شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرثقافة وفنحوار

محمد الشركَي للأخبار: يجب أن يكون الكاتب صادقا مع جرحه الشخصي

ليس من المتيّسر تقديم محمد الشركَي، دون أن تخيّم علينا تلك الظلال الآسرة منذ شرع كلّ واحد منّا من القرّاء في تتبع “عتباته البدائية” (بجريدة “العلم” المغربية) التي كانت تشدّنا إلى عوالم مسحورة. تأتي مثل فيض غامر من كلمات امتلكت روحا ووجودا زاخرا بالحياة. جاء “العشاء السفلي” ليقودنا توا إلى الأغوار السحيقة، ثم “كهف سهوار ودمُها” و “السراديب” و “نورها في الأعماق” الذي ضمّ الأعمال السابقة. يأتي هذا الحوار ليضيء لحظات البدايات، والمكان الأوّل، والحضور عبر مسافات الغياب، والسلالة الرمزية، والعزلة، والموقف من الوفرة والندرة، وأخيرا “العشاء السفلي” عابرا للأجيال.

تقول في حوار أجراه معك الناقد خالد بلقاسم : “بفضل وجه ناء ولامع، وصدع الحنين الغائر الذي حفره غيابه في أعماقي، تورطت في قراءات كانت تتجاوز سني، وظل ترفه الوجدانيَ ملازمي كهدية حرصت على صونها، ووعد خصيب لم ينفك يسر إليَ بأنني ربما ملاقيه في تمظهر آخر قد ينبثق من أيَ مكان آخر”. يمكننا اعتبار ذلك الوجه النائي واللامع هو الكناية والمرتكز الرمزيَ للكتابة المبكَرة. هل ينبغي أن نأتي إلى الكتابة دوما مبكرين، أو صباحيين على حد قول الشاعر روني شار؟

يقال إنَ آداب الضيافة تبدأ عند العتبة. لذا يسرَني، في عتبة هذا الحديث، أن أرحب بك وبجريدة “الأخبار” المغربيَة التي تفضَل مديرها العام الصديق رشيد نيني، مشكورا، باقتراح فكرة هذا الحوار عليَ. إنَ أثمن هدية يمكن تقديمها لكاتب هي أسئلة تضيئه. لأن السؤال قبر الوثوقيات ومخلخل الهويات المنمطة. والكتابة أيضا ابنة السؤال المرتاعة بكلَ هذا الليل التاريخيَ العربيَ، ولذلك ما أشبهها بالوجه الأنثويَ النائي واللامع لتلك السيدة التي جعلها بيكاسو تحمل الفانوس لتطلَ على المجزرة في جدارية “غرنيكا”. وحين يتمكن المرء من الوصول إلى الكتابة مبكَراً فإن هذا لا يعني سوى أنَ روحه أحست بالوحشة والغربة أبكر من المعتاد، وأنها أدركت على نحو غامض، بفضل قراءات حاسمة ومكابدات وجوديَة، أنَها عالقة منذ الولادة في فخ رهيب، وأنَ عليها أن تبحث في غابة اللغة عن الكلمات المفتاحية التي يمكن أن تسعفها في فهم ميكانيزم الفخ، وتاريخه الطويل، وسلالات الأيادي التي وضعته، قبل البدء في المحاولات المؤلمة للإفلات منه. ألم يعلَمنا روني شار، هذا الشاعر الصباحيَ الذي تفضلت بالإشارة إليه، والذي أنارته بروق الليل الكبير، أن “الكلمات التي ستنبثق منَا تعرف عنَا أموراً نجهلها “؟ ذلك أن الكلمات كائنات روحانية محملة بخيرات الحياة الزاخرة وبودائع الأموات الذين يسهرون عليها، والوصول إلى أوطان الكلمات، سواء كان مبكرا أو متأخرا، هو دائما بمثابة ميلاد أكبر من الميلاد العضويَ، وهو الميلاد الحقيقيَ الذي تحاول طمسه التواريخ المسجلة في الوثائق الثبوتية، ممَا حدا بصديقي الكاتب الراحل إدمون عمران المالح إلى التأكيد على أننا “نولد في ليل الحكي”. إنَ الإبداع بمختلف تعبيراته المادية واللامادية هو نديم الليل النوفاليسي وابن الفجر الجبراني، الفجر بما هو انبثاق ظافر للنور من أرحام الظلمات، وبما هو بشارة لنا من رامبو بأن ندخل فيه، “مسلحين بصبر مضطرم، المدن الرائعة”، وهي البشارة التي أستفيق عليها كلَ صباح خلال زياراتي لفاس، فأخرج باكرا لأشهد استيقاظ المدينة المحروسة بخطاطيف الأسوار والمزنرة بالبوابات السبع.

 

فاس ثاوية في كلماتك. هلا حدثتنا عنها، أو على الأصح هلا أخرجتها لنا من أعماقها الدفينة؟

يذكرني سؤالك هذا بسؤال مماثل كان طرحه عليَ، منذ زمن بعيد، صديقي الفنان التشكيليَ الراحل محمد القاسمي. كنا يومئذ في ضيافة فاس، فاستفسرني عن “فاسي الداخلية”، أي تلك الساهرة أسفل واقعها المرئيَ وأسفل سطوح الكلام. ولما هممت بالجواب، استمهلني لحظة أخرج خلالها مفكرة صغيرة جلدية الدفتين وسميكة الورقات، تشبه تلك التي كان الفقهاء يكتبون عليها أدعية “الحصن الحصين”، وقال لي وهو يضعها أمامي على مائدة غذائنا :”الكلام يمضي وتبقى الكتابة. اكتب لي فاسك هنا”. لا أذكر بالحرف ما كتبت له، لكنني أذكره بالروح. قلت له ما معناه : في أعماق فاس تتراكب “فاسات” عديدات، فاس الذاكرة الروحية البعيدة، وفاس السلالات التي مرت وتركت توقيعها في مصائر البشر والحجر، وفاس الفترة الاستعمارية الباقية آثارها في شوارع وأبنية “دار دبيبغ”، وفاس المخاضات السياسية للحركة الوطنية التي تشكَل في أرحامها الملتبسة المغرب الإشكاليَ الحالي، وفاس الحداثة الراهنة المكبوحة بذهنية البداوة، وفاس الأطراف الملتهبة المغذاة بالهجرات القروية المتلاحقة الهاربة من ضنك الحياة وسطوة الجفاف وشح الموارد في البوادي. كلَ هذه ال”فاسات” متشابكة في القلب والعين، وفاسي الرمزية تسهر وتلعب بين حدود هذا التشابك، مثلما يلعب داخلها الطفل الذي كنته وما أزاله بالمعنى الفلسفيَ القصيَ الذي أعطاه كوسطاس أكسيلوس لمفهوم اللعب في كتابه الفخم “لعب العالم”. وهو لعب ظلَ يختطف جسدي وروحي داخل دروبها المسربلة بطيوب العطارين، وخارج أسوارها المحروسة بأعشاش الخطاطيف والمشرفة على المقابر المبهورة بالأعشاب البرية ونبات الصَبار. وحتى عندما غادرتها قبل ثلاثين سنة إلى الرباط ظلَت تلحق بي فيما يشبه  العودة الأبديَة النيتشوية، ولم يتمكَن البحر رغم جلاله من تعويض قدسية جبال مقدمة الريف المطلَة على فاس، ولم تتمكن أسوار باب الحد وشالة من تغييب أسوار وأبراج باب المحروق وقصبة النوار التي ولدت بأحد بيوتها القديمة ذات شتاء سحيق. غير أن حضور فاس الجوَاني لم يعد ممكنا إلاَ في أغوار القلب. فكلَما زرتها بعد فترة غياب يتعمَق إحساسي الموجع برحيلها إلى حيث رحلت كلَ المدائن القديمة. صرت كأنَني أزور بيتا تاريخياَ كان معمورا فلا أجد ربَة البيت. رحلت فاس كامرأة غريبة كانت في شفاعة الجبال الربَانية ولمَا تيتَمت الجبال نفسها لجأت المدينة المرتاعة إلى تجاويف الأحشاء تاركة بقايا عطرها في قفف البابونج والورد البلديَ في سوق الحنَاء، وعلائم جمالها في عرصات الملحون، وأقواس البوابات بتوازنها المتوتَر، ونقوش الخشب والنحاس والجبس، والفخامة الأندلسية لوجوه الفاسيات اللائي شبهتهنَ أناييس نين بالملكات حين زارت المدينة في ثلاثينيات القرن الماضي وأفردت لها في “يومياتها” صفحات مشتعلة بالافتتان إلى حد أنها رأت فيها تجسيدا للأنثى الغامضة. إن فاس الأركاييكية هذه لم تعد مرفوعة سوى بقوة الأموات الذين أقاموا فيها أو عبروها، وبضراوة الحنين الذي توقده ذاكرتها المعرشة على حافات النسيان. ففيها أقام وفكَر ابن خلدون بعض الوقت قبل أن يتوجه إلى قلعة ابن سلامة بالجزائر ليكتب “مقدمته” الكاشفة لتاريخنا العنيف المحكوم حتى اليوم بسطوة العصبيات والقبائل. وفي بيت قريب من الدار التي استضافت ابن خلدون أقام لسان الدين ابن الخطيب قبل أن يعصف به عاصف السياسة والتكفير وينتهي مخنوقا في محبسه ومقتلعا من قبره ومحروق الجثمان في الباب الذي كان يحمل اسم “باب الشريعة” (لأن الحاكمين كانوا يقيمون فيه الحدود الشرعية) وصار شهيرا بباب المحروق. وإلى أعماق فاس كانت تأتي مارغريت يورسنار، مبدعة “مذكرات أدريان” و”العمل في حداد”، فتقيم بأحد الفنادق المطلة على المدينة الألوفية وتخرج منه كل يوم لتختلي بروحها وكلماتها بين مناسك السوسن والريحان في مقهى الناعورة المتاخم ل”جنان السبيل”، وهو المقهى الذي طالما لذت به أنا أيضا عندما كنت أكتب “العشاء السفلي”، والذي دعوت إليه ذات ربيع ناء صديقي الشاعر الآشوري الراحل سركون بولص فوقف مفتونا، ونحن في طريقنا إليه، تحت الأغصان والأوراق الشهوانية لشجرة تين ضاربة بجذورها في أعلى سور قديم، ووثق جولتنا الفاسية في قصيدة “فاس ذات الأسوار” المنشورة بديوانه “الأول والتالي”.

 

 تستشهد بالكاتب لويس بورخيس حين قال إن القراء الحقيقيين طيور نادرة، وتقول عن عزوفك عمّا تسميه بالحضور الفيزيائي في المناسبات واللقاءات بأنه مكابرة ما وراء مختلف أشكال الكرنفالية والمجاملات السطحية. هل شرط الكتابة، وأنا هنا أنقل كلامك، يقتضي بالضرورة حضورا عبر مسافات الغياب؟

لست إطلاقيا في مقاطعة الملتقيات الثقافية، بل صرت انتقائيا جدا. لأنه إذا كان دوستويفسكي قد كتب: “لم يعد العمر يتسع للمزيد من الأشخاص الخطأ”، فإنني أقول :”لم يعد في العمر متسع للمواقع الخطأ”. لقد باتت الكرنفالية والسطحية متسيَدتين في الثقافة والفن بقوة الآليات والأموال المعبأة لخدمتهما، وأمسى ترميز الرديئين خاصية مغربية وعربية بامتياز، وصارت مؤشرات “الترند” وصرعات “البوز” والنرجسيات الوقحة  لمن يسمونهم أو يسمون أنفسهم ب”المؤثرين” أهم من تخصيب الأفكار وابتكار الرؤى والارتقاء بالعقليات والأذواق والأحاسيس. لكن رغم كل هذه السطوة المسعورة ل”نظام التفاهة”، لا يبارحني الإيمان باقتدار الجمال العميق وقدرته المتجددة على البقاء حياً وسط خرائب مجالاتنا الاجتماعية والثقافية المقصوفة صباح مساء بالرداءة والتمييع، وذلك بفضل ما أسميها “الأقليات المباركة” التي تقاوم باستماتة وكبرياء وتواصل من داخل يتمها الانتصار لأرقى ما يستطيعه الفكر والفن والأدب. وهذه الأقليات وسط القرَاء والكتَاب معا هي التي يصفها بورخيس ب”الطيور النادرة”، لأنها هي التي تستطيع التحليق بأجنحة أرواحها الكبيرة خارج الهاوية الجماعية المحفورة تحت أقدامنا، وهي التي جعلتني وتجعلني أحيانا أقطع مسافات طويلة لتلبية الدعوة إلى لقاءات ثقافية تضيئني وتفتح مسالك جديدة أمام فكري وقلبي. هذا، إذن، هو مرتكز الانتقائية التي أشرت إليها أعلاه، وهو مرتكز يتقاطع في العمق مع كلامي عن الكتابة كحضور عبر مسافات الغياب، أي كفعل رمزي يتخلَق ويتشكَل بعيدا جدا عن القارئ، في موقع اختباري لا تحضره وترعاه سوى المسؤولية الذاتية أمام عزلة الورقة (أو الشاشة) البيضاء.

 

تقول :”أنا من سلالة في طور الانقراض”، بينما يقول محمد خير الدين: “أنا من سلالة منسية، لكني أحمل نارها”. هل قدر الكاتب المغربي أن يحمل نار السلالة أو يواجه الانقراض؟

الخياران معا متكاملان أيها العزيز. لا يمكن حمل نار السلالة الرمزية والاضطلاع بمهمة تمريرها إلى السلالات الروحانية الآتية إلا من داخل الوعي بصيرورات الانقراض الذي هو من صميم جدلية الحياة والموت. ليس صدفة أن المبدع المتميز الراحل محمد خير الدين اختار لواحد من أهم أعماله عنوانا إجرائيا وفخما هو “انبعاث الزهور البرية”. إن هذه الزهور المنبعثة من رحم الموت هي زهور السلالة العميقة التي تتخطى بمكابرة وعناد أهوال الانقراض التاريخي لكي تنبثق من جديد في سلالة جديدة، وهي أيضا، بالنسبة للمبدع(ة)، زهور الكلمات التي تنمو في الأراضي المحروقة التي صارتها أراضينا الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. في كتاب “الرؤية” لكارلوس كاسطانيدا، يقول الشامان الهندي الأحمر خوان :”لا بد من اتخاذ الموت مستشارا للحياة”، لأن الوعي به في الكتابة ومختلف الفنون يعمق النظرة إلى العالم بشقيه المرئي واللامرئي، مثلما يعمق الشعور بقداسة التفاصيل الصغيرة للعيش اليومي وما يزخر به من انفعالات ومشاعر وروابط. إن السلالة التي في طور الانقراض، التي قلت إنني أنتسب إليها، ليست سلالة جنائزية بل هي سلالة احتفالية  تستشرف البعث الذي يعقب كل فناء، وترى إلى كل لحظة باعتبارها برزخا تجتمع فيه مياه ما يمضي وينقضي بمياه ما يأتي ليواصل مخاطرة العيش هنا والآن.

 

كتبت في إحدى تدويناتك :”جميع الأسماء الإبداعية والفكرية والفنية والأسطورية التي أستدعيها هي شفيعتي ودريئتي في الليل العاري، وسندي ومددي في هذا القفر الموحش”. هل “العزلة الفرحانة”، كما تدعوها، تقتضي استدعاء هذه الأسماء؟

عندما كتبت الكلمات الواردة في سؤالك، كنت أفكر تحديدا في “العزلة الفرحانة” بما هي إقامة في الأقاليم الفكرية والإبداعية والفنية لسينمائيين وتشكيليين وأدباء وفلاسفة وعلماء أعتبر الرجال منهم آباء رمزيين والنساء أمهات عميقات. إن أحد أهم دروس القراءة هو أنه إذا كانت أنسابنا العائلية والقبائلية والعرقية والعقائدية قدرا لم نختره بأنفسنا، بل فرضته علينا جنيالوجيات ذهنية وهجرات قديمة وتواريخ من الصخب والعنف، فإن المعرفة تمكننا من ابتكار وتجذير أشجار أنساب أخرى نلتقي عبرها بما يستطيعه لنا العالم وما تستطيعه لنا الذاكرة الكونية. لعل نيتشه حين كتب يقول “إن كل الأسماء التي مرت في التاريخ هي أسمائي” كان يشير إلى امتدادات مماثلة. وبالنسبة إلينا، في هذا العالم العربي المحكوم منذ القرون الصحراوية البعيدة وإلى الآن ببنية القبيلة ومنظومتها العصبية، يتيح لنا استدعاء وقراءة أسماء من جغرافيات وذهنيات وأرومات مغايرة أن نفتح ممرات وسراديب مضيئة داخل أقدارنا الهوياتية بما يسندنا في راهننا العصيب.

 

بين الوفرة والندرة يبدو أنك تنتصر لهذه الأخيرة، غير آبه بانشغال عامة الكتاب والكاتبات بالكم والتراكم على مستوى التأليف والنشر. هل هاجسك الإبداعي ينصت إلى إيقاع خاص في الكتابة ولا يحفل بالامتداد بقدر اهتمامه بالاشتداد الذي ينخرط في مسار مختلف؟

أنا مع الندرة الجوهرية وضد التراكم الفج. هذا ليس حكم قيمة على من يكتبون بغزارة، لأن الفيصل الأساس في  الكتابة، سواء كانت مقلة أو مفرطة، هو الإضافة النوعية إلى الحقل الذي تشتغل فيه، وتحقيق ارتقاء أسلوبي ورؤياوي جدير بأن يتحول مع توالي النصوص إلى بصمة شخصية فارقة. إنني أكتب ببطء شديد جدا، غير مبال بمرور السنوات من دون نشر، ولشدما أشبه ذلك الأركيولوجي الذي يمكنه أن ينفق عشرين أو ثلاثين سنة من عمره لكي يسعد ذات يوم بالوصول إلى مدفن ملكة ماتت منذ آلاف السنين. لقد نشرت بعد “العشاء السفلي” ديوانين كانا بمثابة امتدادين رمزيين لهذه الرواية وهما “كهف سهوار ودمها” و”السراديب”، حيث لاحقت أو بالأحرى لاحقتني نفس الهواجس الاستغوارية والروحانية التي دار “العشاء” في مدارها. وها إنني أشتغل منذ أكثر من عشر سنوات على نص “الزفاف الباطني” الذي أريده خلاسيا لا يتقيد بالتصنيف الأجناسي، بعدما استحكم بداخلي نفور من الرواية والشعر معا جعلني غير آبه لانصرام الأعوام، وكأنني تركت لهذا النص حرية تقرير مصيره وحرية اختيار زمن بلورته النهائية. أثق بقرارت النفس الداخلية وبما يعتمل في تجاويفها غير المعنية بالحسابات الصغيرة. وأثق بأن الكلمات، بنات الموتى الساهرين على اللغة والروح والفكر، تعرف عنا ما لا نعرف، وأن بوسعها أن تحفر مجراها الخاص الفهيم لعطش أعماقها. إن الاسم الذي أشعر بقرابة روحية معه في الانتصار للندرة الجوهرية لا ينتسب إلى مجال الأدب، بل إلى مجال السينما، وهو المخرج المصري الراحل شادي عبد السلام الذي لم ينجز، عدا بعض الأشرطة المتميزة القصيرة ورسوم ديكورات وملابس بعض الأفلام الأجنبية، سوى تحفة “المومياء” التي رفعته كقامة منيفة بين قامات الإبداع السينمائي العالمي، قبل أن يقضي السنوات الأخيرة من عمره الأرضي مستغرقا بانخطاف غرامي في التحضير لمشروع فيلمه الثاني الطويل “أخناتون، مأساة في البيت الكبير”، وهو المشروع الذي شاء له قدره الشخصي أن لا ينجزه بعدما سافر به الموت إلى وادي الملوك.

 كانت ترجماتك للكثير من الأعمال الروائية متميزة، واحتفى بها القراء. ترى هل كانت هناك دوافع في اختياراتها وإنجازها؟  

غداة تخرجي من شعبة الفلسفة بفاس، وإثر قضائي في أواسط ثمانينيات القرن الماضي بمدينة تازة المحروسة بالمغارات ما كان معروفا بالخدمة المدنية، وبعد التصفية المنهجية التي باشرتها الدولة آنذاك ضد الفلسفة التي تعذر تعييني أستاذا لها مما دفعني إلى رفض الالتحاق بسلك التعليم، احترفت الترجمة ردحا من الزمن، وأنجزت ترجمات عديدة لأعمال مغربية مكتوبة بالفرنسية بدافع تيسير قراءتها من طرف القراء أحاديي اللغة، والإسهام بشكل عملي في النقاش العمومي الذي كان مشتعلا حول الفرنكفونية والخريطة اللغوية للبلاد. وأعتبر أن أهم ما أنجزته كانت ترجمتي لرواية عبد اللطيف اللعبي “تجاعيد الأسد”، ورواية “المجرى الثابت” لصديقي الكاتب الراحل إدمون عمران المالح، وكتاب “عبد الكريم، ملحمة الذهب والدم” للصحافية المقتدرة زكية داود. لقد ساهمت الترجمة في إعدادي الذاتي ككاتب من جهة تعليمها إياي أن أزن الكلمات بميزان الزعفران الحر.كانت (وأنا أستعمل الفعل الماضي هنا قصدا لأنني لم أعد أمارسها) اختبارا روحيا شاقا حرص بعض أصدقائي من الأساتذة على تخويفي منه، خاصة حين تصديت في البداية إلى ترجمة “المجرى الثابت” الذي اعتبروه غير قابل للترجمة بسبب كثافته اللغوية والبنية الباروكية لأسلوبه، ولم أكن أعلم أن ترجمة هذا الكتاب الذي كان تدشينا فخما لوصول عمران المالح إلى ليل الكتابة، وهي الترجمة التي اكتملت في أواسط الثمانينيات، لن يتاح لها النشر إلا بعد عشر سنوات، لأن مخطوطتها ظلت عالقة بلبنان حيث كان هناك اتفاق مبدئي مع الكاتب إلياس خوري على نشرها ضمن سلسلة “ذاكرة الشعوب” التي كان يشرف عليها، لكن ندرة الورق بسبب أهوال الحرب الأهلية اللبنانية التي لم تضع أوزارها إلا في مستهل التسعينيات حالت دون ذلك، إلى أن تمت استعادة المخطوطة وتيسر نشرها بالمغرب.

 

 كانت رواية “العشاء السفلي” قد خلقت حدثا ثقافيا في المغرب، وأضحت محطة أساسية في تطور الرواية المغربية، ليس فقط على مستوى خروجها عن المألوف في الكتابة الروائية المغربية، وانزياحاتها السردية، وعدم استجابتها لأفق انتظار القارئ، ومع ذلك كان نجاحها كبيرا، بل صار اسم محمد الشركي مقترنا برواية “العشاء السفلي”. إلى ماذا تعزو هذا النجاح والحضور الكثيف؟

أعزوه، في المقام الأول، إلى وجود قارئات وقراء نبهاء ذوي أرواح حرة لم تستعبدها السطحية المستشرية هنا في المغرب وفي مختلف البلدان العربية التي وصلها نص “العشاء”، وحيث حظي هذا الأخير بتفاعل راق من طرف أسماء إبداعية ونقدية رصينة. فقد فاجأني الشاعر العربي قاسم حداد بكتابة مقال خصيب عن الرواية حرص على نشره بالتزامن في كل من البحرين والمغرب (بجريدة “أنوال”). وتفضلت الناقدة العراقية فريال جبوري غزول، أستاذة الأدب الإنجليزي والمقارن بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، بتدريس “العشاء” لطلبتها خلال موسمين جامعيين، وعندما طلب مني الشاعر والمترجم نور الدين الزويتني أن نرسل لفريال الترجمة الإنجليزية التي كان قد أنجزها للرواية (والتي لم تنشر بعد لأسباب لم أسأل عنها)، أثنت عليها وبادرت إلى نشر فصل منها في مجلة “ألف” التي تشرف على إصدارها، كما اختارت رواية “العشاء” من المغرب وحللتها ضمن دراسة عن “الرواية والصوفية في أفريقيا” إلى جانب روايات كل من إبراهيم الكوني ومحمود المسعدي وآسيا جبار. وكان النص موضوع دراسات ومقالات لا يمكن حصرها هنا، وهي لأسماء راقية أضاءتني مقارباتها الإجرائية أذكر منها : خالد بلقاسم ونبيل منصر وحميد لحميداني ومصطفى الحسناوي وعبد اللطيف عادل وإبراهيم الفكاني ورشيدة الشانك ونور الدين درموش ومحمد أمنصور وعبد المجيد الحسيب والمحجوب الشاوني . وكان أمرا مؤثرا أن يقرأ الرواية فنان تشكيلي من عيار محمد القاسمي وأن يبلغ تقديره لها حد إخباري بأنه يعتزم إرسالها إلى الفنان الموسيقي المغربي المهاجر أحمد الصياد لكي يؤلف موسيقى خاصة بها، غير أن المرض داهم العزيز القاسمي وعجل برحيله.   ويسعدني جدا أن “العشاء” ما يزال، بعد أكثر من ثلاثين سنة على صدوره، حيًا ومهاجرا عبر الأجيال، مما يؤكد أن الأهم في الإبداع هو أن يكون الكاتب أمينا وصادقا مع جرحه الشخصي، وأن يضع كلماته في قارورة ويلقي بها إلى بحر الإشارات بصمت، ومن دون افتعال ترويجي،  وأن يترك للقارئ السائر في سواحل المعنى أن يلتقطها ذات صباح أو ذات ليل روحاني..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى