك أي سجل محاسباتي متعلق بها، وإنما كان يعتمد في جل الأحيان على حاسوب السفارة من أجل تسجيلها.
صك الاتهام الذي توبع به المتهم، متعلق باختلاس أموال عمومية، وفق ما تابعه به قاضي التحقيق، الذي اعترف له أن الاستثناء الوحيد في ما يخص مالية السفارة، متعلق بمبلغ 40 ألف درهم، عبارة عن مرجوع لم يتم قبوله من طرف خزينة البعثات الدبلوماسية والقنصلية بوزارة الخارجية والتعاون في الرباط، لما أسمته، وفق ما أكده، «خللا في الشكل»، ولم يتم إصلاحه من قبل المحاسب السابق، وأكد أنه لم يعرف السبب وراء ذلك وأنه زاول مهامه بشكل عادي، إلى غاية 2009 وهي السنة التي أعيدت إليه فيها «مرجوعات» خزينة البعثات الدبلوماسية والقنصلية بوزارة الخارجية.
تلك المرجوعات أكد، وفق ما صرح به خلال التحقيق معه أنه لم يعمل على تصحيحها إلى غاية سنة 2010، مع مرجوعات أخرى، لكن الخزينة عملت مجددا على إرجاعها إليه بسبب ما أسماه «عيبا شكليا»، متمثلا في ضرورة تأريخ الأمر بالأداء بتاريخ يتعلق بالشهر الذي جرى إصلاحها فيه، وهي التصحيحات التي لم يعمل على تنفيذها، والتي أفاد أنه لا يتذكر قيمتها الإجمالية لعدم وجود اعتمادات جارية سنة 2011، ليتم إنهاء إلحاقه يوم 31 غشت 2012، وحل محله مسؤول آخر، وأن اضطرابات نفسية منعته من إرسال وثائق تبرز صرف المبلغ الذي يتهم باختلاسه، الذي اكتشف المحاسب الجديد اختفاءه دون تبرير، فوضع الأخير شكاية في الموضوع، جرى اعتقاله بعدها بتعليمات من النيابة العامة.
تحقيقات بعد نهاية الإلحاق
بعد بداية إجراءات التحقيق مع المتهم أصدر الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالرباط بدوره أمرا مرة أخرى إلى ضابط للشرطة بمجموعة للبحث بالفرقة الجنائية الولائية للشرطة القضائية، بولاية أمن الرباط سلا تمارة الخميسات، عدد 2013/30، بتعليمات من قاضي التحقيق بالغرفة الخامسة، بمحكمة الاستئناف بالرباط، بتاريخ 14 نونبر 2013، يرمي إلى إجراء بحث اجتماعي حول شخصية المتهم (ع.ق.ل)، وعن حالته العائلية والاجتماعية وجرد حساباته البنكية والبريدية العائدة إليه، وفحص حركة حساباته، من أجل تقديم إفادات دقيقة في ما يخص الملف الذي كان يحمل رقم 2013/20، وهي التعليمات التي نفذها ضابط الشرطة، باعتباره مساعدا للنيابة العامة.
إجراء ضابط الشرطة للبحث المطلوب منه، ثم عودته بنتائج ستساهم في تقدم التحقيق الذي يجريه قاضي التحقيق، الذي يرى أنه بناء عليها، سيتقدم أكثر وفقا لما سيصل إليه ضابط الشرطة المذكور، جعل هذا الأخير ينتقل على وجه السرعة إلى مؤسسة بنك المغرب بحي الرياض الرباط، وفيها عمل على إيداع ملف يطلب من خلاله الحصول على معلومات متعلقة بجرد للحسابات البنكية والبريدية للمسمى (ع.ق.ل)، وهو مسار البحث الذي لم يمكنه من بلوغ أي أهداف، ما جعله ينتقل إلى المحافظة العقارية بالرباط، للتأكد ما إذا كان المتهم يتوفر على عقار مكتوب باسمه، وهو ما تم كشفه بعد تنقيط هويته على الناظم الإلكتروني للمصلحة نفسها، فتبين أنه لا يتوفر على أي سكن باسمه في مدن الرباط وسلا وتمارة والصخيرات وبوزنيقة.
ومن أجل تقديم كل المعطيات المطلوب منه، كان على ضابط الشرطة أن ينتقل إلى المقاطعة الحضرية التابع لها المتهم بغية البحث عن معلومات بشأنه، إذ لم يجد سوى الاستعانة بعون سلطة، وبعد أن قدم له نفسه، أكد له أن المعني بالأمر متزوج من السيدة، (ز.ز)، تشتغل موظفة بوزارة العدل، وبالضبط في محكمة الاستئناف، حيث يجري التحقيق مع زوجها، وفيها تمت محاكمته في ما بعد، ولهما ابنان، الأول مزداد سنة 1987 والثاني سنة 1990.
وبخصوص ممتلكاته، تبدى لضابط الشرطي الذي يجري تحقيقه، ليعود بنتائجه إلى رئيسه، أن المتهم يتوفر على سيارة من نوع «داسيا لوغان»، كان قد باعها واشترى أخرى جديدة الصنع من «داسيا ساندرو» فور عودته إلى المغرب، قادما من سفارة بلادنا بجنوب إفريقيا، الواقعة في مدينة «بريتوريا».
أما بخصوص مسكنه فقد اتضح له أن الشقة التي يسكنها في عمارة بحي اليوسفية بالرباط، كان يقطن فيها أخ له وهو دركي سابق، حينما كان يزاول مهامه في سفارة المغرب بجنوب إفريقيا، قبل أن يعود إلى الاستقرار فيها مباشرة بعد عودته.
كل هذه المعطيات التي كانت في نظره ضرورية، جعلت قاضي التحقيق، يعتمدها بالإضافة إلى تلك المتوفرة لديه، ويقرر إحالة المتهم في حالة اعتقال على الهيأة القضائية المكلفة بقسم جرائم الأموال، بمحكمة الاستئناف بالرباط، التي سبق أن أصدرت في ملفه الذي حمل رقم 07/2624/2014 قرارا تمهيديا في دجنبر 2014، يرمي إلى إجراء خبرة حسابية، لتحديد قيمة المبالغ التي بقيت بذمة المتهم، بعد انتهائه من ممارسته عمله بالسفارة المذكورة، اعتمادا على جميع الوثائق الحساباتية الممسوكة من قبل الجهة المشتكية، وهي الخبرة التي أجراها الخبير (إ.ر)، التي تبين بعدها من خلال التقرير المنجز والمودع بكتابة الضبط، أن قيمة المبالغ المالية التي بقيت بذمة المتهم، هي نفسها التي سبق لرئيسه المباشر في العمل، أن حددها بدقة، وهو ما جعل المحكمة آنذاك، تؤكد ثبوت فعل الاختلاس، بعدما تجاوز المبلغ 100 ألف درهم، وفقا لما ينص عليه الفصل 241 في الفقرة الأولى من القانون الجنائي المغربي، الذي كان موظفا بمفهوم الفصل 224 من القانون الجنائي، وأن عملية الاختلاس بحسب المحكمة، استهدفت أموالا عامة عهدت إليه مراقبتها من أجل حسن تدبيرها.
تهمة تكلف السجن والتعويض المدني
عاشت محكمة الاستئناف بالرباط، بتاريخ 20 أبريل من العام الماضي، يوما استثنائيا، فقد كانت تنظر فيه في قضية ملف زوج موظفة في المحكمة، نال ملفها تعاطف جميع زملائها، باستثناء الهيأة القضائية المكلفة بقسم جرائم الأموال بغرفة الجنايات الابتدائية بالمحكمة ذاتها، التي تجردت من كل الاعتبارات منذ إحالته عليها، من قبل قاضي التحقيق بالغرفة الخامسة، وكان قانون المسطرة الجنائية، هو المرجع الوحيد الذي تعتمده دون سواه، خصوصا لما عقدت جلسة علنية بقاعة الجلسات الاعتيادية، ترأسها القاضي محمد كشتيل، بمعية الجيلالي بوحبص مستشارا ومقررا، ورشيد وظيفي بصفته مستشارا، والقاضي عبد السلام العذاز نائبا للوكيل العام للملك وممثلا للنيابة العامة، فضلا عن مساعدة البشير التاقي بصفته كاتب ضبط. وبناء على المعطيات المتوفرة لديها ونتائج الخبرة التي توصلت بها، عملت على الحكم عليه ابتدائيا، بسنتين حبسا نافذا في حدود سنة واحدة وموقوفا في الباقي، وبأدائه لفائدة الوكالة القضائية للمملكة التي انتصبت طرفا مدنيا تعويضاَ مدنيا قدره 340 ألف درهم، وهو الحكم المستأنف بعد إرجاع المتهم المبلغ الذي تم تحديده من قبل الخبير، على الرغم من مطالبة دفاع المطالب بالحق المدني بإرجاع مبلغ 2.492232.43 درهما، المحدد وفقا لمذكرة مطالبها المدنية من قبل لجنة التفتيش والافتحاص.