شوف تشوف

الرأيالرئيسية

التفكير الغرائزي

 

نصر محمد عارف

 

من الحكم التاريخية التي تنسب لمصادر متنوعة يونانية ومسيحية وإسلامية؛ حكمة تقول «إن الله خلق الملاك من عقل بلا شهوة، وخلق الحيوان من شهوة بلا عقل، وخلق الإنسان من الاثنين معا». فمن انتصر عقله على شهوته أصبح أعظم من الملاك، ومن انتصرت شهوته على عقله صار أحط من الحيوان، ومن وازن بين الاثنين كان إنسانا فاضلا.

والإنسان في سعي دائم إلى الترقي في سلم القيم ليكون إنسانا فاضلا يطمح إلى الاقتراب من الملاك، والبعد عن الحيوان، وفي سبيل ذلك يخضع غرائزه لسلطان عقله، لأن الغرائز أو الشهوات لا يمكن إلغاؤها أو إنكارها، ولكن غاية جهد الإنسان أن يتحكم فيها من خلال معايير العقل الذي هو من تجليات روح الله في الإنسان.

والتحكم في الغرائز هو ما يجعل الإنسان إنسانا، ودون ذلك ينحدر الإنسان إلى مستوى البهائم تقوده غرائزه وشهواته؛ التي تبدأ من شهوات البطن والجنس، وتصل إلى شهوات السيطرة، والحكم، والغضب، والانتقام، والتشفي إلخ.

ومن الثابت في التاريخ أن الظلم يضعف طاقات العقل عند الإنسان ويحجمها؛ لأنه يحاصرها ويشكك فيها ويعتبرها العدو الأول له، لذلك فإن المجتمعات التي تعيش في ظله لفترات طويلة تنحدر من مستوى الإنسان إلى مستويات الحيوان، حيث تغلب عليها الشهوات والغرائز، ويضعف فيها سلطان العقل، وتصير مجتمعات غرائزية وشهوانية.

والمتأمل في حالة العديد من المجتمعات العربية يجد أن المشكلة الكبرى فيها هي التفكير الغرائزي الحيواني الذي أصبح السمة الغالبة على تصرفات الخاصة والعامة، وفي كل مجالات الحياة، وهو أساس كل الأزمات التي تعاني منها الدولة والمجتمع.

ويكفي أن نتابع نشرات الأخبار لنجد أن العقل قد غاب أو تراجع، لتحل محله غرائز العنف والقتل والانتقام، وانعدام الرحمة. وكذلك نجد أن شهوة المال وما يتفرع منها من جشع وطمع واستغلال صارت أساس الأزمات الاقتصادية من رغيف الخبز إلى كل شيء، حيث يتجرد الإنسان من آدميته، ويتاجر في آلام مجتمعه من أجل تضخيم أرقام ثروته.

وأخطر الغرائز والشهوات هي شهوة الغضب والانتقام والتشفي التي لا يمكن إشباعها مثل الغرائز الأخرى، والتي تزداد شراهة واشتعالا كلما أوغل الإنسان في إشباعها، وللأسف صارت هذه الغريزة الحيوانية تتحكم في العديد من المجتمعات العربية بصورة تراجع معها دور العقل، وقدراته على السيطرة أو التحكم، وصارت العلاقات الاجتماعية والسلوكيات السياسية تتحكم فيها هذه الغريزة التي لا علاج لها، فقد انفلت عقال الغرائز، وتوحشت الشهوات، وأصبح لا سبيل للشفاء منها إلا من خلال إفناء الخصم والقضاء عليه قضاء لا يبقي منه أثرا.

الكل يريد التخلص من الكل، والكل يكره الكل ويعادي الكل، حالة كارثية إذا ما تركت لتتفاقم ستؤدي إلى انتهاء مفهوم المجتمع بالمعنى الذي كانت تعرفه الإنسانية، والتحول إلى نموذج من الصراع الاجتماعي العميق، والممتد الذي شهدته دول تنقسم بصورة عميقة وعنيفة بين أديان أو أجناس متنافرة متصارعة.

ولا يمكن والحال هكذا الوصول إلى نقطة للمراجعة، والاعتراف بالخطأ، أو الرجوع إلى كلمة سواء، أو البدء من جديد، لأن ذلك الفكر الغرائزي المغلق تحكمه عقيدة «لا نجوت إن نجا»، أي أن وجودي يتوقف على زوال خصمي تماما، ولن أنجو في هذه الحياة إذا نجا هو، أي أننا في معادلة صفرية، أحد الأطراف يكسب كل شيء، والآخر يخسر كل شيء، ولا ثالث بينهما.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى