الرأي

عن السويد والتغريد خارج السرب العالمي

مالك التريكي
صار عدد ضحايا أمريكا من الوباء يفوق عدد ضحاياها في حرب فيتنام. إلا أن الفارق هو أن الحرب استغرقت عشرين سنة كاملة، أما الوباء الحالي فعمره بضعة أشهر.
ومع ذلك، فإن إجراءات الحجر تتعرض لحملة معارضة شعبية في عدد من الولايات الأمريكية. لأسباب معقولة في بعض الحالات، حيث إنه لا قدرة للعمال اليوميين والعاطلين عن العمل على العيش، إذا لم يخرجوا في طلب الرزق. ولأسباب غير معقولة في حالات أخرى، حيث إن كثيرا من المحتجين هم خليط من فريقين. الأول يتألف من أنصار ترامب ظالما أو مظلوما. ترامب الذي نفد صبره لأنه لا هم له إلا مصلحته الانتخابية، التي لا يخدمها تعطل النشاط الاقتصادي. ترامب الذي تدل كل أقواله أنه يعد هذا الوباء مؤامرة دبرت بليل مختبري صيني، بينما تدل كل أفعاله أنه يعد الوباء عدوانا شخصيا عليه، لحرمانه من حقه الطبيعي في الفوز بالرئاسة مجددا. وبما أنه سبق له أن تساءل عما إذا كان هنالك من حكمة حقا في حصر الرئاسة في ولايتين فقط، فربما جاز له أن يرى في الدستور أيضا مؤامرة ضده!
أما الفريق الثاني فهم المتعصبون للإيديولوجيا «الليبرتارية»، التي تناهض الدولة باعتبارها عدوا لا يأتي منه خير أبدا، وتنكر على السلطات التدخل في حياة الناس أيا كانت الاعتبارات. وليست اعتبارات الصحة أو المصلحة العامة في عقيدة هؤلاء سوى ذرائع تتذرع بها الدولة في نزوعها الدائم إلى التسلط والقمع والحيلولة بين البشر الأحرار وبين حرياتهم الثابتة، بمقتضى القانون الطبيعي السابق على الاجتماع والسياسة.
إلا أنه لا ينبغي للفولكلور الأمريكي المعهود أن يحجب عنا حقيقة هامة بشأن الحجر. صحيح أن شطحات ترامب قد زادت هذا الفولكلور توابل وبهارات من المضحكات المبكيات، عندما صار رأس الدولة هو المحرض الأول على شق عصا الطاعة والخروج على الدولة (!) ناهيك عن وصفاته الطبية المجانية بشأن حقن المرضى بسوائل التطهير المنزلي! ولكن الصحيح أيضا هو أن إجراءات الحجر ليست محل إجماع بين العلماء والباحثين في الأمراض المعدية.
والدليل هو أن السويد قد خالفت بقية دول العالم فلم تفرض الحجر على سكانها. وبما أنها دولة متقدمة وحكامها عقلاء، فلا بد من السؤال عن سبب تغريدها خارج السرب العالمي. وهذا هو السؤال الذي طرح تلفزيونيا على خبير الأمراض المعدية لدى الوكالة السويدية للصحة العامة، آندرز تغنل. قال له الصحافي: «ما هي المعلومات التي تنفردون بها في السويد، دونا عن العالمين، بحيث تسوغ لكم عدم فرض الحجر على السكان؟»، فأجاب تغنل: «ينبغي عليك أن تقلب السؤال فتسأل: بل ما هي المعلومات التي استندت إليها بقية دول العالم لتسويغ فرض هذا الحجر؟»، ثم قال إنه لا توجد أي دراسة علمية يعتد بها في هذا الشأن، باستثناء تقرير بريطاني غير محكم.
أما مستشار الحكومة السويدية للشؤون العلمية البروفيسور، يوهان غيسك، فالرأي عنده أن معظم الدول أفرطت في رد الفعل إفراطا حملها على اتخاذ إجراءات عديمة الجدوى، وكان الأحرى بها أن تفعل مثل السويد: أي أن تتخذ إجراءات إرشادية، لا إلزامية، فتنصح السكان بالحذر وبالتزام مسافات التباعد الوقائي؛ وتركز جهودها الطبية في المقام الأول على حماية المسنين. ولهذا فالحياة في السويد تسير عموما بالنسق المعتاد: المطاعم والمقاهي مفتوحة، والناس يمارسون الرياضات الجماعية في الحدائق العامة، ومواظبة التلاميذ في المدارس إجبارية، وحرية الحركة والسفر داخل البلاد وخارجها مكفولة. كما أن لدى ثلاثة أرباع السويديين ثقة في السلطات وفي نجاعة نهجها المتمثل في تشجيع الوقاية، ولكن ليس بفرض حالة الطوارئ، وإنما بطلب من الناس أن يحكموا العقل وأن يتحملوا مسؤولياتهم الفردية.
وقد تجاوزت الإصابات في السويد 21 ألفا وتجاوز عدد الضحايا 2500، إلا أن آندرز تغنل يقول إن نصف هذه الوفيات وقعت في دور المسنين، ويرى أن هذه هي نقطة الضعف في النهج السويدي. وبالطبع وجهت انتقادات أوربية للسويد وتحذيرات من اندلاع كارثة بعد فوات الأوان. إلا أن أهمية ما فعلته السويد لا تكمن في مخالفة الإجماع العالمي، بل في شجاعة التصدي العملي لمسألة مركزية في الديمقراطيات الليبرالية، هي كيفية الموازنة بين مبادىء الحرية الفردية وضرورات المصلحة العامة، وهذا امتحان صعب. لذلك فإن حالات الطوارئ عادة ما تؤدي إلى التضحية بالحريات حتى في عقر بيت أعرق الديمقراطيات، وكثيرا ما تنطوي على خطر تمديد، بل تأبيد، ما كان يظن في الأصل مجرد وضع استثنائي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى