الرئيسيةثقافة وفن

الأدب وأقصى درجات العزلة

إعداد وتقديم: سعيد الباز
كتب الشاعر والكاتب المكسيكي أكتافيو باث، مرة، أن «العزلة هي العمق النهائي للشرط الإنساني.. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يشعر بأنه وحيد والذي يبحث عن الآخر»، لم يخطر بباله أن البشرية في معظمها ستعيش حالة من العزلة أفرادا وجماعات وشعوبا بسبب الحجر الصحي الذي شمل جل بلدان العالم. رغم هذه الظرفية، كانت للعزلة وشائج وصلات بالإبداع الأدبي، بل هناك من يذهب إلى التأكيد على أنها شرط أساسي لكل إبداع أدبي. فالشاعر الفلسطيني محمود درويش كتب عن العزلة وعلاقته بها حيث تصل إلى درجة حميمة، فهي اختيار نابع عن قرار حر. الروائي التشيكي بوهوميل هرابال Bohumil Hrabal، صاحب الروائع التي تضعه في مصاف كبار الروائيين، اتخذ من موضوع العزلة إطارا رمزيا للإنسانية جمعاء يسحق فيها الفرد كما تسحق آلة تمزيق الكتب وسط عزلة صاخبة يعيشها بطل الرواية الذي يهرب نفائس الكتب إلى قبوه من قبل دولة شمولية معادية للفكر والمعرفة.
كان بول أوستر أكثر الكتاب انشغالا بموضوع الكتابة والعزلة، خاصة في كتابه «اختراع العزلة» في الجزء الأول يوميات بحث عن سيرة أب غامض بعد وفاته وفي الجزء الثاني تسجيل كامل لأطوار كتابته لهذا الكتاب والصراع الدائم بين العزلة والكتابة. الكاتب الروماني إميل سيوران لم يجعل من العزلة موضوعا للكتابة فقط، بل كانت منهج حياة وطريقة مغايرة للتفكير والتأمل الفلسفيين.

محمود درويش: العزلة مصفاة لا مرآة

لو كنت غيري
في العزلة كفاءة المؤْتَمَنِ على نفسه. يكتب العبارة، وينظر إلى السقف. ثم يضيف: أن تكون وحيدا.. أن تكون قادرا على أن تكون وحيدا هو تربية ذاتية. العزلة هي انتقاء نوع الألم، والتدرب على تصريف أفعال القلب بحرية العصامي.. أو ما يشبه خلوك من خارجك وهبوطك الاضطراري في نفسك بلا مظلة نجاة. تجلس، وحدك، كفكرة خالية من حجة البرهان، دون أن تحدس بما يدور من حوار بين الظاهر والباطن. العزلة مصفاة لا مرآة. ترمي ما في يدك اليسرى إلى يدك اليمنى، ولا يتغير شيء في حركة الانتقال من اللافكرة إلى اللامعنى. لكن هذا العبث البريء لا يؤذي ولا يجدي: وماذا لو كنت وحدي؟ العزلة هب اختبار المترف بالممكنات.. هي اختيار الحر. فحين تجف، وتضيق بك نفسك، تقول: لو كنت غيري لانصرفت عن هذه الورقة البيضاء إلى محاكاة رواية يابانية، يصعد كاتبها إلى قمة الجبل ليرى ما فعلت الكواسر والجوارح بأجداده الموتى. لعله ما زال يكتب، وما زال موتاه يموتون. لكن تنقصني الخبرة. والقسوة الميتافيزيقية تنقصني. وتقول: لو كنت غيري، كما أنا الآن، لنزلت إلى بطن الوادي، حيث تؤجج فتاة مكبوتة شهوتها بورقة تين خشنة وتعض سروالها، لكن تنقصني مهارة الوصف، والجرأة الإباحية تنقصني!
أثر الفراشة ص 108 ص 109

غيمة ملونة
وأنا أغسل الصحون، أمتلئ بفراغ منعش وأملأ الوقت بفقاعات الصابون. لماء الحنفية إيقاع يفتقر إلى آلة موسيقية. أصاحبه بصفير متقطع، وبمقطع من أغنية شائعة لا شخصية لها. ألهو بالرغوة الشبيهة بغيمة تلمع فيها ألوان موسمية وتنطفئ. أمسك الغيمة بيدي وأوزعها على الصحون والكؤوس والفناجين والملاعق والسكاكين. تنتفخ الغيمة كلما سالت عليها قطرات الماء. أحفِنها وأطيرها في الهواء فتضحك لي، وأزداد امتلاء بفراغي. لا أفكر بشيء كأني ظهيرة لا مبالية. لكن صور ذكريات محايدة تهبط من مكان بعيد إلى حوض الماء، ذكريات لا تجرح ولا تفرح، كنزهة في حرش صنوبر، أو كانتظار حافلة تحت المطر، فأغسلها بحرص من يحمل إناء من بلور أدبي. وحين أتأكد من أنها لم تنكسر تعود سالمة إلى مصادرها الأولى في حرش صنوبر، وأبقى هنا، ألهو برغوة الصابون، وأسهو عما ليس موجودا. أنظر برضا إلى ذهني الصافي كزجاج المطبخ، وإلى خلو قلبي من الشوائب كصحنٍ مغسول بعناية. وحين أحس بأني امتلأت تماما بالفراغ المنعش، أملأ الفراغ بكلمات لا تخص أحدا سواي: بهذه الكلمات !
أثر الفراشة ص 126 ص 127

لم أكن معي
محدقا إلى السقف، واضعا يدي على خدي، كمن يتلصص على فكرة بيضاء، أو يتربص بإشراقة وحي. أنتبه بعد ساعات إلى أنني لم أكن هناك في السقف ولا هنا على المقعد، ولم أفكر بشيء. كنت مستغرقا في اللاشيء.. في الفراغ الكلي الكامل، منفصلا عن وجودي، جاراً لعدمٍ غير متطفل، وخاليا من الألم. لم أحزن ولم أفرح. فلا شأن للاشيء بالعاطفة، ولا شأن له بالزمن. لم توقظني يد ذكرى واحدة من غيبوبة الحواس. ولم توقظني خشية الأقدار من نسيان الغد. إذ كنت، لسبب ما، متأكدا من أنني سأحيا إلى الغد. لم أسمع صوت المطر يكسر رائحة الهواء في الخارج، ولا النايات تحمل الداخل وترحل. كنت لاشيء في حضرة اللاشيء. وكنت هادئا، آمنا، مطمئنا. فما أجمل أن يكون المرء لاشيء، مرة واحدة، مرة واحدة فقط.
أثر الفراشة ص 134 ص 135

قالوا
محمود درويش: «ربيتها وعقدت صداقة حميمة معها، فالعزلة هي أحد الاختبارات الكبرى لقدرة المرء على التماسك، وأشعر بأنني إذا فقدت العزلة فقدت نفسي».
تشارلز بوكوفسكي: أقوى الرجال هم الأكثر عزلة، لا شيء في الخارج سوى مصنع للحماقة، واختلاط الحمقى بالحمقى، هذا كل ما في الأمر.
ميلان كونديرا عن بوهوميل هرابال: أفضل كتابنا اليوم وكتاب واحدٌ من كتبِ بوهوميل هرابال، يختصر كل ما عجزنا نحن جميعاً عن تقديمه من أجل إنسان متحرر، رغم كل ما نفعله بإيحاءاتنا واحتجاجاتنا الصاخبة.
بول أوستر: كل كتاب هو صورة للعزلة. إنه شيء ملموس يستطيع المرء التقاطه، ووضعه، يستطيع فتحه، وغلقه، وكلماته تمثل شهوراً من عزلة الكاتب.

بوهوميل هرابال: كنت في الحقيقة في قلب الحقيقة
.. بعد خمس وثلاثين سنة، وأنا أضغط الزر الأخضر والأحمر في الهيدروليك، شربت البيرة لخمس وثلاثين سنة، ليس لأنني أنتشي بشربها، بل بالعكس أكره الكحوليين.. أنا أشرب لأفكر بعمق أكثر، أسافر نحو قلب ما، وأقرأ لأنني لا أقرأ للمتعة أو لقتل الوقت، أو لأخلد إلى النوم. أنا الإنسان الوحيد الذي يعيش في بلاد معروفة بحبها للقراءة والكتابة طيلة خمسة عشر جيلا.. أشرب كي يمنعني ما أقرؤه من أن أغط في نوم أبدي، ولن أصاب بهذيان رعاشي، لأني أشترك مع هيغل في نظريته أن الإنسان نبيل القلب ليس رجلا نبيلا بالضرورة، ولا مجرما قاتلا. لو كنت أستطيع الكتابة لكتبت عن أعظم أفراح الإنسانية وأحزانها. سيكون ذلك من خلال الكتب التي قرأتها والتي علمتني أن الجنة ليست إنسانية، ولا أي شخص له رأس بين كتفيه هو إنساني، ليس الأمر أن البشر لا يريدون أن يكونوا إنسانيين، بل هو فقط يخالف المتعارف عليه. تفنى الكتب النادرة في آلى الضغط تحت كفي، ولا أستطيع إيقاف تدفقها. أنا جزار مجيد وحسب. الكتب علمتني نشوة التدمير. أعشق العواصف وانكسار البواخر، أستطيع أن أجلس ساعات بانتباه محدقا في مشاعر خبراء المتفجرات، وهم يفجرون منازل وشوارع بأكملها.. وأن ألمح الفضاء وهو يعج بالشظايا.. لا أستطيع أن أكتفي بذلك منذ اللحظة الأولى، بل أعشق من يرفع العوارض والآجر والصخور، من أجل إخفائها، كملابس تتساقط، كنهر يغرق بنعومة في قاع المحيط عندما تبدأ المراجل بالانفجار. هناك أجلس في غيمة من الغبار.. أجلس في الموسيقى الغوغائية. أفكر في عملي بعمق.. أفكر في قبوي الذي يحوي آلة سحق الكتب. المكان الذي أخذ من عمري خمسا وثلاثين سنة.. المكان المنار بقليل من المصابيح الكهربائية، حيث أسمع فوقي خطوات تعبر السطح، تعبر فتحة السقف.. وهو أيضا ثقب أسفل الساحة.
.. أنا الرجل الوحيد في العالم الذي يعلم في عمق أي كومة من الكتب يوجد كتاب مفتوح لفاوست أو دون كارلوس.. هناك على أكياس الإسمنت تجد كتاب هكذا تكلم زرادشت، أنا الإنسان الوحيد الذي يعرف أية كومة فيها غوته أو شيلر أو هولدرين أو نيتشه. أنا فنان وجمهور، في الوقت ذاته. لكن الضغط اليومي ينال مني، ويجعل مني فريسة للتعب. تحبطني وتحرقني، وأواجه هذا الضغط، وأقلل من حدته بشرب البيرة.. من أجل الامتلاء علي أن أتأقلم وأحلم بشكل كومتي التالية. السبب الذي يجعلني أتعاطى البيرة هو كي أستشرف المستقبل. ففي كل كومة من الكتب، أدفن بعض الآثار الغالية. مثلا أدفن كفن طفل مزخرف مع زهور ذابلة وشعر ملائكي.
.. أسرع مباشرة إلى عملي، إلى جبل من الأوراق، كما لو كنت آدم وهو يستلقي بين الأعشاب، ثم ألتقط كتابا. تنفتح عيناي على عالم غير عالمي، لأنني أشرع في عملية قراءة، أكون في مكان معلوم ومختلف، أكون مع النص، نص مختلف ومذهل. علي أن أعترف أنني كنت أحلم، أحلم بأرض ما، بجمال عظيم. كنت في الحقيقة في قلب الحقيقة. عشر مرات في اليوم أتساءل أي إنسان غريب أنا؟ أي هدوء ينتابني وأنا أنعزل مع ذاتي وأهرب من نفسي؟ أذهب ناحية المنزل، أجوب الشوارع في صمت. في هدوء رهيب. أعبر والقطارات والسيارات والأرصفة في غيوم من الكتب التي جئت بها، وحملتها في حقيبتي. أنا ضائع في أحلامي، أحيانا أجتاز الإشارات الضوئية، لأن حقيبتي مليئة بالكتب، وأخاف أن يستفسر أحد ما عن هويتي، فلا أجيبه. أجوب الشوارع الصاخبة دون أن أجتاز الضوء الأحمر، أجوبها دون أدنى شعور، ولست قلقا من ذلك، عندي شعور بنفسي، كما لو كنت كومة من الكتب المضغوطة.
عزلة صاخبة جدا ص 12 ص 15

بول أوستر: كلمات كانت.. ولن توجد مرة أخرى

كتاب الذاكرة
.. يفرد أمامه ورقة بيضاء على الطاولة، وبقلمه يكتب هذه الكلمات. كلمات كانت، ولن توجد مرة أخرى.
لاحقا، في نفس اليوم، يعود إلى غرفته، ويقع على ورقة بيضاء نضرة، يفردها أمامه على الطاولة. كتب حتى دفن بالكلمات البياض كله. وبعد حين، عندما يذهب لقراءة ما دونه، يصطدم باستحالة فك حروفه: ما الذي قام بتدوينه؟ يبدو له أن تلك الأسطر التي يستطيع فهمها لا تقول ما ظن أنه قائله. يبقى هكذا حتى ينتهي به الأمر إلى الخروج وقت العشاء.
يقول لنفسه، تلك الليلة، بأن الغد يوم آخر، هناك كلمات جديدة سيضج بها رأسه. ولكنه على الرغم من صخبها، فإنه لا يدونها. يقرر أن يدعو نفسه بالحرف الأول من الأبجدية (أ) يمشي بين النافذة والطاولة ذهابا وإيابا. يشعل الراديو ثم يطفئه. يدخن سيجارة. ثم يكتب هذه الكلمات. كلمات كانت، ولن توجد مرة أخرى.
ليلة عيد الميلاد من عام 1979. لم يعد واثقا من أن حياته تقيم في الزمن الحاضر فمتى ما أدار الراديو ليعرف أخبار العالم، يغرق في الاستماع إليه، ثم يقبض على نفسه وهو يتخيل أن تلك الكلمات تصف أمورا حدثت منذ وقت بعيد. وعلى الرغم من وقوفه في الزمن الحاضر، فإن شعوره لم يتغير، فهو يشعر بأنه ينظر إليها من المستقبل. وهذا الزمن «الحاضر كالماضي» عتيق في داخله ومتقادم حتى أن أهوال اليوم العادي ومتاعبه، تلك التي من المفترض أن تملأه بالغضب بدت نائية عنه. وكأن الأخبار الطالعة من الراديو كانت تُقْرأ من مجلد وقائع تاريخية لحضارة بادت.
تاليا، في ساعة من الصفاء والصحو العظيمين، سيدعو هذا الشعور الذي ينتابه بـ«نوستالجيا» الحاضر.
.. لم يكن بإمكانه أن يدعو هذا الحيز منزلا، ولكنه كان مأواه خلال التسعة أشهر الماضية، فلم يكن يعرف غيره، تتراكم كتبه إلى جانب مرتبة نومه الممدودة على الأرض. تقف هناك طاولة للكتابة وثلاثة مقاعد، وتوجد صفيحة تسخين كهربائية، وحوض متآكل للغسيل ذو صنبور لا تقطر منه سوى المياه الباردة.. إن ما جعله مترددا في أمر الخروج للتنزه أو التبضع هو أن المصعد معطل منذ ثلاثة أيام، في حين أن هذه الغرفة تقع في الطابق العاشر ! ليست مهمة صعود الطوابق العشرة عند عودته من الخارج ما سببت له القلق من أمر مغادرة الغرفة، بل شعوره بالخذلان إذ يصل منهكا ولا يجد سوى هذا الحيز الكئيب والمنعزل والعاري. فهو بمكوثه في الغرفة لفترات طويلة من الزمن ومتصلة، يقوم بشحن فراغ الغرفة بالأفكار. لهذا يتسبب خروجه من الغرفة في تبديد الحميمية التي يحاول نسجها، أو يجعلها غير ملموسة على الأقل. يجر أفكاره معه متى ما خرج، وأثناء فترة الغياب تلك، تقوم الغرفة بتفريغ نفسها ومحو كل جهوده لسكناها وجعلها مأهولة. عليه أن يبدأ كل شيء من جديد عندما يعود، وهذا يتطلب جهدا مضنيا وعملا روحيا ضخما. لو أخذنا في الحسبان حالته الجسدية بعد تسلق الطوابق العشرة (ينتفخ صدره بالهواء مثل وسادة، أما سيقانه فمتصلبة مثل جذوع الشجر وثقيلة) فسنعرف أن النضال الذي عليه خوضه سيستغرق وقتا طويلا حتى يشرع (أ) من جديد في محاولاته لسكنى المكان. خلال الفاصل الزمني اللحظي بين فتح (أ) للباب والشروع في إعادة تأهيل الخواء، أثناء هذا الفراغ النسبي الذي يصطدم به، يهوي عقله في حالة غياب اللغة التام، من الذعر الأصم. يبدو الأمر له كما لو أنه قد أجبر على مشاهدة غيابه نفسه، كأنه يدخل في بعد آخر حيث يمكنه أن يقطن ثقبا أسود ينقله بين زمن وزمن.

إميل سيوران.. سيرك العزلة

لا يستطيع أحد أن يحرس عزلته إذا لم يعرف كيف يكون بغيضا.
لا أحيا إلا لأن في وسعي الموت متى شئت. لولا فكرة الانتحار لقتلت نفسي منذ البداية.
الشكوكية التي لا تساهم في دمار صحتنا ليست سوى رياضة ذهنية.
المزعج في اليأس أنه بديهي وموثق وذو أسباب وجيهة: إنه ربورتاج. والآن أمعنوا النظر في الأمل. تأملوا سخاءه في الغش، رسوخه في التدجيل، رفضه للأحداث. إنه تيه وخيال، وفي هذا التيه تكمن الحياة ومن هذا الخيال تتغذى.
لو كان علي أن أتخلى عن ولعي بالفنون لما تخصصت في غير العواء.
نكف عن أن نكون شبابا لحظة نكف عن اختيار أعدائنا، راضين بأولئك الذين نجدهم في متناول اليد.

تائها في الضباب، أتعلق بأدنى أسى كأنه حبل نجاة.
نولد ونحن نملك قدرة الإعجاب لا تقدر عشرة كواكب على استنفادها. أما الأرض فتستنفدها مباشرة.
تنهض مثل صانع معجزات عازم على تأثيث يومه بالخوارق، ثم تستلقي على سريرك من جديد لتلُوك حتى الليل هموم العاطفة والمال.
صلتي بالناس أفقدتني نظارة عصاباتي كلها.
لا شيء يكشف عن السوقي مثل رفضه أن يخيب ظنه.
حين يكون جيبي خاليا من أي فلس، أرغم نفسي على تخيل سماء النور الصاخب التي تمثل حسب البوذية اليابانية مرحلة من المراحل التي على الحكيم أن يعبرها لتجاوز العالم. وربما علي أن أضيف، لتجاوز المال.
من بين أنواع النميمة كلها، الأسوأ هي تلك التي تستهدف كسلنا، تلك التي تشكك في أصالته.
الرغبة في الموت كانت همي الأوحد والوحيد، في سبيله ضحيت بكل شيء حتى الموت.
في التشاؤم تلتقي طيبة غير فعالة بخبث غير مشبع.
كنت بصدد متابعة دروس جادة حين اكتشفت أني سأموت ذات يوم، فاهتز تواضعي لذلك. ولما كنت اقتنعت بأنه لم يعد لي ما أتعلمه، فقد تخليت عن دراستي لأخبر العالم بهذا الاكتشاف العظيم.
مع التقدم في السن يتعلم المرء مقايضة مخاوفه بقهقهاته.
كفوا عن سؤالي عن برنامجي: أن أتنفس، أليس برنامجا كافيا؟
أفضل طريقة للابتعاد عن الآخرين تتمثل في أن ندعوهم إلى الاحتفال بهزائمنا، بعد ذلك، نحن على يقين من أننا سنكرههم إلى آخر رمق في حياتنا.
ما من فعل إلا وهو يداعب غرور الضبع فينا.
في أعمق أعماق عجزنا نقع فجأة على ماهية الموت. إنه إدراك أقصى، مستعصٍ على التعبير، هزيمة ميتافيزيقية لا قبل للكلمات بإبلاغها. هذا يفسر لماذا قد نجد في صرخات عجوزٍ أمية، بالنسبة لهذا الموضوع، إضاءةً أفضل مما نجده في رطانة فيلسوف.
كتمان الألم، إنزاله إلى مرتبة النشوة. تلك هي حيلة الاستبطان، لعبة اللطفاء، دبلوماسية الأنين.
كلما كان عقل في خطر، أحس أكثر بالحاجة إلى أن يبدو سطحيا، أن يتخذ له مظهر الخفة، أن يضاعف سوء الفهم في ما يخصه.
لا ينتحر إلا المتفائلون، المتفائلون الذين لم يعودوا قادرين على الاستمرار في التفاؤل. أما الآخرون، فلماذا يكون لهم مبرر للموت وهم لا يملكون مبررا للحياة؟
في ذروة تقززنا، يبدو كأن فأرا قد تسلل إلى دماغنا ليحلم.
لن تكون تعاليم الرواقية أفضل ما يدلنا على جدوى الإهانات أو جاذبية طعنات القدر. إن كتب تعليم اللاإحساس عقلانية أكثر مما يجب. ولكن ماذا لو قام كل منا بتجربته الخاصة كصعلوك، فارتدى أسمالا، ووقف في مفترق طرق، ومد يده للمارة، متعرضا إلى احتقارهم أو شاكرا صدقاتهم. يا له من انضباط ! وماذا لو خرجنا إلى الشارع لشتم الغرباء وتلقي صفعاتهم !
لطالما زرت المحاكم فقط للفرجة على العائدين من أصحاب السوابق، متمليا من مظاهر تفوقهم على القوانين ولهفتهم على الانحدار. ومع ذلك فهم يثيرون الشفقة بالمقارنة مع العاهرات، مع كل الأريحية التي يبدينها وهن في محاكم الآداب. كل هذه اللامبالاة تحير العقل. لا وجود لأثر من كبرياء. لا أقذع الشتائم يدميهن ولا أبشع النعوت يجرحهن. لقد أصبحت كلبيتهن شكل شرفهن. وقفت إحداهن وكانت في السابعة عشرة من عمرها، رائعة في بشاعتها. ترد على القاضي الذي كان يحاول أن ينتزع منها الوعد بألا تعود إلى ارتياد الأرصفة: «لا أستطيع أن أعدك بذلك سيدي القاضي»
لا نعرف حجم قوتنا الخاصة إلا متى تعرضنا إلى الإهانة. أما إذا أردنا أن نواسي أنفسنا على العار الذي لم يلحق بنا، فعلينا أن نلحقه بأنفسنا، أن نبصق على المرآة في انتظار أن يشرفنا الجمهور ببصاقه. فلينجنا الله من مصير مُحْترم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى