
يسرا طارق
نعرف الصين في المجال العمراني بالطرق السيارة المعلقة في شواهق الجبال، بملتقيات الطرق التي تبدو كالمتاهة، بالقطارات التي تدخل وسط عمارة وتخرج من الجهة الأخرى، بالحياة العامة التي تمكن الصينيون من جعلها وسط العمارات طبقة فوق طبقة، وفي كل طبقة شارع ومحلات للتسوق ومقاه وحدائق، بمواجهة الصحراء بالتشجير الكثيف وإنشاء غابات في أمكنة قاسية كان يندر فيها تصور حياة ممكنة. نعرفها بتلك العمارات الشاهقة التي يحشر فيها ما يعادل مدينة متوسطة من مدننا، عمارات تجد فيها الإدارة والمدرسة والمستشفى والملعب، وكل ما تحتاجه في الحياة اليومية، ويمكنك أن تقضي حياتك كلها فيها دون أن تفكر في الخروج منها.
واجهت الصين، بعد الطفرة السكانية العملاقة، مشاكل إيواء الناس، وتأمين المواصلات لهم، وتجهيز مناطقهم بما يلزم من ماء وكهرباء وتصريف سائل، ورغم ضخامة المشاكل وتراكمها، تمكن الصينيون من ربح كل رهانات التعمير، وفق مبدأ: «متى أردنا نقدر على تحقيق المعجزات»، والمواطن الجيد هو المواطن الجندي، الذي يكافح ويضحي من أجل البلد، بالدم والإخلاص والجهد والامتثال لواجب المصلحة العامة. منذ سنوات تميز الصينيون بتصور جديد للتوسع العمراني، قلبوا به كل ما نعرفه في هذا المجال، فالعالم، برمته، يخطط المدارات الحضرية على أساس الكثافة السكنية المرتقبة أولا، ثم حين تستقر الساكنة وتتبين حاجياتها في ما يخص البنية التحتية، يُشرع في تلبيتها بحسب الإمكانيات وإلحاحية الحاجيات. منذ 2008، قلبت الصين المعادلة، وصارت تجهز أراضي فارغة بكل ما يلزم: محطات ميترو، طرق، ربط بالكهرباء والماء وشبكات الاتصالات، ويأتي السكان بعد ذلك، وتأتي المدينة معهم بكل ما تفترضه من أنشطة. أنفقت الصين حوالي 40 مليار دولار في إعداد بنية تحتية لائقة ومستقبلية، وكان الملاحظ الغربي يقف مندهشا، بل مصدوما، وهو يرى محطة ميترو بعمق 60 مترا، تفتح أبوابها في وجه الخلاء، لكن ما رآه الزائر في 2008 خلاء قفرا، سيفاجأ وهو يراه، بعد عقدين من الزمن، مدينة مزدهرة، لا أشغال كبرى فيها، مدينة هيأت لضيوفها كل ما يلزمهم من طرق وخدمات ومرافق، ولعل المثال الكبير لهذا النموذج الخلاق في التعمير هو محطة «كاأوجياوان»، التي كانت، في 2015، محاطة بالعشب، وسط خلاء كبير، وهي الآن محاطة بمركز سكني مزدهر. إن الصين، بهذا النزوع المستقبلي في التعمير، لا تقلب المعادلة القديمة فقط، وإنما تفتح باب الأمل للتخطيط الحضري الذي يبني المستقبل بأقل كلفة ممكنة.
أفكر في هذا النموذج، وأفكر في مدننا وأوراشها التي لا تنتهي، وأفكر في مكاتب الدراسات التي تأكل أموالا طائلة، ولا تسعف دراساتها في تجنب أبسط مشاكل التعمير. يكفي أن يقوم الواحد بجولة في كل المدن المغربية، ليرى فساد التخطيط الحضري، وسوء التوقع بل انعدامه في معظم الأحيان، مدن تتراكم فيها المشاكل عقودا، وحين نريد إيجاد حلول لها، نبدأ في إعادة تهيئة البنية التحتية من ما يشبه الصفر، أو نفكر في هدم أحياء أو مدن رأيناها تكبر أمام أعيننا دون تحريك ساكن. كلنا نرى ذلك المشهد المحزن لطريق يعاد تزفيتها، وبعد أيام نرى شركات الماء والكهرباء وتصريف السائل والاتصالات تحفرها بلا رحمة لتثبيت أنابيبها وأسلاكها، الكل يبني والكل يهدم ولا أحد يجلس للتدقيق في كلفة انعدام التخطيط السليم.





