الرئيسية

نظام التعاقد يفشل في السياقات التي لا تسود فيها الحكامة والشفافية في التدبير

العمل في التعليم مبني على الثقة في النفس وفي باقي الأطراف المتدخلة

يفيدنا علم النفس المهني والهادف في فهم حقيقة أن زيادة الكفاية الإنتاجية وزيادة توافق العمال/الموظفين في عملهم، يتوقف على تحقيق الاستقرار النفسي في العمل والرفع من زيادة الثقة والرضا (الإشباع النفسي) المادي واللامادي في مجال العمل والمهن. ولاحظنا، أخيرا، إدراكا لمثل هذه الأهداف لدى بعض المسؤولين عموما، على الأقل من خلال تصريحاتهم. فقد أوضح، على سبيل المثال، رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني، أمام نواب البرلمان، خلال جوابه عن تساؤلاتهم حول «الوضعية الاقتصادية والمالية»، أن «جزءاً كبيراً من الاقتصاد مبني على الثقة والجانب النفسي». كما عبر الدكتور العثماني، في العديد من المناسبات، عن رغبته في «أن تكون الوضعية في التعليم مستقرة، وفيها استقرار مهني وأمن وظيفي».
العمل في مجال التعليم مبني بالأساس على الثقة، الثقة في النفس أولا والثقة بعد ذلك بين جميع الأطراف المتدخلة في العملية التعليمية: المؤسسة بتشريعاتها ومناهجها، الإدارة، المدرسون، التلاميذ وأسرهم… كما ينبني التعليم والتربية عموما، على الجانب النفساني، والذي لابد أن يرتكز بالأساس على الاتزان والشعور بالطمأنينة والسلام الروحي، وعلى الاستقرار في العمل والأمن الوظيفي (الاستقرار الاجتماعي)، وبدونها لا يمكن للتعليم أن يخرج من أزمته وتنصلح أحواله. لكن السؤال الذي يطرح هنا والآن، هو: هل يسمح نظام التعاقد في استقطاب المدرسين بالشكل الذي أريد تطبيقه به، في منظومة التعليم ببلادنا، هل يسمح بالثقة ويوفر الاستقرار الاجتماعي والاطمئنان النفسي الضروريين للنجاح؟ وهل يستفيد المسؤولون من دروس علم النفس وعلم الاجتماع… ومن تجارب بعض الدول، وهم يفكرون في إحداث نظام التعاقد في تشغيل المدرسين وفي تنزيله؟ نجيب فورا، دون كثير انتظار، بالنفي.
وقبل تقديم مبررات هذه الإجابة النافية، سنستعرض، على سبيل الاستئناس والمقارنة، بعض النماذج والتجارب العالمية التي لجأت إلى نظام التعاقد، المعروف والمعمول به منذ القدم، لتوظيف أطر التعليم، والنتائج التي تحققت أو لم تتحقق، من تطبيقه.
للتذكير، فإن برنامج التعاقد لتوظيف المدرسين ليس أمرا جديدا وخاصا، بل شهدت العديد من الدول تجارب التوظيف في التعليم بالتعاقد، من مثل فرنسا وإسبانيا وإنجلترا والسويد، وغيرها كثير كما سنرى لاحقا. وإذا كان هذا النظام يعرف نوعا من الوضوح والثبات ويطبق بالكثير من العقلانية والشفافية في مثل هذه الدول المتقدمة، وفي سياق من الديموقراطية والصرامة في احترام وتطبيق القوانين وعقلية وثقافة تقبل بروح من الوطنية والمسؤولية، النقد والتقويم والرقابة والاستفادة من تراكم التجارب الناجحة… الأمر الذي ينشر مناخا من الاستقرار والثقة والاطمئنان النفسي والإحساس بقدر من المساواة أمام القانون، وبالتالي الانخراط في العمل المنتج وتجويد الأداء (الضمير المهني) كعنصر أساسي للتطوير والنمو..، فإن الأمر ليس كذلك في معظم الدول النامية التي لجأت لتوظيف المدرسين بنظام التعاقد، نظرا لطبيعة أنظمة الحكم فيها وهشاشة التجربة الديموقراطية أو غيابها أصلا، وضعف الحكامة وتغييب المقاربة التشاركية في تدبير الشأن العام وفي تطبيق القوانين والضبط والمراقبة وربط المسؤولية بالمحاسبة. ونظرا لتفشي ظواهر الرشوة والمحسوبية… ونظرا للتفاوتات الاجتماعية المهولة وانتشار الفقر والتهميش واستفحال البطالة، وخاصة بطالة حاملي الشهادات… الأمر الذي كان وسيكون باستمرار، وراء فشل نظام التعاقد في توظيف المدرسين في الكثير من تلك الدول النامية وفي نتائجه السلبية، كما سنرى في الفقرات اللاحقة.
وعموما يخضع استقطاب العاملين في التربية والتعليم في جل بلدان العالم المتقدم منه والمتخلف، لنظامين أساسيين: يسمى الأول: نظام التوظيف والترسيم الذي يقضي بالتشغيل على سبيل الدوام والاستمرار (أستاذ رسمي)؛ بدءا بالتكوين ومرورا بالتدريب والترسيم، وانتهاء بالتقاعد. أما الثاني، فيسمى نظام التشغيل (أستاذ متعاقد) الذي يقضى بالتشغيل المؤقت، عن طريق التعاقد لمدة زمنية محددة لا ينتهي بالضرورة بالتوظيف والترسيم في أسلاك الوظيفة العمومية. وسنقدم في ما يلي نماذج وتجارب عالمية، آملين في أن تستفيد الجهات المسؤولة منها.
فمن بين الدول الإفريقية، كانت السنغال الأولى التي قررت وفرضت نظام التوظيف في التعليم بالتعاقد ابتداء من سنة 1995. وجاء هذا القرار كمحاولة لمواجهة ضعف موارد الدولة التي أصبحت غير قادرة على توفير مناصب تعليمية كافية لاستيعاب نسب تسجيل التلاميذ الجدد المرتفعة، وغير قادرة كذلك على توفير البنيات التحتية التربوية اللازمة لهذا الغرض. فمن أصل 2.000 منصب سنوي كانت السنغال في حاجة إليهم بشكل سنوي آنذاك، لم تستطع الدولة توفير سوى 250 منصبا سنويا، وأدى هذا إلى انخفاض نسب التسجيل في المدارس، مما جعل الدولة تنهج سياسة التوظيف بالتعاقد، كإجراء تقشفي يزيح ثقل التكوين المادي السليم للأستاذ، وتفاديا، كذلك، لتكاليف التكوين وتكاليف الأجرة الشهرية لمناصب الشغل الجديدة المرتفعة نسبيا بالنسبة لأساتذة النظاميين.
وغالبا ما كان يعبر الأساتذة المتعاقدون في مثل تلك الدول النامية، عن «أنهم يفتقرون إلى الدعم المهني، وأن أجرتهم الشهرية لا تكفي لتلبية حاجياتهم الأساسية»، بل إن معظمهم لا يتلقى أجرته الشهرية بشكل منتظم فيعيش حالة من القلق النفسي المستمر، والذي قد يتحول إلى اكتئاب، الأمر الذي يحذو بالعديد منهم إلى مغادرة مهامهم بعد انتهاء مدة العقد وربما قبلها. وأكدت بعض تلك الدول نفسها عدم قدرتها على دفع أجور المدرسين المتعاقدين بشكل دوري ومنتظم، ما يدفعهم إلى مشاعر القلق والإحباط والإفادة بأنهم يشعرون بأن «الدولة خذلتهم وتخلت عن واجباتها تجاههم… بعد أن وعدتهم بالاستقرار المادي والأمان الوظيفي وإتاحة فرص الترقي الاجتماعي لهم…»، وقد يدفع بهم عدم الوفاء بالوعود تجاههم إلى فقدان الثقة في مؤسستهم والانخراط في ممارسات مشينة كالتغيب المستمر، والتأخر المقصود عن الحصص الدراسية، والتراخي في أداء المهام، والبحث عن موارد رزق موازية (أنشطة إضافية خارج المؤسسة مؤدى عنها) لمهامهم التعليمية.
بدأ نظام التعاقد بشكله الجديد في المغرب، منذ إصدار وزارة التربية الوطنية للمذكرة عدد 866-16 بتاريخ فاتح نونبر 2016، تباشر بموجبها الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين (12 أكاديمية)، عملية توظيف أساتذة التعليم العمومي بواسطة التعاقد. لقد أجبر الخصاص الكبير في أطر التدريس بالمغرب واكتظاظ الأقسام والمدارس، وقبل هذا وذاك، غياب لدى وزارة التربية الوطنية ولدى الحكومة بشكل عام، استراتيجية بعيدة المدى لتكوين المدرسين وتوظيفهم وتشتت مؤسسات التكوين وتوزعها بين التعليمين المدرسي والعالي، واضطراب أنظمة اختيار واختبار وتوظيف المدرسين وأطر التربية والتعليم عموما، فضلا عن عوامل أخرى لا تقل أهمية وتتمثل في تجاهل النظرة الاستراتيجية وسياسات الارتجال والتخبط والانشغال في «تدبير الشأن اليومي» لمشاكل التعليم، والتي ميزت إجراءات وتدابير وزارات التربية الوطنية «الإصلاحية» لحد الآن، وعدم الاستفادة من أبسط دروس التخطيط والتوقعات المستقبلية والإسقاطات الإحصائية، والتي كان يمكن أن تجنبنا أخطار المغادرة الطوعية والتقاعد والتقاعد النسبي للمدرسين، وارتفاع معدل الولادات وعدم التحكم في الخريطة المدرسية، والتحسن النسبي للفاعلية الداخلية للمنظومة والحد النسبي من الهدر المدرسي والانقطاع المبكر عن الدراسة… أجبر كل ذلك، فضلا عن ضغوطات البنوك والصناديق المانحة والقارضة، وزارة التربية الوطنية في الحكومة السابقة والحالية، وربما بتوصية «سرية» من المجلس الأعلى للتعليم، على اللجوء للتوظيف المباشر للمدرسين وفق نظام التعاقد. فبعد انتقاء أولي من بين حاملي الإجازة في مختلف التخصصات واجتياز مباراة التوظيف بالتعاقد، يتلقى الناجحون تكوينا نظريا على فترات بالمراكز الجهوية للتربية والتكوين وتدريبا ميدانيا على يد المفتشين بالأقسام المسند إليهم تدريسها، وهذا بشكل مؤقت وانتقالي لفوجي 16 -2017. لكن الوزارة المشرفة على القطاع أعادت التفكير بخصوص فوج 2018، بتكوينه قبليا لمدة 4 أشهر على الأقل، في انتظار إرساء نظام أساسي قار وقوانين موحدة خاصة بهذه الفئة من المدرسين.
والحقيقة أن التفكير في نظام التعاقد ليس أمرا جديدا في منظومة التعليم ببلادنا، فقد كانت وزارة التربية الوطنية – قطاع التعليم المدرسي- أعلنت منذ غشت 2009 عن تنظيم مباراة لتوظيف مجموعة من أساتذة التعليم الابتدائي، والثانوي الإعدادي والثانوي التأهيلي. وشكل الإعلان عن تلك المباراة بداية شروع الوزارة في تنفيذ مخطط التوظيف بالتعاقد، تطبيقا لما ورد في الميثاق الوطني للتربية والتكوين بهذا الخصوص، حيث شكل تبني الميثاق الوطني للتربية والتكوين سنة 1999 نظام التعاقد، تحولا نوعيا في مسألة توظيف المدرسين. فبالرجوع للميثاق نجد أن المادة 135 منه تنص على أنه: «يتم تنويع أوضاع المدرسين الجدد من الآن فصاعدا، بما في ذلك اللجوء للتعاقد على مدد زمنية تدريجية قابلة للتجديد على صعيد المؤسسات والأقاليم والجهات».
لعل أهم ما يميز سياق العمل والإنتاج في الدول النامية بما فيها المغرب، والذي يجعل من نظام التعاقد في التوظيف مستحيل التطبيق والنجاح، دون أن يرافقه إصلاح شامل للاقتصاد والإدارة والوظيفة العمومية وللنموذج التنموي وللمجتمع بشكل عام، أولا وأساسا، ودون الاستفادة من التجارب السابقة ومن مبادئ وأساسيات ونتائج الدراسات السيكولوجية (علم النفس المهني…) والسوسيولوجية والاقتصادية والإدارية وعلوم الإحصاء والتوقع والتخطيط والمستقبليات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى