شوف تشوف

الرأيالرئيسية

المريض ثقافيا

 

بقلم: خالص جلبي

 

منذ القديم شكل المرض أزمة للإنسان، وكان ساحر القرية يحاول طرد الأرواح الشريرة، أو استخراج الجن من أصبع القدم، أو جلد الذات عندما يتعكر مزاج المريخ. واستمر الإنسان يعاني من المرض، حتى تأسس علم الطب بثلاث أقدام من (المنهجية) و(عدم السرية) و(التطبيق على الجميع)، فيمكن تخدير أفعى الجلاجل والعصفور الدوري والإنسان، وانتهاء بالفيل العظيم.

المرض ليس عضويا، بل هو ثقافي له مراتبه من المرض النفسي والاجتماعي، ومما أتذكر أنني كنت يوما في زيارة إلى عائلة سورية في السعودية، فهتفت بي ربة المنزل: عندي خبر سار لك؟ قلت: ما هو؟ قالت: بإمكانك الإدلاء بصوتك في الانتخابات الرئاسية، بدون الذهاب إلى السفارة بإرسال فاكس. وكانت الانتخابات المزورة قائمة على ساق وقدم. قلت: حسنا وهل فعلتم أنتم ذلك؟ أجابت مع ابتسامة عريضة: نعم .. جلست أنا وزوجي وكتبنا هذه الورقة. ثم دفعت إلي بورقة كبيرة يعلوها خط جميل معتنى به، كان فيها: في مثل هذا اليوم الأغر وقد أشرقت الشمس واخضر الشجر وغردت الطيور وفاحت العطور. وفي نهاية هذه الديباجة المقرفة من قرون التخلف، جاء: ونحن نبايعك بالروح والدم. ونحبك يا سيادة الرئيس (لا يوجد سوى مرشح واحد) أكثر من العين للنظر والأرض للمطر والطير للشجر والرحالة للسفر والعباد للسحر والعشاق للسهر!

التفت إلى العائلة وسألتها: بالطبع وأنتم ترسلون هذه الورقة تعلمون أنكم تكذبون؟ أجابت بعفوية وبشيء من الاستحياء: نعم. تابعت بسؤال آخر: ولكنكم في قلوبكم تلعنون؟ ابتلعت المرأة ريقها، وقالت بتردد: نعم. قلت لها: أليس بالإمكان أن لا تكذبوا ولا تلعنوا؟ صاح بها زوجها: ويلك إنها غلطتك يا حواء، فلقد أغريتني أن آكل من الشجرة المحرمة. ولكن كلاً منهما لم يفعل ما فعل آدم وحواء، فيقولا بخشوع: ربنا إننا ظلمنا أنفسنا.

ولي صديق ما جاءني مرة إلا تحدث عن الأوضاع السيئة، فلما قرأت عليه تحليلا ينتقد الأوضاع، أصيب بالرعب وأحس أنه يشارك في الإثم، فقد يسأل عما سمع ولم يبلغ عنه. واجتمعت برجل لمع نجمه بين مفسري القرآن الجدد (الشحرور الشامي)، كان الشباب يصغون إليه بخشوع وهم يسجلون، فكان يوقفهم المرة بعد الأخرى وهو يقول: الآن سأتكلم كلاما خطيرا فلا تسجلوا. وإذا بالكلام سجع الشعراء وزمع الكهان.

هذه القصص تروي مشكلة الإنسان المريض الذي يصوت بنسبة 99 في المائة، كما يجري في باكستان وعبدان وتونس وسوريا والجزائر وكازاخستان وموسكو والسودان، سواء لتغيير الدستور أو التصويت الرئاسي أو من يحكم. ويقف الإنسان حائرا يفكر في طبيعة المرض الثقافي الذي ينتج مثل هذا الإنسان المشوه، كما يحدث في الأخطاء الجنينية. ففي الوقت الذي يتقدم العالم إلى وضع الملكية الدستورية وتحديدها ومحاسبتها، أو التفكير الجدي بإلغائها، نمشي نحن إلى الخلف لتوليد ملكيات فات وقتها، في أوطان تمشي على رأسها، بدون أن يشعر المواطن بالدوار. كان الناس قديما يحارون في الطاعون عندما يضرب، فلا يعرف الناس كيف جاء ولا كيف ذهب، وكان أحدهم يبكي ويقبِّل المريض فيأخذ العدوى، ويلحقه إلى القبر، بعد أيام. وفي عام 1918 م انفجرت الأنفلونزا في أمريكا فقضت على 550 ألف نسمة، ومات في الكرة الأرضية من العدوى 30 مليون إنسان. ولم تكن الفيروسات معروفة يومها، بسبب عدم وجود المجهر الإلكتروني. كذلك الحال في الأوبئة الاجتماعية التي تفتك بمعظم العالم العربي وتتحول إلى أمراض متوطنة؛ فهذا المرض يتواتر في حلقة جدلية معيبة بين وسط مهيئ وجراثيم فتاكة تهدم الجسم بتسارع لتدخله في اختلاطات جديدة، فالنزف الشديد يقود إلى صدمة الكلية فيكون المريض في ورطة فيصبح في اثنتين. وعندما يمرض الإنسان يصبح مؤهبا لأمراض جديدة، وفي قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا، وهو مرض لا علاقة له بالسياسة وإن كان يفسد السياسة. فأن يتأخر الإنسان عن موعده، أو لا يتقن عمله، أو يرمي بالقاذورات على الأرض مع وجود الحاوية على بعد أمتار، أو يملأ صناديق الفاكهة حشفا وسوء كيلة من الأسفل وعلى السطح الجيد، يعني أن هناك مرضا مستفحلا يضرب في أرض عطنة تفوح برائحة كريهة. وقبل خمسين سنة لم تكن ظاهرة الرشوة تطفو على السطح، واليوم وفي مساحة لا يستهان بها من العالم العربي لا يمكن إنجاز أي شيء بدون رشوة وبشكل مفضوح (يسمونها بالمغرب «التدويرة»)، فقد ضاع الحياء ومات المواطن وفقد حس الدفاع عن وطن يستباح من مفرق رأسه حتى أخمص قدميه. ولا يعني هذا أن كندا أو ألمانيا لا توجد فيهما رشوة، بل هي أمراض وبائية تكافح بسرعة بلقاحات من الوعي ومن خلال صحافة حرة ومراقبة صارمة، مثل مكافحة الحمى الشوكية. وفي يوم دخل البوليس بيت عمدة مونتريال في كندا، فقالوا له: إما الاستقالة أو الفضيحة. فاستقال، أما عندنا فهي أمراض فظيعة تعس في مفاصل جسد انهار فيه الجهاز المناعي. وهذه رؤية تشاؤمية، ولكن كما يقول الفيلسوف نيتشه: إن التشاؤم نذير الانحطاط، كما إن التفاؤل علامة السطحية في التفكير وقصر النظر، أما التفاؤل الحزين أو التفاؤل في المأساة فهو صفة الرجل القوي، الذي ينشد شدة التجربة واتساع مداها. وهو الذي دفعه إلى إنتاج كتابه «مولد المأساة من رحم الموسيقى». هذا الإنسان المريض هو الذي شكل الاستعداد الخفي لوقوع مأساة حرب يونيو، والمرض لم يرتفع بعد، بل زاد استفحالا، وتحول الربيع العربي أوحالا؛ نرى بعضها في السودان، حيث يتناطح ثوران، عفوا جنرالان: الجنرال برهان بدون برهان، وحميد بدون حمد، بمال وأسلحة ورجال ومرتزقة من حفتر وفاغنر من القوزاق الروس، مع رائحة غازوال (مازوت خليجي) قوية، قاتلهم الله أنى يؤفكون؟

 

نافذة:

هذا المرض يتواتر في حلقة جدلية معيبة بين وسط مهيئ وجراثيم فتاكة تهدم الجسم بتسارع لتدخله في اختلاطات جديدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى