الرأي

لماذا هبطت أسعار البترول ومن يقررها؟ ومن الخاسر والرابح؟ (1/2)

سألني الكثير من الأصدقاء أن أعلق على تدهور أسعار النفط، خاصة أني قضيت أكثر من نصف قرن في عالمها العربي والدولي مستشاراً. كان سبب ترددي هو تشعب الموضوع وصعوبة اختزاله في مقال جريدة، لكنني أخيراً قررتُ أن أحاول وأختصر.
فلنبدأ أولاً بمن الذي يقرر أسعار النفط؟
بعض الهواة أو المغرضين أو الجهلة يذهبون شرقاً وغربا في تفسيراتهم والجواب بسيط: إنها الولايات المتحدة فقط لا غير. حتى سنة 1970 كانت الولايات المتحدة مصدرة للنفط وأصبح إنتاجها يساوي استهلاكها فقط في تلك السنة. كانت تحافظ على فائض في مقدرة إنتاجها بحدود 3 مليون برميل يومياً، تزيد الإنتاج متى أرادت تخفيض السعر وتخفض الإنتاج عندما كانت تريد رفع السعر. فقدت هذه الميزة عندما أصبحت مستوردة للنفط من 1970 إلى يومنا هذا، وتم إعطاء هذا الدور المرجح كما يسمى إلى السعودية. (تُنسِّق) الولايات المتحدة مع العربية السعودية للسيطرة على أسعار النفط وعن هذا الدور قال أحمد زكي اليماني وزير النفط السعودي الأسبق مفتخراً:
«لتدمير دول أوبك الأخرى، يكفي أن ندفع إنتاجنا إلى أقصى طاقته، ولتدمير الدول المستهلكة، يكفي أن نخفض معدلات إنتاجنا» ولكن يا ترى من يملك القرار الحقيقي لاستعمال «قوة التدمير» هذه؟
الجواب واضح كما جاء في دراسة مادة الحالة 096-383-9 بكلية الدراسات العليا للإدارة في جامعة هارفارد التي تقول: «السيطرة على سعر النفط وكمية إنتاجه هما من ركائز الأمن القومي الأمريكي». إذاً كمية الإنتاج والسعر من ركائز الأمن القومي الأمريكي ومن البديهي أن الولايات المتحدة لا تجيره إلى أحد. وأن قراري السعر وكمية الإنتاج أمريكيان 100 في المائة.
للدلالة على أن الولايات المتحدة تخطط سراً لخفض الأسعار لتحفيز اقتصادها نورد المثال التالي:
في «دراسة سرية جداً» لوزارة الطاقة الأمريكية وجهتها إلى وزارة الخارجية في 24/10/1984 جاء فيها «سياستنا يجب أن تنحو نحو هبوط أسعار النفط 30-40 بالمئة وذلك لمعافاة الاقتصاد الأمريكي» وفي برقية عاجلة من وزارة الخارجية إلى سفارتها في لندن مشفّرة بشكل سري جداً جاء فيها إن «وزير الخارجية مهتم جداً بدراسة سريعة عن تأثير هبوط كبير في أسعار البترول». كان ذلك في البرقية رقم 081715 المرسلة في شهر مارس 1985.
هبطت الأسعار من معدل 26 دولارا للبرميل في شتاء 1985 إلى أقل من (10) دولارات للبرميل في 1986. تماماً كاليوم كان هذا التخفيض لتحفيز الاقتصاد الأمريكي وإنهاك الاتحاد السوفيتي الذي كان يحارب في أفغانستان.
ولكن لماذا تقوم هذه الدولة أو تلك بفعل يتنافى مع مصالحها؟ سأل أحد طلبة كلية البترول السعودية في الظهران، وزير بترول المملكة العربية السعودية أحمد زكي اليماني في يناير 1981، هذا السؤال: «المواطن السعودي الذي ينظر إلى السياسة النفطية الحالية سيجد بأن المملكة تنتج أكثر مما يحتاجه اقتصادها، وتبيع نفطها بأسعار أقل من المعدلات الجارية، بل أقل من الأسعار التي تبيع بها دول الخليج الأخرى. ومع ذلك فإن هذه التضحية تقابل بهجمات معادية من قبل الصحافة ووسائل الإعلام، بل وحتى من مسؤولين حكوميين كبار في الدول الغربية. ألا تعتقد بأنه حان الوقت لأن نتوقف عن التضحية بأنفسنا في سبيل إرضاء مستهلكي النفط؟». الجواب الذي لم يسمعه السائل هو: لأن الأنظمة تريد الحفاظ على أنظمتها. فالولايات المتحدة تجلس فوق حقول النفط! طبعاً فالقرار ليس قرارها لأنه لو خفضت الإنتاج اليوم إلى 3 مليون برميل فقط بدل عشرة لارتفع السعر إلى 120 دولارا ولكان الدخل يعادل ما تحصل عليه اليوم بإنتاج 10 مليون برميل .
من الرابح ومن الخاسر في هذه المعمعة؟
الرابح الأكبر هي الولايات المتحدة والخاسر الأكبر هي الدول المنتجة للنفط خصوصاً الدول العربية في الخليج. ودع الأرقام تتكلم: تمثل إيرادات النفط 90 في المائة من صادرات السعودية و80 في المائة من دخل ميزانيتها وهي الأكثر تأثراً من الدول الأخرى. اعتماد نيجيريا من دخلها على النفط 75 في المائة، روسيا 50 في المائة، إيران 47 في المائة، وفنزويلا 40 في المائة.
هبوط السعر من 120 إلى 30 دولارا يعني هبوط 90 دولار/البرميل. تستورد الولايات المتحدة حوالي 7 مليون برميل يومياً أي توفر 630 مليون دولار/اليوم أو حوالي 230 مليار دولار بالسنة. أضف إلى ذلك تحفيز الاقتصاد الأمريكي بفرق السعر للإنتاج المحلي حوالي 360 مليار دولار / السنة. وهذا التوفير يذهب إلى جيب الشعب الأمريكي فقد هبطت أسعار البنزين والوقود والكهرباء في نفس الوقت الذي ارتفعت هذه الأسعار في الدول النفطية المنتجة!! لو كان إنتاج دول مجلس التعاون 17 مليون برميل/ اليوم فالخسارة اليومية هي حوالي 1.53 مليار يومياً!!!
النتائج السياسية والاقتصادية لزلزال الأسعار: إن الهبوط المفاجئ وبالطريقة التي حصلت هو زلزال اقتصادي وسياسي من العيار الثقيل والذي ستكون له عواقب عالمية خصوصاً في البلدان المنتجة للنفط. حتى يونيو 2014 كان النفط يباع بــ 115$ / البرميل. كان الافتراض السائد أن السعر سيبقى أعلى من 100 دولار ويزداد ببطئ في المستقبل. بناء على هذا الافتراض صرفت شركات الطاقة مئات ملايين الدولارات في عمليات الاستكشاف والحفر في أعالي البحار واستخراج الزيت الرملي في كندا، والزيت الصخري في الولايات المتحدة والزيت الثقيل في فنزويلا علماً أن هذا النوع من الإنتاج كلفته لا تقل عن 50$ للبرميل واليوم هبط السعر عن 30$ البرميل أي اليوم السعر قد هبط حوالي 75 في المائة عن سعر يونيو 2014 مما يجعل ما يسمى بالإنتاج غير التقليدي المذكور أعلاه بدون جدوى اقتصادية، كما سيتم توقيف الإنتاج بواسطة البرامج المساعدة للإنتاج مما يسمى الطرق الثانوية والثلاثية.
مستشار ومؤلف وباحث
الأسباب التي دعت الولايات المتحدة للجوء إلى زلزال اقتصادي هي في الأساس سببان:
– هبوط الأسعار بهذا الشكل يهدف إلى «زلزلة» اقتصاد أعداء الولايات المتحدة وهم روسيا وفنزويلا وإيران لكن البلد المستهدف أساساً هو الاقتصاد الروسي وبالتالي ما ينتج عنه من زلزال سياسي.
– الاقتصاد العالمي والأمريكي لم يشف لتاريخه من الأزمة المالية لسنة 2008 ونتائجها، وهناك تباطؤ اقتصادي في أوروبا وحتى في الصين وهبوط الأسعار يساعد على تحفيز تلك الاقتصادات والخاسر الأكبر هنا هم الدول المنتجة.
كانت نتيجة تدهور الأسعار أن خسر حزب شافيز الانتخابات في 6/12/2015 ووصل إلى السلطة معارضوه والذين صرحوا بنيتهم شطب إصلاحات شافيز. وكان التقدير أن يحدث زلزال السعر الشيء نفسه في روسيا. فتم اختيار سعر 50$ في البداية باعتبار أن أكثر أنواع الإنتاج غير التقليدي (زيت صخري، زيت رملي، زيت ثقيل، أعالي البحار) يمكن له البقاء والاستمرار على ذلك السعر. المفاجأة كانت بصمود وتكييف الاقتصاد الروسي على ذلك الزلزال، بعد انهيار الروبل. ومما زاد الطين بلة العقوبات المروضة على روسيا بعد أزمة أوكرانيا والتي أوقفت إمكانية اللجوء المؤقت للشبكة المالية العالمية. تم اختيار توقيت ضربة عملة الروبل الروسية في ديسمبر 2014 حيث كان على روسيا دين خارجي ذلك الشهر قدره 70 مليار دولار وحوالي 40 مليار في الشهر الذي يليه. تصرف البنك المركزي الروسي بشكل استوعب الضربة التي كان يؤمل أن تكون الضربة القاضية، وتكيف الاقتصاد الروسي إلى حد كبير وبأقل الخسائر الممكنة.
المحافظون الجدد الذين يديرون العالم عبر أذرع الولايات المتحدة العسكرية والمخابراتية أصيبوا بصدمة صمود روسيا وكان عليهم استئناف حربهم تلك.
قامت المؤسسات الأمريكية الحكومية والخاصة بدراسة الخطوة اللازمة لتركيع روسيا. في دراسة أجرتها (مؤسسة Bloomberg) كانت النتيجة أن 15 من أصل 27 تم سؤالهم عن سعر النفط الذي سيزلزل الاقتصاد الروسي فكانت إجابتهم أن سعر «الزلزال» هو 30$ للبرميل وأن روسيا غير مستعدة ولا مؤهلة لاحتمال هذه الصدمة الثانية! اعتقد هؤلاء أن هذا السعر سوف يهز النظام المالي والبنكي وسوف يعرض الروبل إلى هبوط حاد آخر. وهكذا قررت أمريكا هبوط الأسعار إلى 30 دولاراً.
صرح وزير المالية الروسي في 25/11/2015 أن روسيا تأقلمت مع هبوط الأسعار وأن هبوطا حتى 40$ لن يؤثر كثيراً على روسيا، البنك المركزي الروسي قام بدراسة نتائج سعر أقل من 40 (30$ مثلاً) فخرج بنتيجة أن الاقتصاد الروسي سوف يتقلص بمقدار 3 في المائة وأن أسعار السلع ستزيد حوالي 7 في المائة. كما تم تدمير الاتحاد السوفيتي بهبوط أسعار النفط إلى أقل من 10 دولار وحرب ثقيلة في أفغانستان، يأمل القابضون على السلطة في العالم الرأسمالي إعادة التاريخ مرّة ثانية لسقوط نظام بوتين عن طريق ضرب الاقتصاد الروسي وحروب استنزاف أينما أمكن.
قبل أن أبدي وجهة نظري أنقل ما تنبأت به وكالة الطاقة الدولية (IEA) حيث تنبأت أن سعر النفط سيصل ما بين 50-60 $ من الآن وحتى سنة 2020 وتصل إلى 85$ بحلول سنة 2040. أعتقد أن هذه النبوءة مُسيَسَة.
من الناحية الفنية فقط سأورد استقرائي لموضوع الأسعار علماً أنّ الموضوع تتداخله السياسة بقوة. فلو تمّ تغيير سياسة الولايات المتحدة والدول العربية المنتجة للنفط لخفض الإنتاج فسترتفع الأسعار بأسرع مما ذكر من الناحية الفنية فقط .
كان إنتاج الولايات المتحدة من النفط في شهر يناير 2010 هو 5.5 مليون برميل باليوم وأصبح 9.6 مليون برميل باليوم في يوليو 2015 – وكل هذه الزيادة جاءت من الزيت الصخري الذي لا يمكن إنتاجه بأسعار 30$. إذا خرج من السوق حوالي 4 مليون برميل أمريكي باليوم ومليون آخر من الآبار المنتجة بالمساعدة الثانوية والثلاثية سيرجع الإنتاج الأمريكي إلى أقل ما كان عليه سنة 2010 وهذا سيرفع الأسعار رغم أنف الولايات المتحدة، خصوصاً لو أضفنا إلى ذلك هبوط إنتاج نفط الزيت الرملي من كندا أضف إلى ذلك هبوط الآبار المنتجة بما يسمى (depletion rate) بحدود 3 في المائة أي هبوط إنتاج بــ3 ملايين برميل. الاحتمال الأكبر أن مجموع هذه الانخفاضات ستمسح الفائض في المخزون العالمي خلال سنة لترتفع الأسعار إلى 50-60 دولارا. المنتجون في قطاع إنتاج النفط غير التقليدي الأمريكي يألمون وكذلك اقتصاد روسيا بأكمله في لعبة عض الأصابع ومن يصرخ أولاً.
ما يجري الآن هو حرب عالمية بكل معنى الكلمة بين الولايات المتحدة ووكلائها وأتباعها، وبين روسيا ودول البريكس عموماً، والرأسمالية المتوحشة لم تجد حرجاً لشن حرب عالمية ثانية كان حصادها مقتل 50 مليون إنسان وتدمير بلدان بأكملها، وهي اليوم تدير حربا عالمية أخرى – حرب طحن عظام – ليخرج منها العالم بشكل مختلف عن الشكل الذي بدأ به.
الشعب العربي يدفع فواتير هذه الحروب من بترودولارات ومن بشر ومن حجر ونحن مسرح رئيسي من مسارح هذه الحرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى