شوف تشوف

الرأيالرئيسية

البعوضة.. الكاميكاز الدموي

 

مقالات ذات صلة

 

بقلم: خالص جلبي

 

وضعتها تحت المكبر وتأملتها. إنها تشبه المحقنة تماما (السيرينغ الطبي)! أنبوب في مقدمته إبرة طويلة للحقن والشفط، هل تعرفون ما هي؟ إنها البعوضة الأستاذة مصاصة الدم؟ إنها أعجوبة وفلسفة مليئة بالألغاز. قالت لي ابنتي وهي تتأمل الجثة المرعبة: هل من حكمة في وجودها؟ هل هي لتكمل دائرة الأحياء؟ هل هناك فوائد منها لا نعرفها كما كشف في العقرب والأفعى، بل والجراثيم؟ قلت لها: الشيء الأكيد هو إزعاجها وإرعابها ومصها لدمنا، وجعلنا نحك جلدنا كالمجانين بعد اللسع، (النصيحة لا تحك، ولكن عقم المكان واصبر، أو استخدم مرهما اسمه «بعد العض»).

 إنها كائن مدهش؛ فليست مثل النحلة إن لسعت ماتت، وتركت شوكتها في لحم الملدوغ. تعطينا العسل وليس الحك وشرب الدم، وهي، أي النحلة المسكينة، تفعل ذلك دفاعا كما تفعل الأفعى، وليس متعة ولذة بالضحية الفريسة. أذكر جيدا يوما أنني دخلت دورة مياه في مسجد؛ فكانت أكوام البعوض وأسرابها المرعبة في المرصاد على الجدار، هربت! وآثرت حبس مخلفاتي في أحشائي، على المغامرة بين قوم لا يرقبون فيك إلا ولا ذمة. إنها ليست مثل الذباب تحترم قوانين النوم والليل والنهار، كما جاء في كتاب «الحيوان» للجاحظ في مجلداته السبعة. فالذباب كائن يستحق الاحترام، أمام البعوض له قوانين نومه ويقظته، في الليل ينام مع نوم النائمين، وفي الصباح معاشا، يستقبل الحياة بنشاط ومرح؛ فلا يثقب ولا يلدغ، بل يلحس بنعومة ويمسح بلطف! أما البعوض التعيس فهو يستيقظ حين يهجع الناس؛ فتراه يطن بجنب الأذنين؛ فتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وتنهض للمعركة، فليس أمامك إلا الدخول في المعركة مع الكاميكاز الانتحاري، قاتل مجرم يجب قتله، أو أنت ملدوغ تحك إلى درجة شرشرة الدم من الجلد. إنه لا يتراجع بدون استخدام محقنته لشرب دمك، ولا تشعر بالوخزة، لأنه يستخدم مخدرا خاصا أثناء البحث عن ينابيع الدم ومجرى الأوردة تحت جلدك، فإذا غطس بإبرته ما شعرت حتى يملأ محقنته، ثم ينصرف بهدوء لتبدأ أنت في الحك المخيف الشره حتى يلتهب الجلد ويحمر.  ولماذا الدم يا خبيث؟ كل الطبيعة أمامك جميلة فتانة، قلّد الذباب أرجوك، انخرط مع أسراب النمل والنحل عفوا، انضم إلى فرق الصراصير والجرذان، تعلم من حكمة البوم والضفدع. يا خبيث كُفَّ عن ثقب أجسامنا، وتحويل وجوه أحفادنا وأطفالنا إلى صور مشوهة.

كانت حفيدتي الصغيرة ليلى مع أمها في زيارتي من كندا؛ فاستيقظت صباحا، وآثار فرقة كاملة من هؤلاء الخبثاء، قد حولوا تضاريس وجهها الجميل إلى ما يشبه مرتفعات الأطلس وتضاريس جبال روكي. لقد تمتع هؤلاء الأوغاد وعربدوا حتى الثمالة، فشربوا لحد السكر من دمها اللذيذ، وافترسوا لدرجة التخمة من لحمها الطري! أعلنا الحرب على هؤلاء الزومبي والدراكولا الليلي بكل وسيلة ممكنة، أنوار ومشاعل وملاحقة وقتل وغازات كهربائية في كل زاوية وبكلفة تزيد على كهرباء المكيفات.

إن قصصهم تحمل الرعب، فصديقي عماد كسرت ذراعه وهو يطاردهم. وامرأة فاضلة تصيبها حساسية من لدغة بعوضة واحدة تقترب من الربو تحتاج إلى الإسعاف وحقن الكورتيزون. إنها ليست مثل الدبور، فمرحبا بدبابير العالم صيدا وإبعادا، أما هي فترقص ضاحكة طربا، بل وحتى ضربها والقضاء عليها يحتاج إلى تدريب خاص، لأن صفعها من بعيد يجعلها تشعر بموجة الهواء؛ فتضيع يدك في الهواء، أو تخبط على كتف من حولك ألما والحشرة فرارا. إنها مراوغة غدارة دموية مدربة، مثل أي كاميكاز انتحاري لا يهمه شيء سوى شفط الدم (وهي الأنثى الملعونة). إنها قصة عالمية وحشرة كونية ورعب دولي، منها في بنغلاديش لا ينامون إلا تحت الناموسيات، وعلى ضفاف بحيرات كندا كن حذرا جدا، إنه كائن يحتاج إلى مليارات الدولارات لفهمه وفهم حروبه. بعد أن ظفرنا بواحدة وضعنا المكبرات، وبدأنا في التأمل. قلت لابنتي: تصوري أن يكون رأسك درعا ممتدا منه رمح حذاء الأنف بطول ثلاثة أمتار مثلا، وجرى التقليد عندي حين أظفر بواحدة أن أقوم بحفلة حرق لها وبنوع من لذة الانتقام. ضحكت ابنتي من التشبيه. قلت لها: هذا هو واقع هذه الحشرة التي تحدث عنها القرآن أنها أسفل سلم الموجودات، فلا شيء تحتها من الحشرات. إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها، تأمل كلمة فما فوقها فليس تحتها شيء. إنها جيوش الظلام ودراكولا العتمة وتناقض الكون في صورة حشرة ضعيفة، لكن جبارة.

قرأت في إحصائية خاصة عن أخطر الكائنات، فذكروا العقارب والأفاعي والكومودو الفليبني والفهود والنمور والضواري، ولكن كل هؤلاء في السلم لا يقتربون من ضحايا البعوض. إنها تقتل سنويا ثمانية ملايين من الأنام، فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ في كندا اخترعوا دواء مضادا لها ترشه على جسمك إن جلست في حديقة، ثم دواء تمسح به مكان اللدغ اسمه (بعد العض = After bite). وسمعت عن تجارب في بلد إفريقي يحاولون تبديل الجينات في كيان الأنثى، لأنها المسؤولة عن شرب الدم.

في إحدى الليالي قمت وعرفت الجريمة، بعوضة تغير شكلها من الطولاني إلى المكور المدور المحقن بالدم. هنا طريقة القتل سهلة يكفي ضغطها بالأصبع، لأنها تشرب ثمانية أضعاف وزنها دما. تصوروا أن رجلا وزنه 80 كيلوغراما يقوم بأكل وجبة بمقدار 360 كيلوغراما، انطرش الدم في الحائط بعد قتلها. قمت بكتابة اسمي من دمي على الحائط، أي والله: خالص جلبي الملدوغ. لذا نصيحتي بالقتل أن تقترب شيئا فشيئا من الخلف بحذر بالغ حتى تكون على بعد سنتيمتر، ثم تضغط بسرعة فائقة؛ فقد تقتلها، وقد تطير مع ذلك. وإذا طارت فليس من جهاز تعقب، ولا عين رأيت، ولا أثر، في كندا البعوضة نسبيا كبيرة وسوداء، أما ألعنها فهي في السعودية صغيرة ولونها «بيج» وسمية جدا. وعليك أن تترك النوم لتبدأ المعركة وإلا فلا نوم. وأهم شيء للنوافذ إحكام إغلاقها بشبك البعوض وهو المعمول به في النوافذ الكندية، وعندي في المغرب فألزم بها. 

 

نافذة:

إنه لا يتراجع بدون استخدام محقنته لشرب دمك ولا تشعر بالوخزة لأنه يستخدم مخدرا خاصا أثناء البحث عن ينابيع الدم ومجرى الأوردة تحت جلدك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى