
بقلم محمد كفيل
الأمين العام لحزب النهضة والفضيلة
لا يمكن لأي متتبع منصف أن يغفل حقيقة مؤسفة باتت سمة في سلوك أغلب وسائل الإعلام الأجنبية حين يتعلق الأمر بالمغرب. فكلما هبت أزمة، سياسية كانت أو اجتماعية، إلا وشاهدنا سيلًا من التقارير والتحليلات التي تضخم الأحداث وتحولها إلى مشاهد درامية تُصور وكأن البلاد تقف على حافة الانهيار. لكن حين ينجز المغرب إنجازًا استثنائيًا أو يخطو خطوة نوعية في طريق التنمية، يغيب الخبر أو يُختزل في بضعة أسطر هامشية لا تكاد تذكر. فهل هذه هي مهنية نقل الحقيقة؟ أم أن وراء هذه الانتقائية دوافع أخرى غير معلنة؟
إن الحدث التاريخي الأخير، الذي ترأسه جلالة الملك محمد السادس بالنواصر، بحضور ولي العهد الأمير مولاي الحسن، والمتمثل في إعطاء الانطلاقة الرسمية للمركب الصناعي لمحركات الطائرات التابع لمجموعة “سافران”، يشكل لحظة مفصلية في تاريخ الصناعة المغربية، بل وفي تموقعها العالمي. فهذا المشروع العملاق ليس مجرد منشأة صناعية جديدة، بل هو إعلان صريح عن دخول المغرب مرحلة جديدة من التصنيع المتطور والتموقع ضمن الدول الفاعلة في صناعة الطيران، وهي صناعة لا تلجها إلا الأمم التي راكمت خبرة وتملك رؤية استراتيجية واضحة.
ولعل الأرقام وحدها كافية لتكشف عمق التحول الذي يعرفه هذا القطاع. فخلال عقدين فقط، انتقل رقم معاملات صادرات صناعة الطيران من أقل من مليار درهم سنة 2004 إلى أكثر من 26 مليار درهم سنة 2024، أي ما يعادل نمواً يفوق خمسةً وعشرين ضعفاً. واليوم، يضم هذا القطاع أكثر من 150 فاعلاً صناعياً، من كبريات الشركات العالمية، التي وجدت في المغرب بيئة استثمارية مستقرة، وكفاءات بشرية مؤهلة، وبنية تحتية تواكب الطموح الصناعي الوطني.
غير أن هذا النوع من الأخبار، الذي يُفترض أن يملأ الشاشات الغربية ويُعرض كنموذج لقصة نجاح عربية إفريقية، غالباً ما يُقابل بصمت مريب. الإعلام الغربي الذي يملأ الدنيا ضجيجاً عند كل أزمة في المنطقة، نراه يشيح بوجهه حين تُبنى المصانع، أو حين يُشيد المغرب، بقيادة ملكه، مشاريع تكنولوجية تُضاهي ما يوجد في أوروبا. إنه ميزان مختل يكيل بمكيالين: مكيال ضخم يُستخدم لتضخيم العثرات، ومكيال ضئيل يُستعمل لتقزيم النجاحات.
اللافت في مشروع “سافران” ليس فقط قيمته المالية التي تتجاوز 3,4 مليارات درهم، ولا كونه ثاني موقع عالمي لتصنيع محركات الطائرات من طراز LEAP-1A، بل في رمزيته العميقة كدليل على الثقة الدولية في المغرب وعلى نجاعة الرؤية الصناعية التي أرساها جلالة الملك. فعندما تختار شركة فرنسية من حجم “سافران” أن تجعل من المغرب مركزاً رئيسياً لتصنيع وصيانة محركات الطائرات التجارية، فهي لا تراهن على الصدفة، بل على معطيات ملموسة: استقرار سياسي، رؤية اقتصادية، طاقات بشرية مؤهلة، وبنية تحتية من الطراز الرفيع.
هذا الإنجاز التاريخي لا ينفصل عن إرادة ملكية متواصلة في جعل الصناعة رافعة للسيادة الوطنية، وجعل المغرب قطباً صناعياً في ميادين التكنولوجيا المتقدمة.
وإذا كان الإعلام الغربي يتفنن في تضخيم صور الأزمات حين تقع في بلدان الجنوب، فهل يعجز عن بث صور الأمل والنجاح حين تصنع هذه البلدان معجزاتها التنموية؟ أليس من الموضوعية أن يُقدم الخبران معاً، الأزمة والإنجاز، لتكتمل الصورة؟
إن تجاهل هذه الإنجازات لا ينتقص من قيمتها، لكنه يفضح اختلال المنظور الإعلامي الغربي، الذي ما زال ينظر إلى دول الجنوب بعيون الوصاية والتفوق الحضاري. أما المغرب، فقد اختار طريقه بثقة، لا ينتظر تصفيق الخارج ولا يخشى حملاته، لأنه ببساطة يبني نموذجاً خاصاً، صلباً، واقعياً، وذا أفق عالمي.
إن المركب الصناعي الجديد لمحركات الطائرات ليس مجرد معمل، بل إعلان واضح أن المغرب لم يعد مجرد سوق أو تابع، بل شريك في صناعة الغد. وشتان بين من يكتفي بنقل الأزمات، ومن يصنع المستقبل .





