الرئيسية

طارق عزيز.. وفاء الانتحار

محمد الأشهب
كاتب و صحفي

مقالات ذات صلة

سطت أمام طارق عزيز عددا من مجلة أصدرتها والزميل باهي محمد أحمد. تصفحها بعينين ناقدتين، وقال إن الدبلوماسية سرقت منه أحلام الصحفي والكاتب والمثقف، وإنه يحن لتلك الأيام، لولا أن موقعه في واجهة الحرب التي كانت تدور وقتذاك مع إيران جعل الكلمة تتوارى أمام البندقية.
أوضح عزيز، في حضور مسؤول إعلامي يدعى حسن طوالبة، أنه كان يحبذ أن تصرف عائدات بلاده من العملة الصعبة على نشر الكتاب والمعرفة، لكن الحرب حتمت احتساب كل الدنانير وحلي النساء ونفائس الذهب لفائدة الحرب، وتحدث بمرارة عن حاجة بلاده إلى مزيد من العملة الصعبة.
لم يكن واردا أن أطلب إليه مالا، بل مقابلة صحفية مع منبر ناشئ تقتضي الأعراف اطلاعه على شكله ومضمونه.
قال عزيز إنه مارس مهنة الصحافة ويعرف معنى الجري وراء مقابلة صحفية، غير أنه لا يستطيع الكلام، وقد قرر السيد الرئيس صدام حسين أن يخص الإعلاميين العرب والأجانب الذين يزورون بغداد تلك الأيام بمؤتمر صحفي. أدار حسن طوالبة وجهه نحوي مؤكدا أن في الإمكان أن أضع سؤالا في المؤتمر، وأنه يفضل أن أحرره كتابة، لأن مسؤولا إعلاميا سينقل كافة الأسئلة إلى القصر الجمهوري.
كانت إذاعة بغداد تقدم ساعة إخبارية مرة في الأسبوع، يجيب فيها صدام حسين مباشرة على استفسارات العراقيين حول مختلف القضايا، لكنه في مؤتمر صحفي أناب عنه من يتولى قراءة إجاباته بصوت جهوري، يقدم السؤال واسم الصحفي والمؤسسة الإعلامية، ثم جواب السيد الرئيس القائد على حد تعبيره.
كيف إذن لوزير خارجية بمستوى طارق عزيز، الذي جاب قاعات المحافل الدولية وصالات تحرير كبريات الصحف، أن يقبل بمؤتمر صحفي لا يظهر فيه السيد الرئيس؟ يصعب الجواب حين تكون في بغداد.
يرد الدبلوماسي المغربي أحمد الهيلالي، الذي كان يقدر على اقتحام القصر الجمهوري في أي وقت، لأنه تمرس على طباع العراقيين وأنفتهم وشهامتهم.. بأن ذلك التقليد يجنب الرئيس حرج طرح أي سؤال لا يتوقعه، خصوصا عندما يتعلق الأمر بصحفيين أجانب. همس في أذني كمن يخشى رصد الجدران، بأن صدام حسين ألف سماع ما يرضي أنانيته فقط. وروى لي حكاية تلميذ عراقي تعمد أن يقلب صورة صدام حسين المعلقة على جدار الفصل إلى أسفل، خلال فترة استراحة.
عندما عاد التلاميذ كان المعلم قد أصيب بهلع شديد، فاضطر إلى إخطار المدير الذي أبلغ بدوره مصالح أمنية. وعندما سئل التلميذ عن فعلته، أجاب بعفوية أنه رأى أباه يفعل ذلك في البيت، ومن يومها اختفت العائلة والتلميذ أيضا. أي رعب هذا؟ قال الصحفي المغربي محمد بهيج، الذي كان مسؤولا عن إصدار مجلة عراقية باللغة الفرنسية من بغداد، إنه اضطر إلى الهروب من بغداد مختفيا، لأنه تورط في حادث سير، وجاء أهالي الضحية يطالبون بهدر دمه، لأن البلاد لا تتوفر على إجراءات تأمين السيارات، فبالأحرى تأمين حياة البشر.
غيب الموت وزير الخارجية العراقي طارق عزيز، من دون أن يتمكن ذووه من إقامة مراسم دفن. فالرجل الذي كان يجيد لعب الورق وتدخين السيجار الكوبي ومحاورة الكبار، وضع اسمه وصورته على أوراق المطلوبين من مساعدي صدام حسين بعد سقوط نظامه وبغداد.. لم تنفع أي من التدخلات، بما في ذلك تمنيات الكنيسة باعتباره مسيحيا، في إطلاق سراحه على رغم اشتداد وطأة المرض والعزلة ورذالة العمر. حتى إقامته استولى عليها أحد «أبطال» المعارضة الذين قدموا على متن الدبابات والمدرعات الأمريكية. ولم يبق من تاريخه سوى تلك الصورة التي التقطت لرسالة تهديد، رفض عزيز تسلمها من يد وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر في لقاء ما قبل حشد السكاكين الذي التأم في جنيف.
كانت الرسالة مذلة ومهينة، وكان المطلوب أن تكون كذلك لإحراج نائب الرئيس الذي لم يستطع حملها إلى بغداد وتسليمها إلى صدام حسين. وهي تمهله بضع ساعات قبل تنفيذ الإنذار الأخير، وإلا فالدمار قادم. وهو كذلك سواء تسلم الرسالة أو تركها فوق الطاولة، لأن القرار اتخذ قبل التئام اللقاء.
لا نعرف الشيء الكثير عما دار في أجواء ما قبل بدء الحرب، والأكيد أن رفض طارق عزيز مجرد تسلم رسالة يعني أنه لم يكن في وسعه أن يلمسها بيده. فبالأحرى أن ينقلها إلى القصر الجمهوري الذي ستتحول إحدى قاعاته إلى محكمة يقف صدام حسين في قفصها، كما لم يتخيل ذلك أي مخرج سينمائي. فقد يقتل القادة داخل قصورهم عند وقوع الانقلابات والتمردات، وقد يزج بهم في السجون، لكن الإهانة تصبح مزدوجة، عندما يصبح المكان الذي كان رمز القوة والهيبة إلى سجن ومحكمة تاريخ.
أثناء أحد فصول المحاكمة التي كانت أحكامها جاهزة، ظهر طارق عزيز يرتدي بذلة السجناء. كان شخصا آخر ذبلت نظرته وملامحه وشاخت قامته إلى حد الانحناء. قدم شهادة حول وقائع تورط رئيسه الراحل في مقتل عراقيين أبرياء. بدا أنه لم يغير موقعه كثيرا، ربما لإدراكه أن الوقت لا مكان فيه لأي تخاذل، فهو لن يعود إلى الوراء أبدا. وعند هذه النقطة كان لا يزال «وفيا» لتقليد عدم إزعاج سيده، حيث لا معنى لإطلاق الرصاص على من هو في طريقه إلى المقصلة.
في اليابان أقاموا تذكارا لوفاء كلب، ظل ينتظر عودة صاحبه سنوات عديدة، كان حين يحل موعد عودة القطار يكون في مقدمة المنتظرين. ولم يفهم سر عدم عودة صاحبه الذي كان الموت غيبه، لكن الوفاء لا يرادف الانتحار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى