دين و فكر

تفسير سورة البقرة

د. عبد الجليل العبادلة

هذا العلم تكمن فيه مفاتيح كل شيء في كنوز الدنيا والآخرة وبه سخرّ الله ما في السماوات والأرض لمن آتاه الله إياه. من أجل ذلك ترون أهل الدنيا يبحثون عن السر الذي به سخر الله لسليمان عليه السلام الإنس والجن والطير والريح إلى غير ذلك، فهل يا ترى إذا كان خليفة لسليمان عليه السلام وأفشى بهذا السر لمن لا يريد إلا الحياة الدنيا ويريد أن يجعل كل العالم وبما فيه في قبضته؟ أيّ ويلات وبلاءٍ بل علو في الأرض وكفر وظلم وفسادٍ يحيق بالبشرية ؟ فكل من استشعر لديه القوة والغلبة وملك من أسباب القهر والتسخير ما به يستعبد الآخرين، وهذا مشهود في أرض الواقع في الأمم التي آتاها الله حظًا من القوة والسعة، ما جعلها تحارب كل دين وكل من لا يسير في ركابها. فإعطاء هذه الأسرار لغير أهلها جريمة كبرى، فإن علم الكتاب الذي أورثه الله الذين اصطفاهم، فيه كل مظاهر القدرة والتمكين.
وقد كشف الله جل جلاله عن عظيم ما يحويه من الأسرار على لسان سليمان عليه السلام حين أراد أن يحضر عرش بلقيس قبل أن تصل إليه فقال «في ملأه من الجن والإنس أيكم يأتيني…» ومقامه الذي يقيم فيه في وقت مخصوص للحكم أو للتعليم، فأراد من هو أقدر منه، وإن كان العفاريت من الجن هم المثل في القوة التي تفوق قدرة البشر عندها “قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ “أي في زمن أقل من طرفة العين فإذا كان هذا السر من الكتاب عند حامله مثل هذه القدرة التي تفوق كل قدرة البشر والجن فما بالكم بالذي آتاه الله علم الكتاب؟ فهؤلاء ما آتاهم الله ذلك إلا وقد ماتت أنفسهم من أن تلتفت لشيء سوى الله، أو أن تتصرف بشيء دون أمر الله وإذنه. فهنيئاً لمن توجه بالهمة العالية لهذه المطالب الإلهية فكان طالبها ممن أحبهم الله وجعل كل الأنبياء والمرسلين في خدمتهم. وحيث انتهى طُلّب العلم الحق الذي آتاه الأنبياء والمرسلين والعلماء الراسخين، ولم يعد من مطلبٍ عند علماء الدنيا والمتعلمين إلا ما به يحصلون على متاع الدنيا والغنى فيها، وهذا ما يحجبهم عن هذا العلم، وهو في الحقيقة سبب فقرهم وجهلهم، فالنبي صلى الله عليه واله وسلم «ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس» فالقلب غناه بمولاه وما أعدّه لعباده الصالحين مما لا رأته عين ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر. فانظروا إلى تعليم الأنبياء كيف بعلم الكتاب هذا تكوّنت خير أمة أخرجت للناس أي أكثرها خيرا للناس ورحمة وعدلاً وسعة في الدنيا والآخرة. هدانا الله والمسلمين جميعا إلى طلب هذا العلم النافع الباعث على العمل الصالح والمعاملة الحسنة والأمن والسلامة من الآثام والشرور للناس جميعا.
وإنما قصرنا الرزق ها هنا على خصوصية ما رزقه الله لرسله وأنبيائه لأن المقام مقام الهداية التي لا تتأتى إلا بميراثهم الشامل لعلمهم وما أيدهم الله به من أنوارٍ علّية وروح قدسية هي روح الأمانة التي حملّهم الله إياها ولأهلها قد أدوها. وفي آيات الكتاب العزيز ما يشير إلى ذلك بوضوح فقد أطلقت النبوة والرسالة على الرحمة في قوله سبحانه على لسان نوح عليه السلام ردًا على قومه الذين جحدوا رسالته «قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ» وعلى لسان صالح عليه السلام « قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ» وعلى الرزق كذلك كما ورد على لسان شعيب عليه السلام « قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًاۚ».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى