شوف تشوف

الريف والكيف

عندما تضع جملة تعيين مغربي في محرك البحث غوغل تعثر على أخبار مثل تعيين منصف السلاوي على رأس مبادرة البيت الأبيض لتطوير لقاح ضد فيروس كورونا، أو تعيين المغربية اسمهان الوافي لتولي منصب كبير العلماء في منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة، أو تعيين المغربية نجاة مجيد ممثلة خاصة للأمين العام لقضية العنف ضد الأطفال، أو تعيين المغربية نجاة رشدي مستشارة رئيسية للعمل الإنساني في سوريا، أو تعيين المغربية أمال الفلاح سغروشني، الخبيرة الدولية في الذكاء الاصطناعي، باللجنة العالمية لأخلاقيات المعارف العلمية والتكنولوجية التابعة لمنظمة اليونسكو، أو تعيين المغربية نوال برادة مديرة لإدارة المرأة والأسرة والطفولة بجامعة الدول العربية، أو خبر قيادة العالم المغربي كمال الودغيري بنجاح مهمة غير مسبوقة لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا.
لكنك عندما تضع اسم الجزائر في محرك البحث تكتشف أن خبر التعيين الوحيد الذي يظهر لك هو خبر تعيين أبو يوسف عبيدة زعيما جديدا للقاعدة في المغرب الإسلامي.
ومن شدة كراهية المغرب من طرف الجزائر صوتت هذه الأخيرة ضد قرار إخراج نبتة الكيف من لائحة المواد الضارة واعتمادها من طرف الأمم المتحدة في الاستخدام الطبي، فقط لأن المغرب لديه أكبر إنتاج عالمي لنبتة القنب الهندي، وإذا أصبح المغرب أول مصدر قانوني للقنب الهندي عالميًا فيمكن ذلك أن يصيب حكام الجزائر بالشلل.
القرار الأممي في الحقيقة خبر سعيد بالنسبة لشريحة واسعة من المزارعين البسطاء يعيشون من زراعة نبتة الكيف بالريف المغربي.
والواقع أن هناك حوالي 40 ألف أسرة تعيش مباشرة من زراعة “الكيف”، وهناك أكثر من 50 ألف شخص مبحوث عنه بسبب هذه الزراعة المحظورة، أغلبهم مسنون ومرضى. ودائما ما كان هناك صراع سياسي حول هذه الأصوات الموزعة على قرى الريف والتي تقدر بعشرات الآلاف، وحول هذه الكتلة تتنافس الأحزاب المتصارعة التي ظلت ترفع في كل فترة انتخابية يافطة الدفاع عن مزارعي حقول الكيف.
ولعل المشكلة الكبيرة التي يعاني منها المزارعون الذين دفعتهم ظروف الحياة الريفية الصعبة إلى ممارسة زراعة “الكيف”، ليست مع القانون الذي يتعقبهم، وإنما مع طريقة تطبيقه. خصوصا عندما يعطي رجال السلطة أوامرهم الصارمة لمساعديهم بملاحقة مزارعي «الكيف» داخل منازلهم وحقولهم، وهكذا أصبحت بيوت المزارعين مباحة بقوة القانون، فتجرأ بعض أعوان السلطة على ممتلكات الناس، واستغل بعض ضعاف النفوس دخول البيوت لسرقة حلي النساء ونفائسهن. وأفظع من ذلك كله أن البعض استغل هذه الحملة لتصفية حساباته القديمة مع مزارعي «الكيف» الذين لا يدفعون رشاوى. فكانت تنجو مزارع وبيوت المزارعين المحميين الذين يشترون «الطريق»، فيما تهلك بيوت ومزارع كل الذين لم يذق بعض رجال السلطة المرتشين «فلوسهم». وهي رسالة واضحة التقطها مزارعو «الكيف» وفهموا المراد منها، أي أنهم يجب أن «يتكيفوا» مع الوضع وإلا فإنهم سيصبحون من المبحوث عنهم.
وقد ظل الناس في المغرب يقرنون القنب الهندي بلفافات «الجوانات» و«الشقوفا» و«التبويقة»، وينسون أن هذه النبتة السحرية لديها استعمالات صناعية كثيرة يمكن أن تدر على المغرب عائدات «حلال» في حالة تأطير زراعتها وتطوير البنيات الصناعية التي يتطلبها تحويلها.
فالحكومة، عبر وزارة المالية، تستخلص الضرائب المفروضة على المشروبات الكحولية والتبغ، وفي حالة تأطير وتشجيع زراعة “الكيف” فإن العائدات الضريبية لهذه الزراعة “الحلال” ستتفوق على ضرائب هذه المواد التي ظل حزب العدالة والتنمية يعتبرها من الخبائث ويحاربها عبر فريقه في البرلمان.
قليلون هم الذين يعرفون أن حظر زراعة القنب الهندي بدأ في أمريكا منذ سنة 1910، والسبب طبعا كان اقتصاديا، لكن، وكما في كل المعارك الاقتصادية، تم تغليف الموضوع بطلاء سياسي، فقد اكتشفت الطبقة البورجوازية الأمريكية المتحكمة تاريخيا في سوق القطن أن مزارعي القنب الهندي أصبحوا يضايقونها في السوق. وذلك بسبب تزايد الطلب على الأثواب المصنوعة من ألياف القنب الهندي. ولعل من المفيد الإشارة هنا إلى أن القنب الهندي ظل دائما يستعمل في أمريكا منذ سنة 1600 في أغراض صناعية، كالأثواب والقنب والورق، ولم يتم استعماله كمخدر سوى ابتداء من سنة 1900. وربما يجهل كثيرون أن أول سروال «بلودجين» تمت صناعته من نبتة «الكيف»، كما أن أول نسخة من الإنجيل طبعها «يوهان غوتانبورغ»، مخترع المطبعة، كانت فوق ورق مصنوع من ألياف نبتة «الكيف».
ولكي يقنع تجار القطن الأمريكيون القضاة بضرورة منع زراعة القنب الهندي بدؤوا يبحثون عن مبررات سياسية، ولم يتأخروا في العثور على مبرر مقنع، خصوصا عندما بدأت قبائل الهنود الحمر تستعمل هذه النبتة كمخدر. فانتشرت أخبار عبر الصحف تقول إن تدخين القنب الهندي يزيل الرهبة والخوف من عيون الهنود الحمر، بحيث يجعلهم قادرين على التحديق في عيون أسيادهم البيض واعتراض سبيل نسائهم واغتصابهن.
بالنسبة إلى المغرب، فقد منع بدوره زراعة القنب الهندي أسوة بفرنسا التي انخرطت في الحملة ضد هذه النبتة بعدما انتقلت الحرب ضدها من أمريكا إلى أوربا، ودائما تحت شعار الحرص على الصحة العامة، مع أن التبغ، الذي يعتبر علميا نبتة أخطر بكثير من “الكيف”، خصوصًا عندما يضاف إليه القطران والنيكوتين، حظي بمعاملة تشجيعية، بل ظل يتمتع بحملات ترويج وإشهار في الصحف ووسائل الإعلام إلى حدود السنوات الأخيرة. والسبب هو أن التبغ وراءه شركات رأسمالية عالمية كبرى تحرك اقتصاديات دول بأسرها، فيما القنب الهندي، الذي لا ينمو إلا في مناطق معينة، باستطاعته أن يهدد اقتصاديات شركات الورق والقنب وأسواق القطن العالمية.
من هنا، تأتي أهمية رفع الحظر عن زراعة القنب الهندي في الريف المغربي بعد القرار الأممي الذي صوت المغرب لصالحه. طبعا، هذا لا يعني إطلاق العنان لبارونات المخدرات لتحويل هذه النبتة إلى سموم، بل يعني تحمل الدولة لمسؤولية إنشاء الوحدات الصناعية الكفيلة باستغلال المزايا الصناعية لهذه النبتة وتصديرها.
وأهم الاستعمالات الصناعية التي تستخرج من القنب الهندي الاستعمالات الدوائية، خصوصا الأدوية المضادة للألم وأمراض السرطان والربو والكوليستيرول والضغط. وبالإضافة إلى الأدوية الطبية، تصلح نبتة القنب الهندي لاستخلاص مواد التجميل منها، كالصابون والمحاليل والكريمات المرطبة والمغذية للجلد.
وفي مجال الصناعات الخفيفة، هناك الأقمشة التي يمكن أن تستخلص من تيجان نبات القنب الهندي، والمشهورة بجودتها ومتانتها واحترامها للبيئة والتي تستعمل عادة في حياكة الملابس الداخلية وصناعة الحبال والزرابي والأحذية. ولعل بلدا كالمغرب، يفتقر إلى مصادر الطاقة، يستطيع أن يحول آلاف الهكتارات من القنب الهندي، التي ظل يحاربها اليوم بإحراقها، إلى مصدر مهم من مصادر الطاقة البديلة والنظيفة. فمن القنب الهندي نستطيع استخلاص «البنزين البيو» وزيت الإضاءة وزيت «الميتانول» الذي يستخدم في أجهزة التدفئة.
وخارج هذه الاستعمالات الطبية والتجميلية والاستهلاكية، هناك استعمال مهم لنبتة القنب الهندي يدخل في مجال البناء. ولعل قلة قليلة فقط تعرف أن ألياف نبتة «الكيف» تصلح لصناعة العوازل التي توضع بين الجدران، كما تصلح لصناعة طلاء «الفيرني» والأصباغ والآجر.
ولعل واحدة من الصناعات الطريفة التي تدخل ضمنها نبتة «الكيف» هي أنها تصلح لصناعة الأوراق، وخصوصا ورق التلفيف والكارتون والأظرفة والأوراق المالية.
هكذا، إذا شجعت الدولة زراعة القنب الهندي وحاربت استعماله في تجارة المخدرات، فإنها ستجني من وراء ذلك أظرفة مالية كثيرة دون حاجة إلى تلقي عتاب الاتحاد الأوربي كل سنة والذي يضع المغرب دائما في هرم الدول المنتجة للقنب الهندي في العالم.
المشكلة أن السياسيين عندنا لا يثيرون موضوع زراعة “الكيف” وهم يحملون في حقائبهم مشاريع مضبوطة بالأرقام والتصورات، وإنما يثيرونه اعتمادا على خطابات شفوية يزول مفعولها بزوال الغاية السياسية المرجوة من وراء إثارتها.
اليوم بعد الاعتراف الأممي بمنافع نبتة الكيف الصحية يجب أن تكون للحكومة إرادة حقيقية لاستغلال نبتة “الكيف” استغلالا صناعيا، لتنمية الريف والشمال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى