
يونس جنوحي
لا يتعلق الأمر بانحدار مفاجئ في الذوق العام. هذا الزحف من القُبح كان يزحف أمام أعيننا طوال الوقت..
عندما تتدخل السلطات لإفراغ مساحة خضراء، من الذين حاولوا تحويلها إلى مطعم شعبي مفتوح، فإن هناك خللا ما في تعاطي الناس مع الفضاء العام.
وعندما يتحرك المسؤولون لتحرير الملك العمومي، بعد أن تشارف الطريق العمومية على الانصهار تحت موجة الكراسي والواقيات الشمسية، فإن هناك مشكلا كبيرا في التعامل مع كل ما هو عمومي.
قديما قيل إن الوجه «المشروك» لا ينال نصيبه من الماء.. لكن مصير الوجه المشترك الآن أن يُقسم، وكل من وصل إلى جزء منه، فإنه يقتطعه لنفسه، ربما لكي «يغسله» على انفراد.
كل شيء قابل للقسمة. الناس يقتطعون من الملك العام مساحات محترمة ويُلحقونها بباحات الفيلات والمنازل، ودائما يتعين على جرافات السلطة أن تُصدر هديرها بين الفينة والأخرى، لتذكر «المُحتلين» بأن «التحرير» وشيك..
كل ما هو عمومي، يُشعل لدى المتربصين «عقيدة» الفوضى.
في مدينة طنجة، تضطر السلطات العمومية إلى توزيع لافتات المنع من الدوس على العشب في بعض المناطق، التي صارت فيها نفايات المتنزهين أكثر من العشب.. وفي المناطق التي تُمنع فيها السباحة، تنفق الدولة ميزانيات محترمة لتوزيع أفراد القوات المساعدة المكلفين بحراسة هذه المناطق. ورغم ذلك، فإن مئات القاصرين يتسللون إلى هذه المساحات ويسبحون، وغالبا ما ينتهي اليوم باختفاء أحدهم، قبل أن يلفظه الموج في منطقة أخرى.. عائلات كثيرة فقدت أبناءها بهذه الطريقة. أطفال قاصرون يفترض أنهم تحت الرعاية الأبوية، لكن أفراد أسرهم يُسلمونهم حرفيا إلى الشارع العام، ويبادلونهم مع البحر، مقابل بضع ساعات من السكينة، و«نوم» هانئ بعد الظُهر.
في قطار «البُراق» فائق السرعة.. لا يتوقف التسجيل الصوتي نهائيا عن تذكير الناس أن الحديث في الهاتف ممنوع داخل العربات.. لكن لا توجد عربة واحدة لا يتحدث فيها اثنان على الأقل هاتفيا. وأحيانا يُجري عدد من الركاب مكالمات هاتفية في الوقت نفسه.. ويصبح البقاء داخل العربة أشبه بجلسة تعذيب حقيقية. «البُراق» نفسه سيكره أن يُطلق اسمه على قطار يجر عربات تُمارس فيها هذه السلوكيات..
ركاب ينزعون أحذيتهم في عز الصيف، وآخرون يتركون كؤوس القهوة في جنبات الكراسي، وقلة تحاول الخروج من الرحلة بأقل الخسائر العصبية والنفسية، ويفضلون التخلي عن مقاعدهم، والجلوس خارج العربات إلى أن تنتهي الرحلة التي تُقلهم بسرعة تتجاوز 300 كيلومتر في الساعة.
رغم كل هذه المؤشرات على مشاكل الذوق العام، هناك من لم يفهموا بعدُ كيف تسلل «صناع» الفرجة المبتذلة إلى منصات المؤسسات التعليمية والتربوية.
هذا الزحف الخطير استمر لسنوات طويلة.. والأطفال الذين ترونهم أطفالا، استأنس أغلبهم بكلمات من قاموس الإدمان و«التقطاع» وقاموس مصطلحات السجن «للمحترفين»…
إذا كانت السلطات العمومية تشن حملاتها لتحرير الملك العام من الفوضى، فإنه لا توجد – للأسف- ضوابط لتحرير الذوق العام من هذه الشوائب. والله وحده يعلم كم يتعين علينا أن نساير انتشار «الحمقى» في الغابات والأماكن المخصصة للتنزه، وهم يسمعون الموسيقى من مكبر صوت بحجم طفل في الخامسة، دون أن يتدخل أحد ليُفهمهم أن الناس يأتون إلى هذه الأماكن لينعموا بالهدوء، ويهربوا من هذه الموسيقى التي تركوها وراءهم في المقاهي، والأسواق، وحتى في المدارس!





