
يعد الرأسمال اللامادي العماد الأساس في بناء صرح الرقي والتقدم لكل أمة ودولة، ومعيار بيان مدى صعودها وتقهقرها، تألقها وأفولها، نهوضها وتقاعسها، فهو من أحدث المعايير لقياس الثروة الشاملة والقيمة الإجمالية للدول، كما تعد دراسته الدورية مصدرا أساسيا عند أصحاب القرار الدولي في وضع مختلف الاستراتيجيات والخطط السياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية والثقافية وغيرها.
هنا تستوقفنا بعض الأسئلة في صميم الموضوع كالتالي:
-هل أولينا لهذا الرأسمال اللامادي بصفة عامة، ونظيره البشري بصفة خاصة، ما يستحقانه من اهتمام وعناية واستثمار ودعم وتحفيز واستحقاق؟
-هل تمكنا من استغلال الثروة اللامادية الوطنية التي تمثل حوالي 70 في المائة من الثروة الإجمالية للمغرب، والتي تضاعفت لما يربو على 50 في المائة، منتقلة من 5904 مليارات درهم إلى 12.833 مليارا بين سنتي 1999 و2013 حيث احتل الرأسمال البشري الذي يعد أهم عناصرها نسبة 73 في المائة، حسب الدراسة التي أنجزها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ومؤسسة بنك المغرب اللذان خلصا إلى أن الثروة اللامادية للمغرب تقدر ب 13 مرة أضعاف الناتج الداخلي الخام؟
-هل تمكنا من تحقيق توزيع عادل لهذا الرأسمال اللامادي، والاستفادة من مؤشراته في وضع السياسات العمومية حسب ما دعا إليه عاهل البلاد سنة 2014؟
-هل أولينا للعنصر البشري الذي يعد دينامو هذا الرأسمال اللامادي، وأحد مكوناته الأساسية، والثروة الحقيقية للبلاد، ما يستحق من حقوق وواجبات؟
-هل وعينا تمام الوعي أن «الرأسمال البشري هو رصيدنا الأساسي في تحقيق كل المنجزات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحقوقية، وسلاحنا لرفع تحديات التنمية، والانخراط في مجتمع المعرفة والاتصال»، حسبما نص عليه خطاب افتتاح السنة التشريعية الرابعة بتاريخ 10 أكتوبر 2014؟
-هل تمكنا من إعداد دليل شامل للكفاءات والتخصصات التي تزخر بها أسلاك الوظيفة العمومية، كخطوة أولية من أجل قياس وتقييم رأسمالنا البشري اللامادي، وإصلاح الوظيفة العمومية وتحديث الإدارة والتعليم؟
-هل لدينا قاعدة بيانات محينة لمواردنا البشرية والطبيعية والمالية والثقافية بشتى مجالاتها وصنوفها ومستوياتها، باعتبارها خريطة طريق أساسية للتنمية المستدامة؟
-هل تمكنا من إيقاف العد التصاعدي للهدر المدرسي والإعدادي والثانوي التأهيلي والجامعي الذي وصل منتهاه إلى مغادرة حوالي 2،47 في المائة من الطلبة دراستهم الجامعية دون الإحراز على أية شهادة، بكلفة تقدر بأزيد من 3 مليارات و700 مليون درهم من ميزانية الدولة؟
-هل تمكنا من تفعيل خطة عمل محكمة لإيقاف ولو بالتدريج ظاهرة هجرة الأدمغة المغربية إلى الخارج، حيث يعد المغرب ثاني بلد في شمال إفريقيا والشرق الأوسط يعرف أعلى معدل لهجرة كفاءاته إلى مختلف الدول في تخصصات متنوعة، منهم المهندسون الذين يصل عددهم إلى أكثر من 600 مهاجر سنويا إلى الخارج؟
-هل لدى مسؤولينا إرادة سياسية تنفيذية للاستثمار في رأسمال كفاءاتنا سواء المهاجرة في الخارج أو العاملة في الإدارات العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العامة، وذلك بتبويئها المكانة التي تستحقها مجاليا ومهنيا وعلميا وإداريا وماليا؟
-هل استفادت الحكومة المغربية من الفشل الذريع والهدر المريع الذي خلفته المغادرة الطوعية لنخبة عريضة من أطرنا الموظفين منذ سنة 2005، وتداعياتها الوخيمة على جميع القطاعات، في مقدمتها المجال التعليمي والطبي والمالي؟
إن حال ومآل هذا الرأسمال يفضي بنا إلى الإجابة بالسلب على هذه التساؤلات والإقرار بالهدر المتصاعد الخطير، المغرض والممنهج الذي تعرفه هذه الثروة الشاملة للبلاد على الخصوص في أسمى ثمارها وأهم مواردها وأنفس ذخائرها بشتى تكويناتها وتخصصاتها، المتخرجة من المؤسسات الجامعية والمدارس والمعاهد العليا الوطنية والدولية، ونسرد هنا كنموذج لهذا الهدر: دكاترتنا الموظفين في مختلف أسلاك الوظيفة العمومية، المدرجين في إطار أنظمة أساسية هجينة ودرجات وسلالم غير متكافئة ومهام ووضعيات غير ملائمة؛ وأخص بالذكر: «مقترح قانون رقم 14-45-5 بإحداث النظام الأساسي الخاص بهيئة الدكاترة الموظفين بالإدارات العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العامة»، الذي نال ما لم يكن في الحسبان ولا خطر على الأذهان: رفض الحكومة والمجلس الدستوري بحجج شكلية تلفيقية واهية، دون الإتيان بأي بديل يذكر، ما يعكس انعدام الإرادة السياسية للاستفادة من رأسمالنا اللامادي بصفة عامة، وكفاءاتنا العلمية العليا بصفة خاصة، لكونه وإن سلمنا جدلا بمصداقية ومشروعية تلك الحجج، فإن المصلحة العليا للبلاد والعباد التي يرومها هذا المقترح تقتضي قبوله بالأحضان، باعتبار أن مقاصد الدستور المغربي الجديد جاءت لصالح المواطن لا ضده.
عوض أن تهرع الحكومة إلى المصادقة على هذا المقترح الذي يصب في صميم تنمية وتقدم البلاد والعباد، على كافة المستويات والأصعدة، تكفيرا عن ما اقترفته الحكومات السابقة من سيئات وكبائر في حق هذه الهيئة طيلة ما يربو على عقدين من الزمن، خاصة منذ إقرار قانون الأصفار الثلاثة 01.00 الخاص بتنظيم التعليم العالي سنة 1997، ووفاءً لمواقف أحزابها المؤيدة الداعمة لإحقاق حقوق دكاترتنا وإنصافهم حينما كانت في صفوف المعارضة، هرولت حكومة عبد الإله بنكيران في شخص وزيرها المنتدب المكلف بالوظيفة العمومية وتحديث الإدارة محمد مبديع، إلى معارضة المقترح بحجج لم يستطع غربالها حجب ما يزخر به هذا المقترح من أنوار تنبثق من معين التنمية والتقدم، وتنخرط في صلب إصلاح وتحديث التعليم والإدارة، والرقي بمجال البحث العلمي المثمر وتجسيره بين مختلف مرافق الدولة، باعتباره القاطرة الحقيقية لكل نهضة ونماء ورقي وازدهار، والرهان الأساس الذي تعتمد عليه الدول المتقدمة في تفوقها وحداثتها وإنتاجها ومخططاتها وتنظيماتها وغيرها، كما هرعت الحكومة نفسها متمادية في مواقفها الجامدة المتلكئة إلى رفض مقترح دكاترتنا الثاني: «مقترح قانون يقضي بتتميم الظهير الشريف رقم 1.58.008 الصادر في 4 شعبان 1377 (24 فبراير 1958) بمثابة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية»، بدعاوى واهية، رغم توفره كنظيره السابق على جميع الشروط التشريعية القانونية والدستورية، بل إن هذا المقترح اعتقل في ثلاجة المقترحات القوانين البرلمانية دون أن يحال للمناقشة العامة النهائية سواء في حكومة عبد الإله بنكيران أو ولاية نظيره سعد الدين العثماني التي تمت فيها إعادة تسجيله من طرف الفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية، ضمن مقترحات القوانين يوم ثامن يونيو 2017، حيث ظل يراوح مكانه إلى وقتنا الراهن.
لم تع الحكومات المتعاقبة منذ منتصف تسعينيات القرن الفارط إلى الآن، أن صنيعها في تهميش وإهمال وتبخيس دكاترتنا هو في الآن عينه تهميش وهدر وإفشال نفسها بنفسها حينما أدارت ظهرها إليهم، وأقبلت جل الأحزاب على جلب واحتضان من يضمن لها بالدرجة الأولى نسبة أكبر من التصويت عليها في الانتخابات، ما جعلها لا تشترط أي مستوى على صفة البرلماني، وبالتالي أصبح لدينا على سبيل المثال ربع البرلمانيين غير متوفرين على شهادة الباكالوريا، فضلا عن تدني نسبة حضور البرلمانيين الهزيل في التصويت على قضايا مصيرية للمواطنين، وضعف العمل الرقابي والتقييمي والإنتاج التشريعي، ورواج الإقبال وهدر المال على مكاتب الدراسات الأجنبية دون جدوى.





