
محمود عبد الغني
التابع ينهض
خلقت الروائية والناقدة والمناضلة المصرية رضوى عاشور شُعبة في الدراسات النقدية العربية غير مسبوقة، من خلال اهتمامها بالرواية في غرب إفريقيا. وكانت ثمرة ذلك دراسات عديدة في الرواية الإفريقية الأنجلوفونية جمعتها في كتاب رائد «التابع ينهض»، الذي صدر في طبعة أولى سنة 1980، وفي طبعة ثانية، قبل سنتين، عن دار الشروق المصرية. وكانت رضوى، الميّالة إلى حدّ ما إلى دراسة أدب الثورات وأدب دول العالم الثالث، التي تخنقها الدكتاتوريات بأساليب القمع الممنهج لإخضاع شعوبها، كانت قد طرقت مشروعها هذا بكتاب رائد آخر عن الروائي والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني في كتابها الفريد «الطريق إلى الخيمة الأخرى». لكن من يتذكّر رضوى في هذه العلاقة الجدلية بين الأدبي العلمي والإيديولوجي، يقف على ضعف الدراسات الأدبية العربية التي تنكبّ على دراسة الأدب الإفريقي باللغات الفرنسية والإنجليزية والبرتغالية. وبالانتقال إلى شمال إفريقيا، خصوصاً وتحديداً المغرب، نجد حقلا غنياً من الكتابات الأدبية باللغة الإسبانية. وظلّ فضاء استقبال هذه الآداب مفتوحاً وغنياً في الغرب، مقابل رفضها في بلدانها الأصل. وهذا الرفض يشمل بالخصوص الروائيين الذين جعلوا للحكايات الشعبية والسرد الشعبي الأسطوري وظيفة مركزية في رواياتهم، مثل النيجيري «آموس تيوتولا» في روايته «شريب نبيذ النخل» التي رُفضت في نيجيريا واحتُفي بها في إنجلترا وأميركا. إضافة إلى الموقف من اللغة التي يكتب بها الكاتب الإفريقي، وهي غريبة عنه وغريب عنها، إن فرنسية هذا الكونغولي رديئة، وإنجليزية ذلك النيجيري مخجلة. وما تلا ذلك من المواقف التي بُنيت على تحليل البنيات اللغوية والفكرية والإيديولوجية: إن بلدك أيها الكاتب الإفريقي مستعمرة سابقة للبلد الذي تعانق لغته… إنك تمثلنا شرّ تمثيل في متخيّل الرجل الأبيض…إنك سفيرنا الذي يرتدي ملابس الغرب…انهض أيها التابع، أيها الرسول الحافي القدمين. إنك مزارع فقير فكيف تتأنّق بهذه المبالغة والتحذلق وتخاطب حضارة ظلت تستغلك وترفض الاعتراف بك…إلخ من المواقف التي ذهبت إلى حدّ إراقة دماء روائي من حجم الجزائري مولود فرعون، وإدانة آخرين بالخيانة كما هو الحال بالنسبة لمولود معمري وإدريس الشرايبي، وآموس تيوتولا وكمارا لاي، الغيني، صاحب رواية «الطفل الأسود».
زنوجة.. نمورة
زنوج في كل الشوارع. هذا هو المظهر الجديد للمغرب بعد استضافته للأفارقة. زنوج من كل بلدان إفريقيا، غرباً وشرقاً. هربوا من الحروب والمجاعات والدكتاتوريات، وأصبح بعضهم صالحاً للعمل والتجارة والطموح والزواج… وأغلبهم من أعمار تحت العشرين أو فوق قليلاً. أسسوا جمعيات، واعتنت بهم جمعيات مدنية مغربية للرعاية والمصاحبة والتطبيب. لكن هناك من فضّل الإقامة في الغابات والسير حافياً كأنه يمشي في حقل إفريقي. يتكلمون الفرنسية والإنجليزية بلكنة إفريقية واضحة، ويحافظون على عاداتهم الشعبية الخاصة التي تحدّث عنها «تيوتولا» و«كمارا لاي» و«صوني لابو طانسي». أراهم في شوارع الرباط والدار البيضاء وفاس وأقول ها هي شخصيات روايات «شرّيب نبيذ النخل»، و«الطفل الأسود»، و«المعذبون في الأرض» لفرانز فانون، و«الحوالة» لعثمان سمبين. أراهم وأتساءل: هل هذه أعماق إفريقية أم مجرد قشور حزينة حملتها الرياح إلى هنا، وستستمرّ بها إلى ما لا نهاية ولا مكان؟ وحين أرى نساء أو عجائز أقول ها شخصيات رواية «الجولة الثانية» للروائي الغامبي «لنري بيترز»، إذ النساء تحتلّ في هذه الرواية موقع الصدارة، لهذا الأمر صنّفها سامي سويدان رواية نسوية. وفي الواقع يمكن القول إن مجمل الروايات الإفريقية هي بمعنى ما روايات نسوية، فالمرأة في كل أحداث الرواية تمثل «بكثافة نادرة معظم أوجه المعاناة التي يعرفها بلد خاضع للاستعمار ورازح تحت أشكال مريعة من الاستغلال والفقر والقهر والاستلاب.» (س. سويدان.1991).
لم يهتم العرب بالرواية الإفريقية إلا في جزئها المكتوب باللغة العربية. رغم أنه من الممكن جدّاً اعتبار هذه الرواية المكتوبة بلغات أخرى غير العربية، كالفرنسية والإنجليزية، حليفة لرؤيتهم في الصفّ والهدف والمصير. فالمجتمعات الإفريقية شديدة الشبه بالمجتمعات العربية. والمؤسسات فيها تكاد تكون من نفس القالب. لذلك تجد الروايتين، العربية والإفريقية، تنتقدان المؤسسات والقيم الاجتماعية المسيطرة، إضافة إلى تناولهما لمجمل الأزمات التي تعيق علاقات الفرد وطموحاته. إنها جولات خاسرة، إذا شئنا استعارة عنوان رواية «لنري بيترز»: «الجولة الثانية». إننا، إذن، أمام تجربة ذات نزعة إنسانية كثيفة. ولن يكون من الصائب تماماً تناولها من زاوية مفاهيم متجاوزة، من قبيل الزنوجة مثلا، كما رسّخها ليوبولد سيدار سنغور. لكن، لحسن الحظ، عرفت رفضاً من قبل مفكرين وأدباء مثل فرانز فانون الذي نادى سنة 1959 بضرورة الحذر من هذا المسلك المسدود. إن صوفية هذا الموقف لن تخدم أبداً قضية إفريقيا. كما سخر منه (موقف الزنوجة) الروائي النيجيري «وول سوينكا» في عبارة اشتهرت وأظهرت هشاشة الموقف: «لماذا نتحدث عن الزنوجة؟ وهل يتحدّث النمر عن النمورة؟» هذا لنبين أن الأدب الإفريقي، والفكر الحر في إفريقيا، والإيديولوجية «الإفريقية»… كلها مكونات ثقافية تتحول من خلال الصراع من تنميط الرؤية وتكبيل الطموح وتحريف التواريخ.
فكر روائي نبوئي
نختار في هذه الحلقة كاتباً كونغولياً اسمه «صوني لابو طانسي». ولد سنة 1947 وتوفي سنة 1995 ببرازافيل. بالوقوف على مجمل أعمال هذا الكاتب يثيرنا طابعها الكثيف والمتنوع: سبع روايات، ثماني مسرحيات، مجموعات قصصية، مجموعات شعرية. وبعد مرور أكثر من عشرين سنة على وفاته، لم يحط النقاد والدارسين بعدُ بهذا العالم الأدبي المتنوع، كما يؤكّد الناقد الكونغولي باتريس يانغو (1949…).
درس صوني لابو طانسي، واسمه الحقيقي هو مارسيل صوني، في كيكونغو بالكونغو كينشاسا، مسقط رأسه، ثم تابع دراساته بالكونغو برازافيل التي تنحدر منها أسرته. وبعد إنهاء دراساته تخرج أستاذاً للغة الإنجليزية. يعتبر رمزاً لجيل جديد من الكتاب الفرونكفونيين بإفريقيا السوداء. أنشأ مسرح «روكادو زولو» ببرازافيل قدّم فيه مجمل أعماله المسرحية. حازت أعماله على عدّة جوائز أدبية. نقدم اليوم روايته «الشعب المتردد» (بالفرنسية، منشورات «سوي»، 1983).
كيف نلخص هذه الرواية؟ بطلها هو مدير مدرسة بنات في كينشاسا اسمه «دادو». كثيراً ما ظلّ يقاوم إغراء فتاة «يافيلد» تدرس في نفس المدرسة. يتم اتهامه باغتصابها. ينجح في الهروب من مدينته ومسقط رأسه «كينشاسا». «يافيلد» حامل، و«دادو» هو المتهم الأول. والغريب هو عدم اللجوء إلى الوسائل العلمية للتأكد بيولوجيا من الرجل الذي كان وراء حملها. تصف الرواية مشاعر الحب التي تكنها «يافيلد» للأستاذ «دادو». في النهاية تنتحر وتترك رسالة تتهمه فيها. يغرق «دادو» في إدمان الخمر والعار. هجم عليه مجموعة من الرجال فدمروا بيته وأعدموا ابنه. تنتحر زوجته من اليأس والكآبة. أما هو فتم القبض عليه وإيداعه السجن. بعد أربع سنوات تمكّن من الهرب والاحتماء في قرية صيادين. تم إيقافه من جديد من طرف ميليشيا الحزب. عذبوه وتركوه معتقدين أنه مات. لكنه ينجو بفضل مساعدة مجموعة من المقاومين. وبدأ يتجوّل في مدينته «برازافيل» في هيئة رجل مجنون. وبذلك تمكن من تحقيق فعل طالما ظل الجميع ينتظرونه: اغتيال الكاتب الأول للحزب أثناء أدائه طقوس صلاة عيد الفصح. وبذلك يكون الجنون هو الكلمات المفتاح في هذه الرواية. لكن دون نسيان الجسد، («جسد يافيلد») الذي هو الطريق المعبّد، رغم ما فيه من مآس، إلى تحقيق النصر على القتلة. الجسد هو سلطة كل شيء. وتنضاف إلى كلمتي: جنون، جسد، كلمات أخرى في النص اعتمدها «صوني لابو طانسي» هي التي تحدّد الحياة: «لكن هذه الأشياء هي دمي، لحمي، حياتي.» (ص. 116). إن قارئ الرواية، وإذ كان من عشاق الرواية الإفريقية، سيعود مجدّداً إلى ما قاله «تشيكايا أوطامسي»:«إنه رائي. إنه يظل طوال الوقت داخل نفسه». وهذه الـ«داخل نفسه» هي ذلك الباب الموارب الذي يسمح لنا «صوني» بالعبور من خلاله إلى التعقيد المنتشر في الرواية. وهذا ما يجعل، حسب «نيكولا مارتان غرانيل»، من رواية «الشعب المتردّد»، رواية فلسفية أكثر منها نفسية. هي رواية الرؤية السياسية لكل الشعوب التي تعاني داخل عالم من التردّد النفسي والاجتماعي. لنستحضر ونحن نقرأها: «دادو» المربّي، جسد يافيلد، السجن، كل النساء، الحب، الجنون، الميليشيات… تحقيق رؤية الشعوب باغتيال الرجل المسؤول عن مآسيها…





