المقاوِمة البتول الصبيحية فجّرت وثائق الظهير البربري ونقلت السلاح في الشمال

يونس جنوحي
مع اقتراب الانفراج، الذي تكلل بعودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، كانت الأجواء في تطوان بدورها تقترب من الانفراج.
فقد كان الإخوان اللاجئون يعيشون على أعصابهم، وأغلبنا تمكن منهم الشوق إلى عائلاتهم وذويهم. ولم يكن يُخفف عنهم هذا الضغط النفسي سوى العلاقات الإنسانية الطيبة التي كوّناها مع عدد من الشخصيات التطوانية.
تطوانيون منسيون
من بين التطوانيين، الذين تعارفتُ معهم، أذكر شخصية عجيبة ومُركبة، وتستحق فعلا أن يُسلط عليها الضوء. إنه سي «أحمد الله أكبر». هذا الرجل ينحدر من أصول فاسية، وكانت لديه وكالة ويجتمع عنده أشخاص من كل المشارب والانتماءات. وهكذا فإن مقر عمله كان عبارة عن خزان حقيقي للمعلومات، وكان مصدرا لي في الاستعلامات وساعد مرات كثيرة بتقديم معلومات سواء عن الموظفين الإسبان الذين كانوا يسكنون المدينة أو عن الشخصيات المغربية التي كان يهمنا التعرف عليها.
هناك شخصيات أخرى أحاطت بها هالة العِلم، لم يكونوا يغلقون أبواب منازلهم أمامنا، بل إن أغلبهم كانوا يعانون من ضيق ذات اليد، وبالكاد يستطيعون الإنفاق على أبنائهم، لكنهم، رغم ذلك كله، لم يكونوا يتأخرون في دعم المقاومة والمقاومين بما تيسر لديهم، ويغلب في هذه الحالة دعمهم المعنوي الذي كان يعني لنا الكثير فعلا..
أحد هؤلاء الأفاضل هو الفقيه داود. هذا الرجل كان عالما، وكانت لديه مكتبة مثيرة فعلا للإعجاب، والحديث معه تسلية كبيرة. وهو الذي كتب تاريخ مدينة تطوان في مرحلة من المراحل.
هناك أيضا الحاج محمد بنونة، وهو من الشخصيات البارزة، هو عم الطيب بنونة، وأخ عبد السلام بنونة، الشخصية الوطنية المعروفة. والحقيقة أن عائلة بنونة كانت ركيزة أساسية داخل بنية الأسر التطوانية.. وعائلة بركة التي كانت دارها مفتوحة دائما أمام الإخوان المقاومين، وحضرنا فيها لقاءات تاريخية وأخرى مصيرية، واجتمعنا فيها مع المقاومين ومع الشخصيات الوطنية والسياسية البارزة.
لقد كانت «دار بركات»، لا تقل أهمية عن دار سي عبد الخالق الطريس، القِبلة الشهيرة لكل من جاء إلى تطوان هربا من السلطات الفرنسية. واسم سي محمد بركات أشهر من نار على علم.
ومن بين الشخصيات التي ربطتُ معها صداقة شخصية أعتز بها، أذكر الحاج أحمد الركيني. هذا الرجل الفاضل كانت له يد بيضاء. وكان تاجرا كبيرا للأثاث، وكنت أزوره في المستودع حيث كان يشرف على العُمال والبيع وتخزين الأثاث. كان التواصل معه نوعا من «السّلوى» تُخفف علينا كُربتنا. وكان لديه شريك في تجارته، اسمه السلاوي. وبعد الاستقلال أصبح سي الوزيري ناظرا في وزارة الأحباس.
هناك أيضا مولاي عبد السلام مزوار، وهو من الشخصيات المعروفة في تطوان، كان اسمه في لائحة حكومة تطوان المؤقتة.
أما التاجر «حوتو»، فيستحق أن يُسلط عليه الضوء. فقد كان من وجوه تطوان الرئيسية، بل معلمة من معالمها. شخصيته الكوميدية جعلت منه صديقا لكل التطوانيين، وهو ما جعله «بروفايلا» مناسبا ليكون مصدرا للمعلومات، وقد كنت أستقي منه الأخبار وأعرف منه ما يدور في الكواليس والمجالس الخاصة، ولم يكن يبخل عليّ بمعلومة.
المُلاحظ أن أبرز شخصيات تطوان كانوا إما تطوانيين أبا عن جد، أو من «الموريسكيين» القادمين من الأندلس، أو بعض أعيان فاس الذين هاجروا من فاس إلى تطوان، وشكلوا جميعا مزيجا بشريا وإنسانيا فريدا، انصهرنا داخله.
هناك العديد من الأسماء والشخصيات التي نُسيت في زحمة مشاغل الحياة وتراكم الأحداث، فنحن نتحدث هنا عن فترة مرت عليها سبعون سنة، لكن أثرها لا يزال عالقا في نفوس من عاشوا في قلب هذه الأجواء، أطال الله في أعمار من تبقى منهم..
البتول الصبيحية
هذه السيدة الفاضلة، ابنة عائلة الصبيحي الشهيرة في سلا، جاءت إلى تطوان، وهي السيدة اللاجئة الوحيدة التي كانت مع جملة اللاجئين إلى المنطقة الخليفية.
قبل صدور الظهير البربري الشهير سنة 1933، حصلت البتول الصبيحية على وثائق تتعلق بمضمون هذا الظهير وبنوده، وسرّبته إلى الوطنيين. وكان هذا أبرز عمل وطني «اقترفته» هذه السيدة الشجاعة. فبحكم عمل أحد أفراد عائلتها في الإقامة العامة، وهو عبد اللطيف الصبيحي، توصلت إلى تلك الوثائق وسرّبتها. كان عملها هذا مُحركا للمظاهرات الشهيرة التي خرجت للتنديد بالظهير البربري. والمؤسف أن اسمها سقط من هذه المحطة التاريخية الهامة، لم يُشد أحد بالبطولة الكبيرة التي أبانت عنها، رغم أن ما قامت به كان ليكلفها حياتها، بكل تأكيد، في تلك الظروف السياسية العصيبة التي مر بها المغرب.
لم تحم الشكوك حولها، وهذا ما جعلها تُقدم على خطوات أخرى، في السر. وفي هذا السياق، دائما، فهمنا أنها كانت تدعم المقاومة في مدينة سلا.
المرة الأولى التي تعرفت فيها على اسم البتول الصبيحية كانت عندما أرسلت لنا ثلاثة من الشباب، الأول اسمه امبارك، والثاني عبد القادر والثالث أعتقد أن اسمه كان أحمد. وقد نجح ثلاثتهم في الفرار إلى الشمال بعد أن تورطوا وأصبحوا مبحوثا عنهم من طرف البوليس الفرنسي، وأصبحوا لاجئين معنا، وانضموا إلى لائحة المقاومين في تطوان.
لكن العجيب أن البتول الصبيحية نفسها جاءت إلى تطوان ولحقت بهم، إذ بدا واضحا أنها تورطت وأصبح اسمها مكشوفا للفرنسيين. فقد كانت تساعد الفدائيين في سلا، وهذه التهمة لم يكن الفرنسيون ليتساهلوا معها، خصوصا في سياق سنتي 1954-1955.
عندما وصلت البتول الصبيحية إلى تطوان، وضعتُ استوديو التصوير رهن إشارتها، وقضت فيه فترة إلى أن ربط لها الإخوان الاتصال مع عائلة بنونة، وانخرطت بقوة في العمل النسائي، وسرعان ما حازت شهرة كبيرة بين نساء مدينة تطوان وساهمت في نشر الوعي الوطني بينهن.
كانت تمضي النهار في التردد على منازل العائلات التطوانية، وبحكم أنها امرأة، كانت تدخل البيوت وتنسج علاقات وطيدة مع الأسر، وعندما يحل المساء، أسلمها مفاتيح استوديو التصوير، وتذهب إليه، إلى أن تدبر الإخوان أمر استقرارها المؤقت في المدينة.
لم يتوقف نشاطها عند هذا الحد، بل أصبحت تتنقل إلى مدينة القْصر الكبير، وعدد من المواقع الأخرى في منطقة الشمال، ونقلت الأسلحة سرا، ووضعت حياتها على المحك في أكثر من مناسبة لكي تنقل الأسلحة إلى تطوان ويتولى الإخوان تخزينها سرّا.
عندما انتهت محنة المنفى في المنطقة الشمالية، عادت معنا البتول الصبيحية، وعاشت فترة الاحتفالات باستقلال البلاد، وحرصت الأميرة الراحلة للا عائشة، رحمها الله، على الاعتناء بها، واشتغلت في الإنعاش الوطني بحكم أن الأميرة للا عائشة ترأست وأسست جمعية الهلال الأحمر المغربي، وأشرفت على الأعمال الاجتماعية، وكانت البتول الصبيحية تحظى لديها بتقدير خاص.
استمر اتصالي بالبتول الصبيحية، بعد الاستقلال، مع جملة من المقاومين الذين يعرفون أهمية ما قدمته من تضحيات لهذه البلاد،
لكن ما حز في نفسي، شخصيا، أن اسمها لم يُخلد ولم يتم إطلاق اسمها على أي شارع أو حتى «زنقة»، رغم بعض المحاولات في هذا الباب.
إنه لمن المؤلم، فعلا، ألا تحظى البتول الصبيحية بأي تكريم، رغم أنها كانت من الأعلام التي دعمت المقاومة، ولم تكتف بالدعم المادي أو حتى المعنوي، بل انخرطت في العمل المُسلح، واشتغلت في الميدان. ولا أنسى هنا خصالها الحميدة، وحماسها واشتغالها في تطوان لتعبئة النساء التطوانيات. كانت سيدة متعلمة، ومتشبعة بالوطنية، ولم تدخر جهدا في تقديم ما استطاعت لكي تستمر المقاومة إلى أن تحقق الاستقلال.





