حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

آسفي.. مدينةُ بهاءٍ لا يليق به الإهمال

نعيمة لحروري

 

 

لم تكن زيارتي الأولى لآسفي مجرد محطة عابرة في طريق الإعداد لبرنامج من داخل السجون، بل كانت عبورا نحو مدينة تخفي تحت عباءتها ما لا يُرى، وتلقي في قلب الزائر ذلك السؤال الذي لا يريد أن يغادر:

لماذا ظلت هذه المدينة، بكل هذا العبق، بعيدة عن الضوء؟

دخلت آسفي كما يدخل المرء باب بيت عتيق لم يطرقه منذ زمن. مدينة تتزاوج فيها رائحة البحر بطعم الطين، ويطل تاريخها من وراء الأزقة، كشيخ وقور يجلس على صخرة ويتأمل المارة دون أن يطلب شيئا.

مدينة تكتفي بأن تكون.. ولا تجهد نفسها في الادعاء.

من أعلى الرباطات القديمة، ينساب البحر كآية طويلة من الجمال، ترتطم بالأفق وتعود.

وفي الأحياء التي تحتضن دور الفخار، تشعر أن الطين هنا ليس مادة تُشكَّل، بل ذاكرة تتنفس، وتعيد ترتيب أصابع الحرفيين كما تشاء.

أما الوجوه، فقد خُطّت بها حكمة المدن المظلومة، تلك المدن التي تقدم الكثير ولا تحصل إلا على القليل.

آسفي مدينة لا تتصنع جمالها.

جمالها يشبه امرأة ترفض الزينة لأنها تعرف أنها أجمل بلاها.

تاريخها ينساب في حجارتها، في ملامح بناياتها الهادئة، في الموانئ التي ترى الشمس قبل الجميع، وفي الغسق الذي يهبط عليها كستارة مسرح تعلن نهاية يوم يشبه الأيام، لكنه لا يشبه أي يوم آخر.

ورغم ذلك، لا تحتل هذه المدينة مكانها الذي تستحقه.

كأنها تقف عند بوابة التنمية تلوح بيدها، فيما العابرون يلتفتون لمدن أخرى أكثر صخبا وأقل قيمة.

آسفي تشبه تلك الشخصيات العظيمة التي مرت في التاريخ دون أن يكتب عنها أحد، مع أنها كانت تستحق سطرا أولا لا سطرا هامشيا.

في زيارتي القصيرة، شعرت أن المدينة تحدثني بصوت خافت:

“أنا هنا.. بكل تاريخي، بكل ندباتي، بكل ما صنعته للبحر والإنسان.. فلماذا لا يراني أحد كما أستحق؟”

ولم يكن حديثها مجرد خيال عابر، بل إحساس يتكاثف كلما تقدمت داخل شوارعها.

ثمة شيء في آسفي يوقظ فيك علاقة غامضة مع الزمن، كأنك تدخل مدينة عاشت أعمارا كثيرة، لكل عصر فيها بقايا سرد لم يكمل عبارته الأخيرة.

وفي كل انعطاف، يلوح لك أثر لفينيقي مر من هنا، أو لمحتل برتغالي ترك بصمته على الحصون، أو لمغربي أصيل حمل الفخار في قلبه قبل أن يحمله بين يديه.

هذه المدينة علمت نفسها أن تقاوم بالصمت.

لا تجيد الضجيج، ولا تنافس المدن التي تتزين بالمهرجانات والواجهات البراقة.

آسفي تعرف أن قيمتها في جوهرها، في بحرها الخشن الذي لا يبتسم بسهولة، في رائحة سمكها الطازج، وفي أفران الطين التي تشوي الذاكرة ببطء وتمنحها صلابة لا تنكسر.

ورغم كل ما يشبه الوجع فيها، تحمل آسفي جمالا يليق بالمدن التي كتب عليها أن تكون أكبر من قدرها، وأعمق من حظها.

جمال يقيم في الفراغات.. في الصمت.. في الحكايات التي تنتظر من يتجرأ على الجلوس إلى جوارها والاستماع.

آسفي ليست مدينة تزار وتنتهي الرحلة عند بواباتها.

إنها مدينة تلتصق بالروح، كقصيدة تقرأ مرة، ثم تعود لتفرض نفسها في الذاكرة.

ولعلني حين عدت منها، شعرت أنني غادرت شيئا يشبهني.. شيئا بسيطا، عميقا، جميلا رغم الجراح.

سيظل قلبي يعرف الطريق إليها،

وستظل آسفي، حتى يأذن القدر، مدينة تنتظر أن يكتب عنها الضوء ما كتبه البحر منذ قرون.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى