حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

درس دستوري

زينب بنموسى

 

في لحظة نادرة من لحظات النضج الديموقراطي، أصدرت المحكمة الدستورية قراراً فاصلاً في شأن مشروع قانون المسطرة المدنية رقم 23.02، أسقطت فيه مواداً اعتبرتها غير دستورية. قرار معلل بعدة صفحات من الحجج القانونية الهادئة، جاء ليعيد المسار التشريعي إلى سكّته، ويُذكّر الجميع بأن الدستور ماشي ديكور، بل مرجعية ملزمة.

لكن، وكالعادة، تحولت هذه الممارسة الديموقراطية الطبيعية من حدث قانوني جاد ومطلوب، إلى نميمة سياسية وإعلامية يبدو أنه باقي ما غادي يعفو علينا الله منها: البعض وصفه بـ«التصرفيقة»، وآخرون هللوا له كـ«انتصار ساحق» على وزير العدل، في حين تسابق آخرون لنشر موقف الوزير من هذا القرار، وكأن المحكمة تمارس فنون الكاراتيه السياسي، لا دورها الدستوري البارد والرصين.

وحتى نُعيد ترتيب الصورة، يجب أن نُذكّر، هنا، بأن المحكمة الدستورية ليست خصما سياسيا، ولا طرفاً في معركة حزبية، بل سلطة سامية تؤطر النصوص القانونية بميزان الدستور، بشكل يحفظ في الحين ذاته حقوق المواطنين، ويمنح لاحقا لهذه النصوص قيمتها المعنوية والعملية ويحصنها من الطعون، والغموض والارتباك عند التطبيق.

والحقيقة أن المحكمة الدستورية رفعت «النيفو» فعلاً وقدّمت درساً دستورياً هادئاً لمن أراد أن يفهم: أن القانون لا يُقاس بالرغبة السياسية، بل بمقدار التزامه بروح النص الدستوري. وبدل أن يدفعنا هذا لفتح نقاش عمومي حول جوهر القرار- أي المواد التي اعتُبرت غير دستورية، وما ترتب عنها من مساس بحقوق الدفاع، أو تقليص لعلنية الجلسات، أو تمرير لمساطر إلكترونية دون ضمانات، والترافع من أجل إحالة مشروع قانون المسطرة الجنائية بدوره على المحكمة نفسها للنظر في مواده، خصوصًا تلك المتعلقة بالمال العام- انزلق الخطاب نحو الشخصنة، والتسطيح وتسييس كل شيء.

وها نحن مجدداً أمام مشهد مألوف: كل قرار يُقرأ بمنطق المؤامرة فإذا اشتغل البرلمان بجدّية، قيل «تمرّد»، وإذا نطق القاضي بالقانون، قيل «عصيان»، وإذا حكمت المحكمة الدستورية بصرامة، صرخ البعض: «انتقام!»، إلى غيرها من الممارسات التي يصر أصحابها على جرنا للأسفل متى ما كانت هناك محاولة للرقي بالنقاش السياسي والقانوني أو أي تمظهر من تمظهرات الاشتغال داخل دولة الحق والقانون والمؤسسات.

المؤسف أكثر من تحويل الرقابة إلى «حدث» كأننا لا نعيش في مغرب دستور 2011، في حين أنها قاعدة، أن حتى من صوّتوا على القانون أو شاركوا في صياغته، تبرّؤوا منه كأنه غلطة مطبعية، وبدؤوا يتساءلون «شكون مول هاد القانون» وكأن المشروع نزل من السماء بلا مسودة ولا مناقشات ولا لجان.

وهي مفارقة محزنة: أن تُنتج المؤسسة التشريعية قانوناً غير دستوري، ثم يحتفل المنتمون للمؤسسة نفسها بتصحيحه وكأنهم لم يكونوا طرفاً في إنتاجه.

وهنا وجب تذكير من ينسى وإخبار من لا يعرف (وكارثة إن كان هناك فعلا من لا يعرف داخل قبة البرلمان) أن القانون لا يُنتج داخل مكتب وزير، بل عبر مسار طويل من الصياغة والمراجعة في الحكومة والبرلمان. والمسار نفسه يُنتظر اليوم لاعتماد التعديل الذي يستجيب للحكم الدستوري: صياغة جديدة، مناقشة داخل اللجان، تصويت في الجلسات العامة، وربما إحالة جديدة على المحكمة الدستورية.

في النهاية، لسنا أمام صفعة ولا نزال سياسي، بل أمام لحظة مؤسساتية دستورية صحّحت خطأً جماعياً. المحكمة لم تُعلّق على الأشخاص، بل على النص. لم تُحاكم النوايا، بل طبقت القواعد.

والمطلوب منا الآن أن نرتقي، أن نحترم المؤسسات، ونعلي من قيمة النقاش القانوني. وأن نكف – ولو مرة- عن تحويل كل ممارسة دستورية إلى ساحة تصفية حسابات. ولنتفق أننا نعيش في ظل دستور ومؤسسات تشتغل بفعالية لا داخل حلبة معاصرة كما يحاول البعض أن يصور لنا.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى