حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرثقافة وفنفسحة الصيف

الذاكرة الجديدة للإنسانية: الكتابة فلسفة الكلمة

بقلم: خالص جلبي

 

مرت اللغة بمرحلتين متميزتين، استغرقت الأولى (التصويت والسماع) فترة طويلة قد تكون أخذت مئات الآلاف من السنوات؛ في حين أن الثانية (الكتابة) بدأت منذ فترة حديثة نسبيا، وهي في حدود خمسة آلاف سنة. المرحلة الأولى بدورها تطلب إنجازها العبور من مرحلة بدائية إلى مرحلة أكثر تقدمية؛ فالمرحلة البدائية اعتمدت الإشارات من حركة اليدين والرأس وتعبيرات الوجه ووقفة الجسم وما شابه ذلك، وما زالت بصمات هذه المرحلة تظللنا، فنحن على العموم لا نستطيع أن نتكلم إلى من حولنا، أو نخطب في جمع، أو نتحدث في محاضرة بدون هذه الحركات؛ بل تعتبر هذه علامات على دلالة الحيوية في المتكلم، وفي النقلة اللاحقة بدأ الإنسان في التصويت، بحيث ربط بين التصويت والفكرة، وهنا تتأرجح المدارس الأنثروبولوجية عند هذه النقطة، وكيف تشكلت؟ خاصة أن الطفل في السنة الأولى من العمر لا يستطيع التصويت حتى تنمو حنجرته فيتمكن من النطق بعدها.

 

مخطط كرونولوجي للكتابة

إذا أردنا الآن وضع كرونولوجيا (وضع الأحداث بشكل متسلسل، حسب التقويم الزمني) للكتابة فنقول: إن بداية الكتابة تحوم حول خمسة آلاف سنة، أما بداية الحضارة فيمكن أن تكون قبل ستة آلاف سنة، وإذا أردنا تحويل بداية اختراع الكتابة بدورها إلى كتابة من خمسمائة صفحة، فإن الكمبيوتر يبدأ في الصفحة الأخيرة منه.

ولكن ما هي فلسفة (الكلمة)؟ تلك التي يشكل مجموع تراصها مقالتي التي بين يديك أيها القارئ الكريم، إن (الكلمة المكتوبة) تطور حديث العهد، فالإنسان احتاج طويلا كي ينتقل من نظام التصويت وإشارات اليدين والرأس (1) إلى الكلمة المجردة، وعندما أراد الإنسان كتابة الكلمة بدأ بتصوير الشجرة والثور، ولكن الإنسان أدرك منذ البداية استحالة التقدم بهذه الطريقة؛ فعمد إلى اختراع الكتابة التي هي أسلوب في غاية الذكاء للتطور الصحيح، مع ذلك ما زلنا نعتمد على بعض الرسوم، كما هو في رسم الطيارة للإشارة إلى المطار؛ فشكل الطيارة أصبح عالميا بدلالته إلى المطار، كما أن رأس الطيارة جيد لتوجيه السير باتجاه المطار، ولكن لا يمكن التقدم بالحياة بهذا الأسلوب البدائي؛ حتى أن التلفزيون من هذا المنظور يجمع بين البدائية والتطور، فاعتماد الصورة فقط هو نكسة للبدائية، في حين أن استخدام الكلمة قفزة نوعية للإنسان، سواء المسموعة أو المكتوبة، ومع وضع الفينيقيين للحروف الصماء الستة والعشرين، وبإضافة اليونانيين الحروف المتحركة، وبإضافة الأرقام أخيرا، اكتملت اللغة.

 

الخطير في اختراع الكتابة

ما علاقة الكتابة بالتاريخ؟ إن القرآن الكريم أشار إلى القلم والسطر (ن. والقلم وما يسطرون)، كما أشار إلى مرحلة (الكتاب) الكامل المتطور (والطور وكتاب مسطور في رق منشور)، وأول الآيات التي أنزلت أشادت بالقلم الذي يطور العلم، بالإضافة التراكمية للمعرفة، كما ربطت القراءة والكرامة (اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم)، فبقدر القراءة يصعد الإنسان ويرقى، وفي التاريخ؛ رأينا أن أكثر الأمم التي قرأت هي التي منحت الكرامة بفعل التراكم المعرفي عندها، كما هو في اليابان اليوم، حيث حققت أعلى نسبة من التعليم في العالم، حتى قبل أمريكا حاليا، أو اليونان قديما، أو العالم الإسلامي في العصر الوسيط، وتحقيق التراكم المعرفي هو بواسطة القلم، فالإنسان يضيف إلى  علمه علما جديدا من خلال ما كتب، وبذلك أمكن اختزال الزمن وكسب تجارب الآخرين.

لنقوم بقلب المسألة بشكل آخر، وذلك بفرض عدم اختراع الكتابة! لأن هذا يحقق تصورا أفضل للمشكلة، كما أنه سينير الطريق أمام فهم الآيتين معا (والقلم وما يسطرون)، وعلاقة ذلك بحرف النون (ن) و(هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) فالإنسان لم يذكر إلا من خلال تخليد ذكراه بالكتابة، فالكتابة هي التي نقلته من عالم (الأنثروبولوجيا)، التاريخ غير المكتوب، إلى عالم التاريخ المكتوب، ولو حصل هذا، أي عدم اختراع الكتابة، لكان معناه وأد كل تجربة في أرضها، بدون أي تراكم معرفي، ولعاش الإنسان بدون تطور؛ فالذي دفع عجلة التطور عند الإنسان هو التراكم المعرفي من خلال حفظ التجارب من خلال الكتابة، أي التاريخ المكتوب؛ فالكتابة هي الذاكرة الجديدة التراكمية التي جعلت الإنسان إنسانا بحق، من (الرق المنشور) إلى الكمبيوتر.

والآن لماذا لم يتطور الإنسان خلال فترة رهيبة غارقة في الزمن من تطوير نظام التصويت، في حين قفز بشكل نوعي مع اختراع الكتابة؟ وهو بفضل هذا النظام يمشي بشكل تسارعي؛ فهو في البداية اخترع الكتابة، التي كانت تكتب في (الرق المنشور)، ولكن قطعة الجلد التي حفظت الكتابة لم تكن عملية كثيرا؛ فانتقل الإنسان إلى اختراع الورق، ومع نظام الورق انتقل الإنسان إلى مرحلة (الكتاب المسطور)، وهكذا نشأ نظام (نساخ الكتب) التي كانت في يوم من الأيام سوقا وصناعة قائمة بذاتها، وما بين ألواح (جلجاميش) ومرحلة (الكتاب المسطور)، سحب الزمن ثلاثة آلاف سنة، ولكن هؤلاء (النساخ) المنهكين الذين كانت تتكسر ظهورهم وأصابعهم من العمل المتواصل، لم تنقدح في ذهنهم فكرة في غاية البساطة من الأختام المستعملة في تذييل ومهر الرسائل، وهي جعل وجه أو صفحة الخاتم أو الختم صفحة كبيرة بحجم ورقة من التي ينكبون على نسخها يوميا، فإذا عملوا عددا من هذه الأختام الكبيرة بقدر أوراق الكتاب، كان معناه أن فكرة المطبعة قد ولدت، ولكن هيهات هيهات لانبثاق الأفكار؛ فضلا عن التطبيق؛ فهذه الفكرة البسيطة أخذت ألفا وخمسمائة عام آخر ريثما ولدت في عالم التطبيق على يد (غوتنبرغ) الألماني؛ فاختراع المطبعة دشن قبل ما يزيد على خمسمائة عام فقط من تاريخنا الحالي، ومع بروز عصر المطبعة بدأ الورق في تحرير عقل الإنسان(2)، وبدأت (جدلية جديدة) في البروز من تحرر الفكر من الحدود والقيود والمصادرة والخنق والكبت، فمع كل خطوة تحريرية يقرها العقل تولد معه آلة جديدة محررة للفكر، فهناك علاقة جدلية بين الفكر وآلته التي يركبها، فالهاتف أمكن مراقبته والفاكس أصبح أصعب، ولكنه ليس في حيز المستحيل، والدش (الستلايت) الكبير يمكن كشفه ومنعه مثلا، ولكن ماذا تفعل مع دش من قطر سنتيمترات محدودة، أو مع نظام جديد لا حاجة به نهائيا إلى  نظام دش خارجي، كما في التلفونات الذكية أو الذكاء الصناعي؟ والكتاب (الخطر) المرغوب في العادة قد تستطيع مصادرته، ولكن بواسطة ديسك بسيط (فلاشة) يمكن نقل آلاف (البايتات) اليوم، بما يمكن حمل نفوس أهل بلد بكامله، فلم يعد بالإمكان الإمساك بالعلم اليوم، وهذا يعطينا إغراء خاصا أن من كان عنده فكر أفضل هو الذي سيخترق العالم.

 

 

مراجع وهوامش:

  • تراجع القصة بالتفصيل في كتاب «ملحمة جلجاميش» – ن.ك.ساندرز – ترجمة محمد نبيل نوفل – دار المعارف بمصر، ص: 10.

(2) يراجع في هذا كتاب «دراسة التاريخ» لجون أرنولد توينبي، الجزء الأول، بحث انتحارية النزعة الحربية وكيف أن دولة آشور مسحت معظم مدن منطقة الشرق الأوسط وسوتها بالأرض، وحملت شعوبا بأكملها إلى معسكرات الاعتقال الجماعية، منها الشعب اليهودي الذي ما زال يحملها في الذاكرة الجماعية

 

نافذة:

عندما أراد الإنسان كتابة الكلمة بدأ بتصوير الشجرة والثور ولكن الإنسان أدرك منذ البداية استحالة التقدم بهذه الطريقة فعمد إلى اختراع الكتابة التي هي أسلوب في غاية الذكاء للتطور الصحيح

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى