شوف تشوف

الرأي

المحامون خارج وزارة العدل

أربعة وزراء تعاقبوا على قطاع العدل في الربع الأخير من القرن الماضي، لم يكن بينهم أي واحد ينتمي إلى المحاماة. فقد سادت تقاليد واعتبارات ترجح كفة المهنيين في تحمل المسؤوليات في القطاعات التي يشتغلون بها. الطبيب يصبح وزيرا للصحة، والمهندس الزراعي وزيرا للفلاحة، ومهندس الطرقات يجد الطريق أمامه معبدة إلى وزارة الأشغال العمومية التي باتت تسمى التجهيز.
القضية لا تجري بمحض الصدفة. وفي خلفيات تلك التعيينات أن الملك الراحل الحسن الثاني خلص إلى قناعة تفضي إلى عدم تسليم مفاتيح الوزارة إلى منتسبين إلى المهنة نفسها. هل كانت لهذا الاختيار علاقة بمفهوم التدبير الذي سيحيل بعض القطاعات مثل الصحة إلى غير الأطباء والتعليم لغير المدرسين، والصيد لغير البحارة وأصحاب الصيد في أعالي البحار، أم أنه اقتصر على ميدان القضاء فقط؟
في واقعة دالة أن الحسن الثاني أمسك قلما وشطب على اسم أحد المحامين كان اقترح لشغل منصب وزير العدل. وعقب على ذلك بالقول: «من الأفضل تعزيز سلطة المحامين خارج الوزارة الوصية»، ومن يومها ترددت زعامات حزبية ودوائر الاقتراح في إدراج أسماء نقباء ومحامين بارزين إلى حين حدوث الفرص المواتية. ثم انقضى سريان مفعول التردد بعد أن غيب الموت الحسن الثاني، لتنتهي أسطورة وزارات السيادة التي كان العدل إلى جانب الداخلية والخارجية والأوقاف من بين أسوارها العالية.
لم تسل قضية من المداد، أو تثر عواصف جدال أكثر مما تلازم مع مفهوم وزارات السيادة. بل إن الحسن الثاني نفسه، قبل الانعطاف نحو التناوب، رأى أن تعيين الوزير الأول من حزب ما سيجعله أكثر ميلا لنصرة حزبه، وقال إنه قد ينقل ما يدور في الاجتماعات الحكومية إلى الكواليس الحزبية، يوم كانت لهذه الأخيرة كواليس وأسرار. إلا أن المشكل في القضاء كان يروم الإبقاء على جسم المحاماة بعيدا عن التدبير الإداري، أو هكذا فهم الموقف في حينه.
لكن وقائع سابقة تؤكد أن نقباء محامين سبق لهم أن تولوا وزارة العدل، ضمنهم المعطي بوعبيد وامحمد بوستة وعبد الكريم بن جلون. فقد هيمن المحامون تحديدا على المشهد السياسي، باعتبارهم حملة فكر حقوقي ونضال سياسي. بل إنهم يعتبرون في طلائع الزعامات الحزبية التاريخية. ولعل أوضح صورة تبلور الأدوار التي اضطلعوا بها أنهم كانوا على اختلاف انتماءاتهم، في مقدمة الصفوف الأولى في الدفاع عن معتقلي المحاكمات السياسية الشهيرة. ومن غرائب الصدف أن عبد الرحيم بوعبيد وامحمد بوستة وأحمد رضا كديرة، والمعطي بوعبيد كانوا يلتقون في مرافعاتهم المشهودة التي لم تكن تخلو من إحالات ونبرات سياسية بنكهة قانونية مخضرمة.
من مشارب متباينة جاء وزراء العدل الذين خلفوا المعطي بوعبيد الذي كان يجمع بين الوزارة الأولى والعدل. فقد تسلم مولاي مصطفى بلعربي العلوي زمام القطاع، قادما من ولاية الدار البيضاء وسفارة المغرب في روما. وقال لي مرة حول كأس شاي في مكتبه، إن الحسن الثاني أخبره لدى تعيينه أنه سيكون أكثر اطمئنانا لسير القضاء، حين يكف هاتف الوزير عن الرنين. وعلى امتداد أكثر من ساعة لم يطلبه أحد على الهاتف. وقضى أكثر من عشر سنوات على رأس الوزارة، ثم غادرها كما دخلها يحظى بالتقدير والاحترام، تعززه سمعة العائلة ونظافة اليد.
بيد أن الأكاديمي محمد علمي المشيشي عرف بأبحاثه ودراساته واجتهاداته القانونية والإعلامية، أكثر مما طبع مروره وزارة العدل. فهو يعتبر من أبرز الكفاءات التي أغنت المرجعية الإعلامية في المغرب وخارجه. إذ يتمتع بنظرة الباحث وعمق المعرفة، وكان أول من نبه إلى مخاطر احتكار الإعلام السمعي – البصري من طرف الدولة، داعيا إلى الانفتاح وتكريس التعددية وإلغاء احتكار فات أوانه.
أكاديمي آخر ستجلبه التطورات السياسية إلى قطاع العدل، وكان أجدى، وهو الضالع بالتجارب الجهوية المؤسساتية، أن يجد مكانه المناسب في تخصصاته المعرفية، لكن الدكتور عبد الرحمن أمالو جذفته حملة التطهير الشهيرة، وغادر الوزارة وفي رصيده كم من المؤاخذات التي نزلت على رأسه، من دون أن يدري كيف حدث كل ذلك، وهو الذي ما انفك يحتمي بمنطق «التطهير الاقتصادي» الذي توقع أن يدر على الخزينة أموالا باهظة.
على منوال الكفاءة الأكاديمية والتمرس الحقوقي، أسندت وزارة العدل إلى عمر عزيمان الذي خبر دهاليزها قبل التناوب وخلال خطواته الأولى، قبل أن ينفرط مفهوم إبعاد المحامين عن وزارة العدل، بعد تولي كل من الراحلين النقيبين محمد بوزوبع ومحمد الناصري. غير أن أحدا لم يبحث في أسباب نزول فكرة عدم اضطلاع المحامين بوزارة العدل التي كانت ترسخت لدى الحسن الثاني الذي لم يكن يشرك إلا القلائل في أسرار التدبير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى