
شامة
منذ سنتين، أرسل إلي حاخام مغربي كنت التقيت به في القدس، رسالة حين فتحتها وجدت أنها عبارة عن بطاقة عمل وضع فيها صورته الشخصية بلحيته السوداء، وطربوشه الأحمر وجلبابه الأبيض. ولولا أني أعرف أنه يهودي يتحدر من منطقة سوس، لاعتقدت أنه فقيه، ربما لذلك كتب الرجل في بطاقة عمله تلك اسمه مرفقا بصفة «الفقيه الشيخ»، بدل الحاخام. كان للرجل غرض، وغرضه أفصح عنه في «بطاقته المهنية» التي كتب فيها أنه «متخصص» في فك الثقاف، وتزويج العانس، وعلاج العقيم، وفك السحر، والحماية من المس والجن وعين الحسود.
لم تكن بطاقة الحاخام اليهودي تختلف عما يرفعه من يصفون أنفسهم بالرقاة الشرعيين، نفس الشعارات، ونفس «التخصص»، جلب الحبيب، فك النحس، التخلص من «التابعة»، ومن العارض، معالجة وقف الحال، وغيرها من الأشياء التي تضرب على الوتر الحساس للمغاربة. فنحن في مجتمع يفتقد للشعور بالأمان، لذلك تجده يبحث دوما عما يوفر له، أو يحافظ على أمنه الاجتماعي، دخل جيد، مشروع مدر للربح، حفظ من الحاسدين والمتآمرين، الحصول على زوج، الحصول على أطفال، وحتى أولئك الذين يحصلون على كل هذا، ستجدهم مهووسين بطرق باب أي شخص يدعي أن له القدرة على مساعدتهم في الحفاظ على ما يملكونه، وهو ما نسميه نحن بـ«البركة»، وحتى في ثقافة اليهود المغاربة ستجدهم مهووسين بالحصول على البركة من الحاخام، الذي يكتفي بوضع يده على رأسك إن كنت رجلا، وإن كنت امرأة يطالب بأن تضعي وشاحا على رأسك، لأنه في عرفه لا يجوز أن يلمسك وإلا أغضب الله، ولم تقبل بركته التي يتلوها عليك وهو يضع يده على رأسك.
قضية الرجل الذي ألقي عليه القبض وهو يدعي قدرته على توظيف الرقية الشرعية في علاج مرضاه، في الوقت الذي كان يستغل هذا الوهم في كل ما هو غير شرعي، هي قضية تطرح مجموعة من التساؤلات، لا تبدأ بالدعوة إلى إقفال المراكز الشرعية، ولا تنتهي بتنفيذ إقفالها. هي قضية تتطلب منا أن نكون صرحاء مع أنفسنا، وأن ننبش في عقليتنا التي نتوارثها منذ قرون، وننتقل بها من عصر إلى عصر، دون أن نعي أننا في الحقيقة ننتقل في الزمن فقط، لكن بالعقلية نفسها.
الصراحة مع أنفسنا، ستخبرنا أن الرقية الشرعية ما هي إلا جزء يسير من عقلية مظلمة، فيها جانب ضعيف جدا من النور. هذه العقلية تؤمن بالخرافات، تؤمن بالسحر وتدافع عنه بأنه موجود في القران، تدافع عن العين والحسد، وأيضا تدافع عنه بالقول إنه موجود في القرآن. هذه العقلية هي نتاج للخوف، من يؤمن بالسحر هو إنسان يشعر بالخوف، ومن يمارسه ويسعى إليه هو إنسان يسعى للسيطرة على هذا الخوف، يحاول أن يستعين بالأجداد، والأرواح وكائنات أخرى يعتقد أن قدراتها خارقة، من أجل أن توفر له الحماية من خوفه، أو أن تساعده في الحصول على ما قد يهدئ خوفه.
انتشار مراكز الرقية الشرعية في المغرب، ما هو إلا نتاج لتعاظم الإحساس بالخوف، وبعدم الأمان، في عقلية المغاربة، الفرق هو أن هناك فئة وجدت في هذا الخوف مصدرا لرزقها، وبدأت تستثمر فيه، وأوجدت له «مهنيين» يسمون رقاة، وأحدثت له مكانا تسميه مركزا، في حين أن كل هذا مجرد هروب من مواجهة أنفسنا، وعقلياتنا ومخاوفنا، فنحن نعرف أن هذه المواجهة ستحيلنا على أمر واحد، هو أنه لا أحد في هذا البلد يشعر بالأمان، حتى أولئك الذين يملكون كل شيء بما فيه السلطة، فلا أحد يشعر بالأمان في مجتمع المواطن فيه ما زال يطلب منك أن توقد سيجارته وهو يقول: «شي شعيلة الله يعفو». الفرق هو أن ظهور الرقية الشرعية في ثقافتنا هو ظهور حديث، يرتبط بانفتاح المغرب على دول الخليج، وبهؤلاء الذين توافدوا يوما على بلاد الحجاز والفكر الوهابي يساهم في بناء دولتها، وعادوا إلينا بجلاليب قصيرة ولحى طويلة، وبإيمان أن الرقية الشرعية تحمي من كل شيء يضر بالإنسان، وتمنحه كل شيء يسعى إليه. وعلى مر السنوات، بات للرقية الشرعية زبناء، وللرقاة الشرعيين مريدون، واتخذت لها مكانا في عقلية المواطن المغربي إلى جانب باقي «مهنيي بيع الأمان للخائفين». فنحن علينا ألا ننسى أن مغاربة الأمس واليوم ما زالوا يقصدون أضرحة الأولياء الصالحين طلبا للحماية والخلاص، وفي هذا أيضا لا يختلف اليهود عن المسلمين، هم أيضا يأتون من دول العالم لـ«تقديم الزيارة» لضريح الولي، طلبا للحماية والأمان، بل إنك تجد اليهودي المغربي لا يتردد في زيارة ضريح ولي صالح يزوره أيضا المغربي المسلم. أكثر من ذلك، ستجد مسلمين مغاربة يترددون على «فقيه» يهودي طلبا لـ«بركته»، وستجد، أيضا، يهوديا مغربيا يقصد «فقيها مسلما»، طلبا لبركته أيضا. الاستثناء المغربي هنا، أنك لن تجد يهوديا يقصد راقيا شرعيا، فهم أيضا يعرفون أن الرقية الشرعية موضة جديدة على ثقافة المغاربة، وأن اليهودي المغربي غادر الوطن قبل انفتاح المغربي على المجتمع الخليجي، وقبل ازدهار مراكز الرقية الشرعية، لدرجة أن الحكومة المغربية ترفض أن تقفلها، فهي تعرف أن مغرب اليوم هو مغرب الرقية غير الشرعية.





