الرأيمجتمع

الأفول والصعود في الثقافة

 

 

عبد الإله بلقزيز

قد يصح أن يقال إن ظاهرة التراجع الثقافي والفكري ظاهرة عالمية لا عربية فقط. ربما كان الفارق فارقا في الدرجة بين ثقافة وثقافة، ولكن الجامع، اليوم، بين ثقافات العالم كافة معاناتها هذه الحال من الانحسار والانكماش التي تشهد عليها، منذ عقود. والأدلة على ذلك من واقع الإنتاج الثقافي والفكري، في العالم كله، كثيرة لا حصر لها. وهي حقيقة لم يعد يخفيها أحد من العاملين في ميادين إنتاج المعرفة والثقافة، وإن كان الرأي بينهم في أسباب هذه الأزمة الثقافية مختلفا.

نحن لا نقصد بحكمنا هذا القول إن نسبة المنتوج الثقافي والفكري أو كَمَّهُ تضاءلت عن ذي قبل؛ إذ هو على هذا الصعيد لا يزال غزيرا في مجالات من الثقافة أكثر من أخرى. يدلنا على ذلك حجم المنشور من الأعمال الأدبية والفنية والدراسات الاجتماعية، الذي ما يفتأ يتزايد بتزايد جمهور الكُتابِ والباحثين في العالم.

إذا صَدَقَ الحكم على ميدان المعرفة (غير الطبيعية والرياضية) والثقافة – وهو صادقٌ في ما نزعُم – فإن صدْقه على وجه العموم لا ينفي المراتب والتفاوتات بين المجالات في مدى الضر الذي أصاب كلا منها؛ مثلما هو لا ينفي أن بعض أجناس الثقافة يخرج جملة، أو في قسم كبير منه، من نطاق الحكم عليه بالتراجع أو الانكماش. ومعنى هذا الاستدراك، من وجهة نظر التفكير النقدي، أننا نحتاج إلى دراسات تحليلية تفصيلية لكل ميدان من ميادين الثقافة والفكر، للوقوف على ما يعتورها من مشكلات وأزمات، أو ما تزخر به من مكتسبات، حتى يكون الحكم عليها موضوعيا وعلميا لا انطباعيا فحسب.

يمكن القول مثلا، ومن غير تَزيُّد، إن ميادين الثقافة في العالم (الفنون والآداب) أقل إصابة بالوهن والتراجع من ميادين المعرفة (الفكر أو الفلسفة والعلوم الاجتماعية والإنسانية). ولكن الحكم العام هذا يحتاج، بدوره، إلى تخصيص وتنسيب؛ إذ ما كل فروع الأدب والفن أينعت وأزهرت وسَلِمَتْ من اليباس؛ بل كان فيها ما تراجع خصوبة إلى حد كبير، مثلما كان فيها ما تعطلت فيه إرادة الخصب. وبالمثل، ما كانت ميادين المعرفة جميعها على الدرجة عينها من الانكماش؛ فلقد أصاب ذلك بعضها أكثر من غيره، فيما ظل بعضها أكثر قدرة على البقاء في الحد الأدنى الحيوي فيه.

على مسرح الثقافة في العالم، لا تتكافأ الميادين في فرص المنافسة والتقدم: آدابا وفنونا. في الآداب، مثلا، تكاد أجناس ثلاثة من الكتابة الأدبية أن تتآكل، وبعضها يكاد أن ينقرض؛ هي: الشعر والقصة القصيرة والنص المسرحي المكتوب. وهكذا لم نعد نشهد على موجات من الإبداع الأدبي في هذه الأجناس، نظير التي كنا نعرفها، ولا على أقلام متميزين نظير ما كنا نعرفهم، قبل أربعين عاما. هذا، طبعا، دون أن نتحدث عن ندرة المجموعات الشعرية والقصصية والنصوص المسرحية المنشورة.

في المقابل، تعيش الرواية ذروة اندفاعتها، في الأربعين عاما الأخيرة؛ في كمها والنوع، حتى لتكاد أن تكون التعبير الأدبي الوحيد المسيطر على المسرح الثقافي العالمي من غير منازع. لقد تحولت ثقافة السرد إلى ثقافة مهيمنة في العالم، ساعدها على ذلك أن ثقافة الصورة غذتها كثيرا ورجحت كفتها على غيرها.

وفي الفنون تراجع المسرح والغناء والموسيقى وفن العمارة عما كانته، قبل منتصف القرن الماضي. يعود تراجع مستوى المسرح إلى ندرة نصوصه المعاصرة، واستنفاد الاشتغال بالنصوص الحديثة/ القديمة وإعادة تدويرها. لكنه يعود، أيضا، إلى هيمنة السينما وتَكَونِ ذائقة جمالية عامة مسكونة بالنص البصري السينمائي، وانصراف الجمهور عنه (المسرح) إلى السينما. أما الغناء الحديث، الذي ورث الغناء الأوپرالي، فانتهت موجاته الكبرى منذ سبعينيات القرن الماضي، ليسيطر نمط من الغناء أمريكي رث، بينما لم تعد الموسيقى – في حقبتها بعد السيمفونية – تقدم جديدا متميزا إلا في النادر. وقُلِ الشيء نفسه عن فن العمارة الذي تدهور في العالم كله، وفارَقَ طرازه الفني الجمالي القديم، ليتحول إلى وصفات هندسية منمطة مبناها على الفائدة لا على الجمال.

وحدها السينما – وإلى حد ما الفن التشكيلي – استمرت تفرض هيمنتها الثقافية على الفنون كافة، وتستوعبها في الوقت عينه (مثل الرواية بالنسبة إلى الآداب).

ويعود ذلك، في المقام الأول، إلى هيمنة الصورة في التعبير الثقافي، ولكنه يعود – أيضا- إلى صيرورة السينما مجالا لصناعة هائلة تُضَخ فيها استثمارات خرافية: في الإنتاج والتسويق تتناسب مع مستوى الطلب العام على المنتوج السينمائي في العالم كله. وقد استفادت الصناعة السينمائية من وسائط نقل وترويج مربحة، مثل المحطات التلفزيونية، لتتحول إلى الثقافة الجماهيرية الأولى في العالم.

نافذة:

يعود تراجع مستوى المسرح إلى ندرة نصوصه المعاصرة واستنفاد الاشتغال بالنصوص الحديثة/ القديمة وإعادة تدويرها لكنه يعود أيضا إلى هيمنة السينما

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى