الرئيسية

المالح: العائلة استغلت قانون الإيجار للسكن بالمجان وتنقلنا كثيرا بين المنازل

فيكتور المالح..من أزقة «موكادور» إلى ناطحات السحاب بنيويورك (2014-1918) - 7

يونس جنوحي
اعترف فيكتور المالح بأن حياته في البدايات، أي خلال النصف الأخير من ثلاثينيات القرن الماضي، كانت عصيبة في نيويورك، وأنه لم يعش طفولة «سعيدة» بسبب التمزق الأسري. والداه في الصويرة رفقة إخوته الصغار، وإقامته مع جديه في نيويورك، حيث الجد رجل الدين اليهودي الحريص على تلقين مبادئ الديانة اليهودية وطقوسها لكافة أفراد الأسرة ومعاقبتهم إن لزم الأمر حتى لا يتهاونوا أو يُخطئوا عند إحيائها، كلها ملامح من طفولة لم يبدد رتابتها سوى وجه جدته التي كانت هي الأخرى «مسروقة» من حياة الصويرة ومحشورة في نيويورك التي لم تكن تعرف عن الحياة فيها أي شيء.

ذكريات في الشقة «الخلفية»
كان منزلا متواضعا أقامت فيه الأسرة. يستحضر فيكتور المالح هذه التفاصيل: «في الشارع رقم 62، ثلاث خالات لي كنّ يقتسمن سريرا واحدا في الشقة الخلفية التي كانت تخترقها كرات البيسبول عندما نلعب.
لا أذكر تحديدا أين كنت أنام، لكن كان لدي نزيف حاد في الأنف، صححته لاحقا بعملية جراحية، وكنت أيضا مصابا بالربو، شفيت منه لاحقا لكنه عاد عندما كبرت.
أذكر أيضا غرفة جلوس مظلمة كان بها بيانو وأريكة غامقة اللون. لقد كان لدينا القليل فقط من الترفيه الاجتماعي. ولسبب ما، كان لعائلتنا أصدقاء قليلون جدا.
ولأنه كان يعتبر ذنبا وخطيئة إيقاد النار أيام السبت فإن جدتي تعد لنا حساء كان يطلق عليه «الشرشمة». كانت تضع فيه اللحم والبطاطس والبيض والحمص. كان القدر يوضع فوق الموقد ويترك ليغلي طيلة ليلة الجمعة إلى صباح يوم السبت، لنجد شخصا غير يهودي ليقوم بإطفاء الموقد».

الطفل الذي تربى على البيزنس
وسط هذا الزخم من الذكريات التي يستعيدها فيكتور المالح وهو في الخامسة والتسعين تقريبا، بكثير من الوضوح، بدت ملامح الجينات التي جعلت منه رجل أعمال ناجحا. يقول إن وسط جو «البؤس» والرتابة الذي نشأ فيه ويعتبره غير سعيد نهائيا، فإن العائلة كانت لديها بالمقابل بعض النقاط الإيجابية التي جعلته مدينا لها بنجاحاته لاحقا. يقول فيكتور المالح إن العائلة كانت تؤمن بالعمل. إذ لا يمكن أن يكون أحد أفرادها في عطالة نهائيا. إما الدراسة أو العمل. يقول إن أخواله وخالاته لم يخرجوا نهائيا عن هذه القاعدة طيلة حياتهم، ولم يكونوا يعرفون ما معنى المكوث في البيت بلا سبب. الجدة، كانت هي الوحيدة في العائلة المسموح لها بالبقاء في البيت والإشراف على مأكل ومشرب الأسرة دون فعل أي شيء آخر في الخارج. في المقابل، كان الجميع مطالبين بتحقيق أهداف في الحياة. الدراسة أولا، وفي حالة عدم التفوق فيها، يتم التوجه مباشرة إلى سوق الشغل.
خاصية أخرى يقول فيكتور المالح إنها ميزت العائلة جيدا، وهي أنهم كانوا ينتقلون كثيرا. ففي ظرف السنوات الخمس الأولى لوجوده في أمريكا، غيرت العائلة سكنها مرتين، ولاحقا، تحولت العائلة إلى أحياء كثيرة في نيويورك معروفة بإقبال كبير للجاليات المهاجرة توا إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
يقول: «كان شائعا وقتها أن ملاك المنازل كانوا يتنازلون عن قيمة كراء ستة أشهر وبالتالي كنا ننتقل كثيرا ونستفيد من هذا الامتياز مرات كثيرة. كان لدينا عدد كبير من العناوين في محيط منطقة «بوروغ».
الطريف في هذا الأمر، حسب فيكتور المالح، أن العائلة كانت تنتقل بين منازل في نفس النقطة، بل وفي نفس الحي. وفي كل مرة يغيرون فقط رقم الشارع الذي يفضي إلى نفس الجادة. بحيث تحتفظ العائلة بنفس الجيران تقريبا ونفس أماكن اللعب التي تعلم فيها فيكتور المالح لعبة الـ«بينغ بونغ». أشار فيكتور المالح أيضا إلى أن الحي كله كان يغص بعدد كبير جدا من الأسر اليهودية.

أمريكا الأخرى..
في عدد من الوثائقيات التي أصدرتها أكاديمية الفيلم الأمريكية، تم التطرق بشكل مستفيض لفترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي في أحياء نيويورك. وفي هذا الصدد ننقل إفادة للسيد توم فرانكشتاين، أحد المهتمين بتاريخ الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية خلال القرن الماضي. يقول: «نيويورك كانت معقلا لهجرة من مختلف جهات العالم. في بداية الأربعينيات أصبح لدينا مهاجرون في نيويورك من كل مكان في العالم. وهنا أؤكد أنهم من كل مكان في العالم. لا توجد جنسية في الكرة الأرضية لم يهاجر منها أحد إلى نيويورك. وهذا الأمر جعل المدينة تعرف طفرة كبيرة.
لنأخذ على سبيل المثال اليهود. هؤلاء كان يجمع بينهم نفس الدين، لكنهم كانوا من كل مكان في العالم تقريبا. اجتمع يهود روسيا مع اليهود العرب، ويهود أوربا الشرقية. وكانوا كلهم قادمين من خلفيات مختلفة وكونوا أحياء في نيويورك يتخللها هنود وباكستانيون ومسلمون من الشرق الأوسط. وهؤلاء المهاجرون جميعا درسوا في نفس المدارس الحكومية وذابت بينهم الفوارق الطبقية. ولم يكونوا ينظرون إلى بعضهم بانتقاص، لأن الجميع كانوا مهاجرين، وهو ما أهلهم لكي يحظوا بفرص استغلها بعضهم جيدا لكي يلتحقوا بالحياة على الإيقاع الأمريكي المتسارع».
وكأن هذا الباحث يتحدث عن فيكتور المالح تحديدا. تجب الإشارة أيضا إلى أن نيويورك وقتها لم تكن سخية مع أحد. ولم يكن النجاح بها سهلا. لقد كان المهاجرون يعانون فعلا من شظف العيش، ومئات الآلاف ورثوا الفقر فيها عن آبائهم، وقلة فقط استطاعوا ولوج الجامعات واندمجوا في الحياة الأمريكية. الأقلية الصينية القادمة إلى أمريكا مثلا، دخلوا في حرب مع الحكومة الأمريكية بسبب مشاكل الاندماج، وأسسوا حيا صينيا لهم في نيويورك، وشرعوا في فتح مدارس بتراخيص حكومية لتدريس فنون القتال والثقافة الصينية. مهاجرون من جنسيات أخرى أيضا تقوقعوا على أنفسهم ووجدت الحكومة الأمريكية في الأربعينيات مشاكل كبيرة في إدماجهم في المجتمع الأمريكي.

فيكتور تتقاذفه أحلامه
عندما بلغ فيكتور المالح تسعين عاما، سنة 2008، بيعت إحدى لوحاته بمئات آلاف الدولارات. وكتبت الصحف والمجلات الفنية أن فيكتور المالح باع لوحاته بمقابل مادي خيالي لم يكن في الحقيقة في حاجة إليه، لأن نجاحه المالي لم يكن مبنيا على بيع اللوحات وإنما على العقار والمشاريع التجارية الكبرى وتجارة السيارات.
إذا عدنا إلى سنة 1938، سوف نفهم جيدا العلاقة التي ربطت فيكتور المالح بالفن. لقد كان وقتها طفلا يافعا وحائرا. أي طريق سوف يتبع؟ المدرسة النظامية وولوج الجامعة والحصول على وظيفة آمنة في شركة من الشركات؟ أم التمرد على توصيات والده الذي يحرص على تفقد مساره الدراسي كل صيف تقريبا، واتباع دروس البيانو التي تقود بدورها إلى ولوج عالم الفن من «أضيق» أبوابه؟
يقول فيكتور المالح: «لقد كنت متفوقا في الموسيقى، وكنت أحصل على دروس في البيانو في المعهد الموسيقي على يد مدير المعهد. لم أعد أذكر اسمه.
لقد قال لي مرة إنه يتوجب عليّ ألا أضيع وقته في تدريسي إذا لم أكن أتمرن. وهكذا أصبحت أتمرن بجدية ومجهود أكبر. كان هذا سنة 1938. في شهر ماي مرضت جدا بعدوى أوشكت معها على الوفاة، لأنه لم يكن يتوفر أي لقاح مضاد وقتها للعدوى. لكن لحسن حظي أنني شفيت. كنت أحس بألم رهيب وحاد، وأعتقد أنني حصلت على دواء ما قضى على المرض».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى