شوف تشوف

الرأي

جيل التيه والخوف (2- 2)

بقلم: خالص جلبي
(المجتمع العربي أمام استعصاء تاريخي في مثلث مكون من مواطن تائه ومثقف مدجن وفقيه غائب عن العصر)

إن القرآن ينقل إلينا أخبار الأمم التي دخلت نفق الاستعصاء التاريخي، فلم ينفعها إلا الاستئصال الكامل مثل الورم الخبيث. هكذا دمر مجتمع نوح في ظل دعاء مزلزل: «رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا»، فغسلوا من وجه الأرض بالطوفان. وأما قوم لوط فقد أحرقوا بالبركان، لتطهير الأرض من احتمالات انفجار أمراض فيروسية تقضي على الجنس البشري، كما في كورونا والإيبولا والإيدز، بعد أن تورط كامل المجتمع في الشذوذ الجنسي، وأصبح الذي لا يمارسه عرضة للسخرية: «إنهم أناس يتطهرون». وأما عاد فأرسل عليهم ريحا صرصرا عاتية، فترى القوم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية. وهناك استعصاء تاريخي واجهه فتية الكهف، بعد أن دخل المجتمع نفق الاستبداد ومعالجة المارقين بالرجم، ففروا مع كلبهم بعد أن لم يبق لأحد ضمانة بما في ذلك الكلاب. ولكن أعظم استعصاء تاريخي، كان في المجتمع الفرعوني. وعندما ذهب موسى عليه السلام بمهمته التحريرية، كان واضحا في خطابه لفرعون أنه لم يأت لإصلاح المجتمع الفرعوني، بل أن يمنحه بني إسرائيل الذين أصبحوا أدوات «عبودية» في آلة النظام الفرعوني «أن عبَّدت بني إسرائيل».
إن قصة كاملة في القرآن عن البقرة في أطول سورة، تحمل الترميز العميق لمأساة دخول المجتمع حالة الاستعصاء التاريخية. وعندما يحلل المؤرخ (توينبي) ظاهرة انبثاق الحضارة، يرى أنها «الاستجابة الملائمة للتحدي»، فيقول إن الموت وضع يده الباردة على المجتمع الفرعوني، عندما انتقل التحدي من «الطبيعة» إلى «النفس»، فعجزت الحضارة الفرعونية عن مجاراة هذا التحول الجديد. كان المجتمع الفرعوني قد دخل ليل التاريخ، وفقد الطاقة الإبداعية، وتكسر إلى شرائح دونية وفوقية من مستضعفين ومستكبرين. وكانت مهمة موسى محصورة في خطة على ثلاث مراحل: الخروج بجيل «الخوف» من مصر، ثم دفن جيل «التيه» في الصحراء، ثم خروج جيل «الحرية» إلى القدر الجديد. ولا توجد قصة مشروحة بتفصيل مع رسم كل المشاعر الدقيقة وخلجات النفوس والتعبيرات وعلى نحو مكرر، كما جاءت في مواجهة موسى لأعظم حضارة على ظهر الأرض يومها. كانت حضارة قد شاخت وارتفعت فيها الأصنام والهياكل ومات فيها الإنسان. وفي الوقت الذي كانت ترفع الأهرامات التي هي مدافن لأشخاص زائلين، كانت عظام أمم كاملة تطحن في مقابر جماعية.
إن بني إسرائيل نجحوا في عبور البحر تحت مظلة المعجزة، ولكن لا فائدة من جيل مريض نشأ في العبودية تركت السياط في ظهره أنفاقا. وكانت مهمة موسى غير قابلة للإصلاح؛ فأمام «المن والسلوى» كان لعابهم يتحلب لمذاق الثوم والبصل. ومع تظليل الغمام في هجير الصحراء، طلبوا أن يروا الله جهرة، وعند المرور على قوم يعكفون على أصنام لهم، قفزت مجموعة لتقترح على موسى أن يجعل لهم «إلها كما لهم آلهة». وعندما رجع بالألواح ليرسي التشريع في المجتمع، كان القوم يعبدون عجلا جسدا له خوار «فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي». وعندما اختار قومه سبعين رجلا للميقات أخذتهم الرجفة، ثم رفع الجبل فوقهم كأنهم عصا ممدودة خذوا ما آتيناكم بقوة. ولكن لا فائدة من كل المعجزات مع عبيد ضمرت أجهزتهم النفسية، وتحولوا إلى أقزام أمام مهمات العمالقة. وفي النهاية أمام تحدي دخول الأرض المقدسة، لم يكن أمام موسى إلا أن يدعو الله أن يفرق بينه وبين القوم الفاسقين، ليدفن هذا الجيل المتعفن في رمال الصحراء في تيه يدوم أربعين سنة، ويخرج جيل جديد لا يعرف إلا الحرية والشمس وهو الذي يعول عليه في مشاريع الاقتحام الكبرى. ومن هذا التوقيت الزمني يستنبط (ابن خلدون) قانون عمر الجيل. إن مرض (بني إسرائيل) مرض «إنساني ثقافي» وليس «جينيا وراثيا»، وليس هناك من أمة محصنة ضد الإصابة به. وعندما يعتبر المسلمون أن فرعون هو بيبي الثاني وأنهم فوق القانون، يصبح القرآن دواء انتهت صلاحيته. والجميل في قصة بني إسرائيل: الوحي والمعجزة والقيادة المبدعة. والمجتمع العربي اليوم يفقد الثلاثة، فكيف يمكن أن يخرج من هذا الاستعصاء التاريخي؟
إننا في الواقع نتمتع بميزة فريدة سببها التطور التاريخي، فبقدر عمل الأنبياء السابقين على قانون المعجزة، بقدر عمل النبي محمد (ص) على سنن تغيير المجتمع داخليا، فلم يدمر مجتمع قريش بالطوفان أو الزلزال أو الجراد والقمل والضفادع والدم، بل بالمراهنة على أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله، وكان التحول في نصف جيل. ولكن تسارع الزمن انقلب اليوم، فبدلا من خروج بني إسرائيل من الأرض الظالمة، يتم اختراق حزام دول التيه والخوف من كل مكان بالإنترنت والمحطات الفضائية والكلمات المنقوشة في الهواء، على ثبج البحر الأخضر الإلكتروني.
إن التحول هنا كما يقول (ألفين توفلر) في كتابه «صدمة المستقبل»، أن الزلزال يحدث والتحول يتم دون نقلة جغرافية. والمراهنة اليوم هي على ارتفاع مستوى الوعي عند جيل التيه ليزول الخوف. ويروي (مالك بن نبي) عن جيلين من الصينيين اجتمع بهم في باريس، فأما الأول فكان يلتفت حوله حينما ينطق يرتعش من الخوف، وكان الثاني يتحدث بقوة ويعبر بصراحة. فالفرد عينة من المجتمع مثل عينة الدم من الجسم، قد تكون سليمة وقد تظهر الإصابة بسرطان دم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى