شوف تشوف

ثقافة وفن

مفهوم «المحوّل الثقافي» وإشكالية التغيير الاجتماعي بالمغرب

د. محمد معروف

يرسم ماكس فيبر، في كتابه « الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»، كيفية اشتغال آليات التبديل أو المحولات الثقافية، كيف، في حال التدين المسيحي، تؤثر الأفكار الدينية في الطريقة التي تنظم من خلالها المجتمعات الغربية تعاملاتها الاقتصادية. ويبدو أنه يتم توجيه مصائر حياة الناس العملية من قبل الأفكار الدينية، مما يدل على أن الرأسمالية الغربية تنهل من المؤسسات الثقافية الحاضنة لها. وهذا التسويغ المنطقي يضع الثقافة على الجانب الآخر من السلسلة السببية، حيث على النقيض من النظرية الماركسية للانعكاس الاجتماعي، والتي تشير إلى أن التغيير المادي يسبق ويؤدي إلى التغيير الثقافي الذي بالضرورة يصبح نتيجة ارتدادية للتغيرات المادية (من منظور ماركسي: إن تشييد سوبر ماركت في مدينة، سيؤدي بالناس حتما إلى تغيير عاداتهم في التسوق).
تنص نظرية فيبر الثقافية على أنه من الممكن للثقافة أن تسبق التغيير المادي، أو تحدثه مؤثرة بذلك في العالم الاجتماعي. ومن طبيعة الحال، فإن السعي وراء المنفعة المادية رهان اجتماعي واقتصادي، لكن الثقافات والعقليات التي تحتضن هذه المصالح، تشكل الخطاطات الثقافية وطرق التعامل معها ومتابعتها. وفي استعارته الشهيرة، يقارن فيبر دور الثقافة بدور عامل تحويل السكك الحديدية (سويتش مان)، فيقول: «ليست الأفكار، ولكن الفائدة المادية والمثالية هي التي تتحكم مباشرة في سلوك الأعضاء الاجتماعيين، لكن كثيرا ما تقوم «صور العالم» التي تم ابتكارها من قبل «الأفكار»، شأنها في ذلك شأن عامل تحويل السكك، بتحديد المسارات التي يسلكها العمل بدافع المصلحة المادية» (1946، ص 280).
وخلال بداياتها، نهجت الرأسمالية الغربية مسارات دينية، اعتمدت مذهب الجبرية والدعوة، إذ دفع التنصير المنهجي للحياة الغربية بالأعضاء الاجتماعيين إلى الكد والتفاني في العمل قصد تلبية الدعوة الإلهية، واعتبر الناس العمل نوعا من أنواع العبادة، حيث لم يسرفوا في الإنفاق، ولا في التمتع بالأرباح، بسبب اعتقادهم أن الانغماس الذاتي في الشهوات، قد يكون نقمة عليهم، مما أدى إلى نمو فائض من رأس المال، ومواصلة الاستثمار الرأسمالي الغربي في أسواق عالمية متعددة. واستمرت روح الرأسمالية هذه، حتى بعد تراجع المعتقدات الدينية في أوروبا، إذ لا تزال مثالا حيا، يبرز قدرة التأويل الثقافي على إتمام التفسيرات البنيوية، ويبرهن على فائدة منطق « التبديل الثقافي».
كيف ينبغي لنا أن نفهم الثقافة العضوية بالمغرب في إطار هذا التسويغ الفكري؟ هل تتوفر الثقافة المحلية على آليات التبديل الثقافي التي تصاحب ابتكارات الحداثة، أم هل يعاني المجتمع المغربي من تخلف ثقافي، يحدث هوة بين اختراعات الحداثة، والقدرة على التكيف معها (قد يتوفر العضو الاجتماعي على سيارة، لكنه لا يتوفر على ثقافة تمكنه من حسن استعمالها)؟ ونستدل بمثال آخر في هذا السياق حول الاستحقاقات الديمقراطية التي عرفها المغرب مؤخراً، إذ على الرغم من الانتقال الديمقراطي السلس، والإصلاح خطوة بخطوة الذي حققه المغرب، لا يزال هناك جدل قوي في ما إذا كانت الإصلاحات كافية لتحويل المغرب إلى ديمقراطية مشروعة بمؤسسات قوية تحظى بثقة الجماهير، بدلا من رفع التظلمات والشكاوى باستمرار من قبل الأعضاء الاجتماعيين في كل تفاصيل حياتهم إلى الملك، فعادة ما يحمل ​​الإنسان المغربي البسيط الملك مسؤولية بناء طريق، أو مدرسة صغيرة، أو مستشفى في مدينته، أو القرية التي يقطنها، مما يبرهن على أن مؤسسة الملك هي المؤسسة الوحيدة الموثوق بها، والتي تعتبر فاعلة وقوية في الذهنية الثقافية المغربية. ويجب التذكير هنا، كما يلاحظ مالك وعوض الله (2011) ، «أن الإصلاحات التشريعية والقانونية لا تؤدي بالضرورة إلى التغيير الفعال، وذلك لأن النخب لديها قدرة فائقة على التحمل، وبالتالي يمكن أن تناور من داخل المنظومة القانونية، وتعكس التغيير لفائدتها» (2011، ص 2). ووفقا لهذا المنظور الاقتصادي السياسي، حتى لو تم استبدال وجوه سياسية مألوفة بوجوه جديدة، لن يتغير الوضع جذريا، لأن العملية برمتها لا تعدو سوى مجرد إعادة تشكيل وحشو المناصب الشاغرة في هياكل السلطة بوجوه جديدة- قديمة، وهكذا يظل النظام السياسي القائم سليما. ووفقا لمالك وعوض الله دائماً، فبقدر ما لا تتغير الهياكل الاقتصادية الأساسية، لا شيء يتغير، وخير مثال استدل به مالك وعوض الله هو الوضع السياسي في مصر خلال فترة الربيع العربي: حسني مبارك يغادر، لكن البنيات الاقتصادية التي تدعم نظام حكمه، لازالت تسيطر على مجريات الأمور، لذلك تم إفشال التجربة الإسلاموية، بما تحمله هي الأخرى من نواقص، وأفسح المجال لصعود شخصية عسكرية أخرى إلى مركز السلطة على أنقاض تجربة الإخوان المسلمين، ومن غير المحتمل الآن أن ننتظر من مؤسسة الجيش أن تقوم بتفكيك البنيات الخاصة بها، والتي تتحكم ليس فقط في دواليب الحكم المحلي والإقليمي، بل في عصب الاقتصاد بمصر.
ولاستكمال ما يقوله مالك وعوض الله، على الرغم من أننا نعتقد مع ماكس فيبر أن الثقافة يمكن أن تقود أيضا! نؤكد على أن المحولات الثقافية- تلك الطرق الصغيرة المفعمة بالمعاني الثقافية اليومية والخطاطات ووجهات النظر الوجودية التي توجه تيارات التغيير الكبرى- تشكل محوراً أساسيا لاستتمام الإصلاحات السياسية الجارية في المغرب. إن تشكيل مبدلات ثقافية حداثية في ​​أوقات أزمات التغيير، عادة ما يسند بصفته مهمة قيادية لأجهزة الدولة، لكن في المغرب تعتبر مؤسسات الدولة جزءا من المشكل، فضلا عن أنها جزء من الحل المحتمل، لذا فإن المهام الحيوية تقع على عاتق المجتمع المدني أيضا.
وفي واقع الأمر، يرزح المغرب تحت نير نظام اقتصادي ريعي، تتغلغل السلطة التأديبية لدولة الريع فيه عميقا، حيث تتشعب إلى مؤسسات مجتمعية عميقة، لدرجة أن احتمالات التغيير الاجتماعي في كثير من الأحيان تبدو خيالية. وفي هذا الصدد، فإننا محاصرون بنفس السؤال الذي أثرناه بشأن الوضع السياسي في مصر: هل تستطيع هياكل السلطة في المغرب تفكيك القاعدة الاقتصادية الريعية التي تعتمد عليها؟ يظل الجواب في حال المغرب مرتكزا على بعد نظر كوادر السلطة ونخبها، كيف ستتوخى نهجا متعدد الأبعاد للإصلاح؟
في الواقع، يبدو أن المغرب حتى لحظة كتابة هذه السطور، يشكل استثناء فريدا في العالم العربي، وينعم باستقرار وسلم اجتماعيين، لكن هذه المكتسبات المشروطة تاريخيا، أمست في تراجع منذ احتجاجات 20 فبراير 2011، حيث يشهد المغرب بين الفينة والأخرى تصدعات اجتماعية مختلفة (اضطرابات قطاعية وجهوية، وإضرابات، ووقفات احتجاجية، وانتحارات، وجرائم بالجملة، وانفلاتات أمنية، وارتفاع معدلات البطالة والهجرة، واحتلال الملك العمومي، وفوضى الأسواق)، تنذرنا بأن هناك خطرا ما يحدق بالمغرب، ويجب أن تستيقظ الدولة بجميع مكوناتها، وتتجند للحفاظ على استقرار البلد، ولن يتأتى ذلك إلا في إطار القضاء على الاقتصاد القائم على الريع، وإيجاد حلول هيكلية (وليس ترقيعية كما هو الشأن الآن) للتحديات الداخلية، والتوترات الإقليمية والدولية التي تواجه الدولة المغربية في هذه المرحلة. ومن الواضح أن أي قلاقل في أي جزء من المغرب، قد توقد فتيل اضطرابات شعبية في أي لحظة. لهذا، ليس لدينا الآن خيار آخر سوى الاعتماد على حكمة وتبصر النخبة الحاكمة المنضوية تحت قيادة النظام الملكي، لتوحيد المجتمع على إصلاح اقتصادي وسياسي وثقافي طموح، يتوفر على إرادة سياسية قوية، ونوايا صادقة تناضل من أجل تفكيك البنيات الاقتصادية القائمة على الريع التي تدعم فساد المنظومة السياسية الحالية، بل أكثر من ذلك، يجب تعبئة المجتمع لمحاربة الثقافة الريعية والعقلية الريعية التي تضعنا في مآزق مستعصية على جميع المستويات، بدءا من وجود العضو الاجتماعي البسيط الذي يبيع صوته إبان الانتخابات، إلى وجود المثقف المجرور الذي يسيل لعابه للامتيازات الوظيفية، وتكمن معالجة هذه المعضلة في جذر مشروع تقدمي إصلاحي اجتماعي لفائدة المجتمع بأكمله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى