
إعداد وتقديم: سعيد الباز
تتخذ المدن والأمكنة بصفة عامة لنفسها صورا وأشكالا متعددة، من بينها ما هو ذو بعد واقعي أو رمزي. لكن في كلّ الأحوال تنحو الأعمال الإبداعية الأدبية في العادة إمّا إلى التوازي بينهما ومحاولة تضييق المسافة بين الواقع والرمز من جهة أو الوفاء لواقعية المكان من جهة أخرى. فيما يتّجه بعض الكتاب الآخرين إلى طاقة الخيال في إبداع مدن وأماكن تقيم كلية في الخيال الأدبي.
غابرييل غارسيا ماركيز.. ماكوندو
أبدع الكاتب الروائي غابرييل غارسيا ماركيز في تحفته الروائية «مئة عام من العزلة» قرية ماكوندو التي لم تكن سوى مكان خيالي غير حقيقي، استمد معظم مكوناته وجزئياته من ذاكرته عن بلدته الأصلية أراكاتاكا، حيث قضى ماركيز السنوات الأولى من حياته في بيت جديه لأمّه. هذه البلدة المتخيلة أصبحت في الرواية رمزا لبلاده كولومبيا من جهة ولقارة أمريكا اللاتينية برمتها. لم تحضر ماكوندو فقط في رواية «مئة عام من العزلة» بل نجد لها آثارا واضحة في العديد من روايات ماركيز. إنّ الظهور لقرية ماكوندو في الرواية يأتي مباشرة بعد افتتاحيته الشهيرة حيث اعتبرت هي الأخرى من أهم الابتكارات الروائية لماركيز التي صنعت مجده الأدبي والروائي:
«بعد سنوات طويلة وأمام فصيل الإعدام، سيتذكر الكولونيل أوريليانو بونديا ذلك المساء البعيد الذي أخذه فيه أبوه للتعرف على الجليد. كانت ماكوندو آنذاك قرية من عشرين بيتا من الطين والقصب، مشيدة على ضفة نهر ذي مياه صافية، تنساب فوق فرشة من حجارة مصقولة، بيضاء وكبيرة، مثل بيوض خرافية. كان العالم حديث النشوء، حتّى إنّ أشياء كثيرة لا تزال بلا أسماء، ومن أجل ذكرها، لابد من الإشارة إليها بالإصبع، وفي شهر مارس من كلّ عام، كانت أسرة غجر ذوي أسمال، تنصب خيمتها قريبا من القرية وتدعو، بدوي أبواق وطبول صاخبة، إلى التعرف على الاختراعات الجديدة. جاءت أولا بالمغنطيس، وقام غجري مربوع، له لحية كثة ويدا عصفور دوري. قدّم نفسه باسم ميلكياديس، بعرض عام صاخب، لما أسماه أعجوبة علماء الخيمياء المقدونيين الثامنة. مضى من بيت إلى بيت، وهو يجرّ سبيكتين معدنيتين. فاستولى الذعر على الجميع حين رأوا القدور والطسوت والكماشات والمواقد تتساقط من أماكنها، والأخشاب تطقطق لأنّ المسامير والبراغي راحت تتململ، لتنتزع نفسها من الخشب، بل إنّ الأشياء المفقودة منذ زمن بعيد، بدأت تظهر حيث بحثوا عنها طويلا من قبل، وراحت تتجرجر منقادة في حشد مضطرب، وراء حديدتي ميلكيادس السحريتين، بينما الغجري يصرخ بصوت أجش: «للأشياء أيضا حياتها الخاصة، والمسألة هي في إيقاظ روحها».
كانت الافتتاحية وماكوندو بمثابة إلهام بعالم أسطوري وخرافي مكّن غابرييل غارسيا ماركيز من تسجيل تاريخ امتدّ لمئة عام لأسلاف غامضين ووقائع امتزج فيها الواقعي والسحري في تناغم كامل، بفضل قدرة غابرييل غارسيا ماركيز على السيطرة الكاملة على إيقاع الحكي وانسيابيته التامة رغم تشعباته الكثيرة وتعدد شخصيات تحمل أسماء وأنسابا واحدة تفرض على القارئ تتبعا خاصا. إتمام الرواية اقتضى من ماركيز 18 شهرا من العمل المضني والتفرغ دون موارد مالية سوى تدبير زوجته مرسيدس من خلال ما اقترضوه من الأصدقاء أو ما رهنوا من متاع البيت. لم تكن كتابته لهذه الرواية متيسرة له ماديا فقط بل كانت مرهقة ومتعبة بسبب امتداداتها الزمنية وكثرة شخوصها المتعددة والمختلفة، ما جعل ماركيز يعترف في حواراته بـ«أن تأليف الكتب مهنة انتحارية». لكن الأساس الذي بنيت عليه رواية مئة عام من العزلة يدور حول قرية «ماكوندو» التي يرى فيها الكثير من النقاد والدارسين أنّها مجرّد قرية وهمية اختلقتها المخيّلة الكبيرة لغابرييل غارسيا ماركيز، قد تعني أيّ مكان في كولومبيا أو أمريكا اللاتينية أو أي مكان آخر في العالم. لكن ماركيز استطاع، بسحريته الخاصة وأسلوبه الآسر، أن يجعل من هذا المكان وشخوصه المتعاقبة عبر الزمن وأحداثها المذهلة المفارقة للواقع، صورة حية وواقعية عن الانسان في كولومبيا خاصة وأمريكا اللاتينية بصفة عامة في مواجهة واقع اجتماعي وتاريخي مرير. في النهاية تبدو رواية «مئة من العزلة» كما لو أنّها نموذج مصغر لتاريخ الإنسانية من خلال قرية واحدة شهدت صعودا وهبوطا في تاريخها حروبا وصراعات متتبعة تاريخ عائلة واحدة على مدى ستة أجيال، لتصطدم بالعصر الحديث وأنظمته الرأسمالية والاستعمارية.
فوزي كريم.. من يخاف مدينة النحاس؟
كان الشاعر والكاتب الراحل العراقي فوزي كريم معروفا بالغنى المعرفي والثقافي وتعدد مرجعياته الفنية والأدبية، أمضى عمره تقريبا في كتابة الشعر في الدرجة الأولى والنقد الأدبي والموسيقي والتشكيلي في الدرجة الثانية. أقدم، وهو في السن الثالثة والسبعين، على كتابة روايته الوحيدة التي استمدّها من قصة قديمة كتبها تحت عنوان «مدينة النحاس» وسبق أن نشرها أواسط الثمانينات في مجلة «الاغتراب الأدبي» وفي أحد الملاحق الثقافية هنا في المغرب، وقد شدّت إليها الأنظار حينها وبدت كما لو أنّها فكرة جنينية لرواية مقبلة ومؤهلة لأن تتطور إلى شكل روائي مميز، لكن الكاتب أهملها تماما قبل العودة إليها مرة أخرى.
يقول فوزي كريم: «في عام 1987، كتبتُ قصةً بعنوان «مدينة النحاس» في سنة 2016 بالضبط، وكانت حالتي الصحّية في اضطراب، جلستُ أمام جهاز الكومبيوتر، أنزلتُ كتاب «مدينة النحاس» من الإنترنيت، حيث لم أكن أملك نسخة ورقية منه، وقرأتُ على عجل القصّة القصيرة. استعدتُ بضعة تفاصيل، كانت نافعة في استثارة الرواية الكامنة، أو الجاهزة بكلمة أدقّ، في داخلي… كتبتُ على رأس الصفحة الأولى العنوان «مَن يخاف مدينة النحاس؟»، ثمّ نسختُ الفقرة الأولى من القصّةِ دون تغيير، وشرعتُ في المواصلة. كانت الروايةُ جاهزة في داخلي، تُملي عليَّ الكلماتِ، الفقراتِ والصفحات. أتوقّفُ وأتركُ المواصلةَ لليوم التالي؛ لأني كنتُ أشعر -بفعل يُسْر هذا الإملاء- أن تدفُّقَ النثر قد يقودني إلى استرسال فائض عن السياق في داخلي. أو ربّما يكون الإجهادُ الذي لا أتبيّنه، وراء هذا الوَهْم».
هذه الرواية اتّخذت من أسطورة مدينة النحاس المعروفة والواردة في كتب التراث العربي، إطارا رمزيا للمنفى والاغتراب من خلال شخصية الشاب المهووس بكتب التراث القديم في الوجه الأول، وتصبح مدينة النحاس في الوجه الثاني صورة أخرى لمنفى الشاب ذاته. يستهل السارد الرواية بهذه الافتتاحية: «توقفتُ، وأنا أتصفح كتاب «مروج الذهب» للمسعودي، عند حديث «مدينة النحاس»… «وإنّها مدينة كلّ بنائها نحاس بصحراء سجلماسة ظفر بها موسى بن نصير في غزوته إلى المغرب. وأنّها مغلقة الأبواب وأنّ ألصاعد إليها إذا أشرف على الحائط صفّق ورمى بنفسه فلا يرجع آخر الدهر». ووجدتني أستعيد الصفحة التي ورد بها الخبر كلّما وقعت على كتاب «المروج» بين صفوف كتبي المركومة في الصندوق الخشبي. وما أثار دهشتي حقا أن ورود الخبر دون إشارات وشروح في الهامش خلف لديّ شيئا من خيبة الأمل والمرارة حتّى لكأنّ هذه المدينة العجيبة وجدت صدى في نفسي… في الأيام التالية قررتُ أن أغادر هذا البلد. لأنني كنت أعرف استحالة التوفيق بين عبثي الخاص وهذا النظام الأبله للأشياء والأفكار. لقد نسيتُ، يوم استحوذت عليّ هذه الفكرة، كلّ كتبي وأوراقي. ولم أشغل روحي اللائبة إلّا بهذا الكائن الرقيق الذي كنتُ أقف إلى جانبه. فقد كانت أمّي، آنذاك، بالرغم من قلقها ودموعها، شديدة الحماس لفكرة مغادرتي. كانت تحثني على الإسراع بيدين متشبثتين «محروس… ابني».
في يوم السفر الذي كان شديد التكتم والسرية احتفظتُ بالطبعة الحجرية من «مروج الذهب» بين طيات الثياب في الحقيبة، وكأنني أودع دواء للطوارئ. وغادرتُ المنزل فجرا».
إيتالو كالفينو.. مدن لا مرئية
يعقد الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو في روايته «مدن لا مرئية» محاورة بين الإمبراطور «قوبلاي خان» والرحالة الإيطالي ماركو بولو. حيث هذا الأخير لا يصف فيها المدن والأماكن كما صادفها خلال رحلاته المعروفة في الواقع، بل مدنا غير مرئية نسجها الخيال، لا يرصد فيها أشكالها أو مظاهرها الخارجية. هذه المدن ينفذ السارد إلى روحها وأعماقها بأسلوب شاعري يمكّنه من الكشف عن ما هو غير مرئي منها. إنّ المنظور الذي يتبناه ماركو بولو في سرده، لمدنه غير مرئية، يتضح في جوابه عن سؤال قوبلاي خان: «أرحلاتُك هي لإنقاذ ماضيك؟» بقوله: «المكان الآخر مرآة نقيضة. يتعرّف فيها المسافرُ على القليل الذي له، مكتشفاً الكثير الذي لم يمتلكه ولن يمتلكه أبدا».
نجد، على سبيل المثال، في فصل (مدن وذاكرة 3) كيف يصف لنا السارد ماركو بولو مدينة «زائيرا»: «عبثا يا قبلاي خان كبير القلب، سأحاول وصف «زائيرا»، مدينة الحصون العالية، يمكن أن أخبرك كم خطوة تصعدُ إذ تعلو الشوارع مثل سلّم، وبالدرجة التي تنحني فيها الأركاديا، وأيّ نوع من ألواح القصدير تغطي السطوح. لكنّي أعلم: إن قلتُ لك هذا فكأنّي لم أقل شيئا.
المدينة لا تتكون من هذا، ولكن من العلاقات بين مسافات فراغها وأحداث ماضيها: بين ارتفاع عمود النور والبعد من الأرض تتأرجح فوقها قدما المغتصب المشنوق، بين الخط الممتد من عمود النور إلى الدرابزون المقابل، وحبال الزينة والأعلام التي تجمّل طريق الملكة، بين ارتفاع حبل الزينة ذاك، وقفزة الزاني الذي تسلق فوقه في الفجر، بين انحدار ماء القناة وتقدّم القطة خلاله بينما ذلك المغامر ينزلق في النافذة، بين دائرة اللهب والزورق المسلح الذي ظهر فجأة من وراء اللسان الترابي في البحر».
يصف السارد كذلك مدينة «زورا» في فصل (مدن وذاكرة 4): «بعد ستة أنهار وثلاث سلاسل جبال تنهض «زورا». المدينة التي ما رآها أحد مرّة ونسيها. هي من تلك المدن التي تتذكرها أبدا. هي تبقى صورة غير اعتيادية بين ذكرياتك. «زورا» لها مزية البقاء في ذاكرتك نقطة فنقطة، وهي تتوالى بشوارعها وبيوتها الممتدة على طول تلك الشوارع، وفي أبواب ونوافذ دورها، وإن لم يمتلك أي من هذه جمالا خاصا به أو غرابته. سرّ «زورا»، يكمن في الطريقة التي تجري فيها نظرتك على مقاطعها واحدا بعد آخر، كما في النوتة الموسيقية، حيث لا يمكن تغيير أي من علاماتها أو تحويل مواقعها، حين لا يأتي الرجل الذي يحفظ عن ظهر قلب كيف بُنيت «زورا». هو في النوم ليلا يمكنه أن يتخيّل نفسه يسير في شوارعها ويتذكر النظام الذي تتبعه الساعة النحاسية، المظلة المخططة لدكان الحلاق، ثم العين ذات النافورات التسع والبرج الفلكي، كشك بائع البطيخ، تمثال الناسك، الحمام التركي، المقهى في المنعطف، الزقاق المؤدي إلى الميناء.
المدينة لا تفارق الذهن، هي مثل الدرع أو مثل قرص العسل، يقدر أيّ منّا أن يضع في خلاياه الأشياء التي يريد تذكرها، أسماء الرجال المشهورين، الفضائل، الأرقام، أصناف الخضروات والمعادن، تواريخ المعارك، مجاميع النجوم وأقسام الكلام. بين كلّ فكرة ونقطة من خط الرحلة ألفة أو تباين يمكن أن يُثبتا ليُفيدا كعونٍ آنيّ للذاكرة، لذا فأكثر رجال العالم معرفة أولئك الذين يستذكرون «زورا».
لكن، كان عبثا انطلاقي لزيارة المدينة، فقد حكمت بالبقاء دون حراك وفي حالة ساكنة أبدا، ليكون سهلا عليّ تذكرها. «زورا»، بهتتْ، وتهدمت، وزالت، الأرض نسيتها».
عبد الرحمن منيف.. مدن الملح
تعتبر «مدن الملح» للروائي عبد الرحمن منيف أضخم مشروع روائي في الرواية العربية، يمتد في خمسة أجزاء (التيه، الأخدود، تقاسيم الليل والنهار، المُنبَتّ، بادية الظلمات)، هذه الخماسية الروائية ترصد لنا تاريخ التحولات الكبيرة والمفاجئة التي شهدتها بلدان الخليج العربي وانبثاق المجتمعات النفطية وانتقالها من طور البداوة إلى طور آخر أهمّ سماته حدوث انقلاب كبير في معظم هذه البلدان من مجتمع الواحات والرعي وأنماط عيش وأسلوب حياة في غاية البساطة وارتباط بالمكان والمجتمع القبلي، إلى مدن الحديد والإسمنت، أو ما رمزت إليه الخماسية الروائية في عنوانها الرئيسي وعلى مستوى الخيال بمدن الملح.
يتناول الجزء الأول (التيه) بدايات تلك التحولات من خلال شخصيات مثل «متعب الهذال» وأمكنة متخيلة مثل وادي العيون: «في الأيام العشرة الأخيرة… وعلى حين فجأة، دون توقع أو انتظار، وصل إلى وادي العيون ذلك الأمريكي الذي سافر قبل شهور طويلة، وصل ومعه أربعة آخرون وعدد من رجال الأمير. كان «متعب الهذال» قد سمّاه النحس، وسمّاه آخرون الغراب، أمّا هذه المرة فقد جاء باسم جديد: عبد الله. لا أحد يعرف من أعطاه هذا الاسم أو لماذا. كان رجال الأمير يسمّونه بهذا الاسم، وكان هو إذا تحدث إلى أحد أو سأله أحد أيّ سؤال يدق على صدره مرة أو مرتين ويقول: «عبد الله… عبد الله!».
خلال أيام قليلة تغيّر كلّ شيء في وادي العيون: البشر والطبيعة والحيوانات! فما كاد هذا الأمريكي ورفاقه يمضون بضعة أيام حتّى وصل إلى الوادي عدد كبير من الناس. بشر بأشكال وألوان لا تخطر على بال، فيهم القصير المليء الأحمر الشعر، والطويل الذي يستطيع أن يمدّ يده ويقطف الثمر. فيهم الأسود الذي يشبه الليل، وفيهم الأشقر والأحمر، أجسامهم تشبه الخراف المذبوحة، عيونهم زرق، وأشكالهم تدعو إلى الخوف والتساؤل، جاؤوا على الجمال والخيل، وجلبوا معهم أشياء لا حصر لها من الصناديق والأحمال والخيام، وخلال فترة قصيرة، غير بعيد عن نبع الماء، أنزلوا الصناديق والأحمال ونصبوا الخيام. وبدا المنظر الذي تكوّن خلال ساعات قليلة أشبه ما يكون بالحلم، و«متعب الهذال» الذي لم يفطن للأمر بسرعة، لأنّه كان في البستان، انتفض وهو يسمع ما يقوله الآخرون، ثم اصفر لونه، وفي لمح البصر هرول إلى العين، إلى مضافة ابن الراشد، ليعرف أيّ شيء حصل في وادي العيون.
كثيرون يتذكرون لحظة وصوله، يتذكرون كيف كان يرتجف مثل سعفة، وكيف كان ينظر كذئب، أمّا وهو يرقب إقامة المعسكر فقد كانت الشتائم تتساقط على رؤوس الناس كما يتساقط المطر. كان يريد أن يحطم وأن يدمر، لكن الكثيرين منعوه. وقال الكثيرون في وقت لاحق:
-كان «متعب الهذال» على حق… نعم كان على حق!».
محمد شكري: طنجة.. الواقع والأسطورة
ارتبط محمد شكري بمدينة طنجة إلى حدّ قوله مبررا عزوفه عن الزواج: «لقد تزوجتُ طنجة». لذلك كان في أعماله الأدبية وحواراته يكاد لا يخرج عن هذا المدار الأثير على نفسه، كما نجده في كلّ كتاباته تتملكه مشاعر الغيرة على مدينته الخاصة به تجاه الكتاب العالميين الذين حلّوا أو عاشوا بها ممن عاشرهم وخصهم بالكثير من كتاباته. كان محمد شكري ينتقد بالدرجة الأولى النظرة الكولونيالية لدى بعضهم والنوستالجيا التي تبنوها حول «طنجة الدولية» على الخصوص.
يورد الكاتب المصري محمد المخزنجي، في كتابه «جنوبا شرقا رحلات ورؤى»، حوارا مع محمد شكري: «… كنّا جالسين في شرفة بمقهى «الجنينة» الصغير البديع النظيف بشارع ماركو بولو، وأشار محمد شكري إلى الشاطئ والبحر أمامنا. خليج محوّط بالتلال الخضر التي تهجع على مدارجها البيوت البيضاء ذات السقوف من القرميد الأحمر: «إنّنا الآن نطلّ على مكان يسمّى مالاباطا أو المنار، واحد من أجمل الشواطئ المغربية». طنجة هي مدينة ساحرة، السحر الذي أغوى «يوليسيس»، والسحر لا يمكن تفسيره فإذا فسرناه لم يعد سحرا. هذه المدينة إمّا أن تقبلك أو ترفضك، مدينة لا ترحم. لابد أن تعرف كيف تعيش فيها. أناس جاؤوا ليكتبوا وعادوا. أناس جاؤوا ليرسموا وعادوا. لو لم أعش في طنجة لما كتبتُ بالطريقة التي كتبتُ بها. تعدد الأشخاص وتعدد جنسياتهم. هذه مدينة تصبّ فيها معظم التيارات بصفتها جسرا. بالإضافة لكونها ميناء وهي مدينة أسطورية. المغاربة الطنجاويون يقولون إنّ فلك نوح رست على هضبة الشرْف فأرسل الطائر وجاء بالتراب في أقدامه مما يعني ظهور البرّ وانحسار الطوفان أي بلوغ النجاة فقالوا: «طين جا»، ومنها: طنجة !». يعقب محمد المخزنجي: «نعم، طنجة أسطورية، بقدرتها على الإيحاء بالخيال الذي يحلّق عاليا بارتفاع أسطورة. وكاتب طنجة هو الآخر أسطورة. فالصحافة الأدبية عرفتنا به كما لو كان قفزة مستحيلة من الأمية إلى الإبداع. محمد شكري ليس أسطورة من هذا النوع. إنّه كطنجة أسطورة صنعت نفسها بمقومات نادرة كامنة في تكوينها، فمحمد شكري كان لا يكتب حتّى سن متأخرة. نعم، لكنّه ما إن عرف كيف تُرسم الكلمات حتّى انطلق في بناء معمار كاتب عربي مهم، بل إنّه أحد الكتاب العرب القلائل القادرين على المحاورة العميقة مع الإبداع الغربي. فهو قارئ ممتاز للثقافة الغربية، الإبداعية منها خاصة، ويأخذها من مصادرها فهو يجيد الإسبانية والفرنسية ويعرف الإنجليزية أيضا. متعدد اللغات كطابع طنجة المعتق. ثم إنّ الغرب أتاه إلى حيث هو فعايش هذا الغرب على أرضه أي طنجة بندية إنسانية. لهذا يتحدث محمد شكري عن المثاقفة لا بمنطق صراع الثقافات بل بمنطق لقاء الثقافات. فيقول لي بينما نتناول غداءنا في أحد مطاعم طنجة الصغيرة الأنيقة وتحتنا مدارج التلال والبيوت وزرقة البحر: «هناك من الغربيين من أتى مغتصبا وهناك من أتى من أجل المصاهرة والعيش. وحتّى من يأتي مغتصبا فهو يترك أثره. لكنّه يترك من السيئ أكثر من الجيد. ولو أنّ الزمن أعطي للاختيار لأخذت الجانب الإيجابي دون السلبي».
مقتطفات
فلسفة الفوضى: هل ينقذ الدمار البشرية؟
يُعتبر الفيلسوف والناقد الثقافي السلوفيني سلافوي جيجيك Slavoj Žižek من أكثر المنظرين الثقافيين شهرة في العالم جمع في آرائه بين مدارس فكرية متعددة ومرجعيات مختلفة. كثيرا ما يتعمد في كتاباته وحواراته أن يوظف أسلوبه الخاص في استفزاز وتحدي الآراء الشائعة والسائدة لدى اليمين واليسار والطبقة السياسية في عمومها. عُرف سلافوي جيجيك مفكرا يتمتع بالكثير من روح الدعابة ويمتلك شعبية كبيرة لذلك يحظى بحضور واسع في وسائل الإعلام الأوروبية لقدراته اللغوية من جهة وتحليلاته السياسية من جهة اخرى التي يدمج فيها بين رؤيته الفلسفية والتحليل النفسي ومعرفته الدقيقة بالفن السينمائي.
يعتقد سلافوي جيجيك في كتابه «فلسفة الفوضى: هل ينقذ الدمار البشرية؟» أنّ المحرك الدائم لعصرنا ھو الفوضى التي لا ھوادة فیھا. يتفحّص الكاتب بشكل هادئ وتجرّد شديد تصّدعات الیسار، والوعود الفارغة للديموقراطیة اللیبرالیة، والتنازلات الواھیة التي قّدمھا الأقوياء. ومن رماد ھذه الإخفاقات، يؤكد الحاجة إلى التضامن الدولي والتحّول الاقتصادي. يّتسم ھذا الكتاب بالثراء المتمیز في المفارقات والانعكاسات، كما ينّقب عن الحقائق العالمیة من المواقع السیاسیة المحلیة في فلسطین وتشیلي وفرنسا وكردستان، وما وراءھا. ويتساءل ھل يمكن أن تكون كوارث الیوم حافزا للتقدم أم أنّها تحولت إلى شيء فظيع لا يمكن إصلاحه؟.
يستهل الكاتب في بداية كتابه بقولة للزعيم الصيني ماو تسي تونغ: «تعدّ عبارة (الوضع ممتاز ما دامت فوضى كثیرة تسود تحت السماء) من أشھر أقوال ماو تسي تونغ. من الیسیر إدراك المعنى الذي قصده ماو تسي تونغ ھنا: عندما يتفّكك النظام الاجتماعي القائم، تتیح الفوضى التي تلي ذلك للقوى الثورية فرصة سانحة لك للتحرّك بحزم والاستیلاء على السلطة السیاسیة. أّمّا الیوم، فمن المؤّكد أّن كثیرا من الفوضى يسود تحت السماء مع جائحة كورونا والاحتباس الحراري وبوادر حرب باردة جديدة واندلاع احتجاجات شعبیة ومنازعات اجتماعیة في أرجاء العالم كاّفة، وھي لا تمثل إلّا عددا قلیلا من الأزمات التي تحیق بنا. ولكن ألا تزال ھذه الفوضى تجعل الوضع ممتازا. أم أّن مخاطر التدمیر الذاتي مرتفعة للغاية؟ لعلّ خیر ما يصف الاختلاف الوضع ممتازا بین الوضع الذي كان في َخلد ماو تسي تونغ ووضعنا الحالي تمییز اصطلاحي ضئیل. يتحدث ماو عن فوضى تحت السماء حیث لا تزال «السماء» أو الآخر المتعالي أيّا تكن هيئته، المنطق الحتمي للسیرورات التاريخیة أو قوانین التطّور الاجتماعي، موجودًة وتنظّم بتكّتم الفوضى الاجتماعیة. أّمّا الیوم، فعلینا التحّدث عن السماء نفسھا بوصفھا كائنا في حالة اضطراب. ما الذي أعنیه بذلك؟».
يشرح سلافوي جيجيك بتفصيل ماذا تعنيه «السماء» في الوقت الحالي: «لیس الوضع في وقتنا الحالي وضعا تنقسم فيه السماء إلى عالمين كما كانت الحال في فترة الحرب الباردة حینما واجھت وجھتان عالمیتان إحداھما الأخرى. يبدو الیوم أّن انقسامات السماء باتت ترتسم باطّراد داخل كلّ بلد بعينه. في الولايات المتحدة مثلا ھناك حرب أھلیة سیاسیة وأيديولوجیة بین الیمین المتطرف والمؤ ّسسة الديموقراطیة اللیبرالیة، في حین ثّمة انقسامات عمیقة مشابھة في المملكة المتحدة كما تجّلت حديثا في التناقض بين مؤيّدي الانفصال عن الاتحاد الأوروبي ومناهضيه… تتضاءل فضاءات الأرضیة المشتركة باستمرار، ما يعكس تقلّصا للفضاء العام المادي، وھذا يحدث في زمن تشیر فیه الأزمات المتعددة والمتداخلة إلى حاجتنا إلى التضامن العالمي والتعاون الدولي أكثر من أيّ وقت مضى».
في الاخير يرى الكاتب سلافوي جيجيك أنّ تعقّد هذه الإشكالات والأوضاع الراهنة وارتباطاتها المتشابكة لا تدعو إلى إعادة مفاهيمنا السابقة فحسب، بل إلى اعتبار أن لحظتنا هذه هي بالتأكيد لحظة سياسية بامتياز تفرض ضرورة التحرك والفعل المباشر: «في الشهور الأخيرة، باتت أكثر وضوحا غالبیة الطرائق المفزعة في كثیر من الأحيان وقد تشابكت بموجبھا أزمة جائحة كورونا مع الأزمات الاقتصادية والبیئیة والسياسية والاجتماعیة المتواصلة. لا بّد من معالجة الجائحة جنبا إلى جنب مع معالجة الاحتباس الحراري ونشوب التناحرات الطبقیة والنزعة الأبوية ومعاداة المرأة وكثیر غیرھا من الأزمات المستمرة التي تتماشى معھا واحدة مع الأخرى بتأثیر متبادل معقد. يتعذر التحكم في ھذا التأثیر المتبادل وھو حافل بالمخاطر، ولا يمكننا التعويل على أيّ ضمانة تجعل الحلّ ممكن التصّور بوضوح. يجعل مثل ھذا الوضع المحفوف بالمخاطر لحظتنا الحالیة لحظة سیاسیة بامتیاز: الوضع لیس ممتازا قطعا، ولهذا على المرء أن يتحرّك».
إصدار
إسبانيا تفكّر نصوص فكرية وفلسفية من إسبانيا
سيصدر قريبا، عن دار خطوط وظلال، كتاب «إسبانيا تفكر.. نصوص فكرية وفلسفية من إسبانيا» من إعداد وتنسيق سعيد بنعبد الواحد وحسن بوتكي. يضم الكتاب أكثر من 14 نصا من الفكر الإسباني المعاصر، وساهم في إنجازه ثلة من المترجمين من ورشة الترجمة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق بالدار البيضاء. ومما جاء في مقدمة الكتاب: «على الرّغم من أنّ إسبانيا كانت موعودة تاريخياً بقيادة الفكر الأوروبي، لاعتبارين على الأقل: الامتداد التاريخي الذي يجعل منها، بحكم الجغرافيا، وريثةً من بين ورثة الفكر الفلسفي بالأندلس؛ والامتداد الجغرافي، إذ كانت من بين أهمّ روّاد حركة الاكتشافات الجغرافية الكبرى، وساهمت مساهمةً مباشرةً في بزوغ ما بات يعرف بالعالم الجديد؛ إلا أنّ المتصفّح لأيّ كتابٍ يتناول تاريخ الفلسفة (ولو بالوقوف على كبرى محطّاته وأبرز أعلامه) لابدّ وأن يندهش أمام الغياب التّام لأيّ اسم إسبانيّ. فما الذي حدث؟ هل أخلفت إسبانيا الموعد مع التّاريخ فلسفياً، وارتضت التعبير عن فكرها في أشكال تعبيرية أخرى: تحديداً الأدب والرّسم؟ أم أنّ الغابة عندما ننظر إليها في كليّتها تحجب عنّا كلّ ما في الأشجار متفرّدةً من تميّز؟ وأقصد بالغابة تحديداً الفلسفة القارية التي ذابت فيها عديد التمايزات الفلسفية لفائدة ثلاث مناطق جغرافية -قد تكون هي الأبرز-: ألمانيا وفرنسا وإنجلترا؟».
متوجون
فوز الهندية بانو مشتاق بجائزة البوكر العالمية
حازت الكاتبة الهندية بانو مشتاق جائزة البوكر الأدبية العالمية لسنة 2025 عن مجموعتها القصصية «سراج القلب». هذا الفوز كان للقصة القصيرة من جهة وتصويرها الجريء لمعاناة النساء المسلمات في الهند من جهة أخرى. المجموعة القصصية «سراج القلب» استطاعت أن تبعد أعمالا روائية كانت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية لهذه الدورة «في حساب الحجم الأول» للكاتبة الدنماركية سوليڤي بالي، «القارب الصغير» للكاتب الفرنسي فينسينت ديليكروي، «تحت عين الطائر الكبير» للكاتبة اليابانية هيرومي كاواكامي، «الكمال» للإيطالي فينتشنزو لاترونيكو، و«قبعة جلد النمر» للكاتبة الفرنسية آن سير.
بانو مشتاق محامية وناشطة، مدافعة عن حقوق النساء المسلمات في الهند. أبرزت لجنة التحكيم استحقاق «سراج القلب» الفوز بالجائزة لـ«أنّها ليست مجرد مجموعة أدبية بل وثيقة أخلاقية وسياسية». وأضافت: «في اثنتي عشرة قصة قصيرة، كتبت خلال ثلاثة عقود، تجهر بانو مشتاق بالحقيقة في وجه السلطة. تروي حياة فتيات ونساء مسلمات على هامش المجتمع الهندي، وتشقّ طريقها عبر الطبقات الاجتماعية والدينية، كاشفة عن القمع والظلم والفساد».
من يكمل وجه الجنرال.. رواية عالمية تخييلية أصيلة محلية
قراءة أولى سريعة لهذه الرواية الحدث. ولي عودة أخرى لهذه الرواية التي أعتبرها كقارئ متواضع بأنها رواية عالمية تنتزع مكانتها بكل استحقاق روائي بجانب كل من خريف البطريرك وحفلة التيس.
لماذا أعتبرها كذلك: لأنها رواية تخييلية أصيلة محلية أولا وأخيرا.
وأدعو الذين يبحثون عن التاريخ في الرواية أن يكفوا عن ذلك، إنهم يسيئون لجنس الرواية.
عبد الكريم أوشاشا
——————————–
كانت آخر كلمة لفظها الجنرال الروسي سيرغي كاساروف، منخطفا ومسرنما قبل أن يشهق شهقة الموت، هي كلمة ماسيس وتعني بالأرمينية، كما ورد في الرواية، الجبل الكبير.
إنه الجبل الكبير؛ من تاصميت إلى جبال خنيفرة ثم من وواويزغت إلى جبال أيت بوكماز وأيت بوولي وماكدز.. بهذا يكون الروائي المغربي عبد الكريم جويطي وخاصة في الفصل الأخاذ والساحر “البغل الروسي أو من بلاط القيصر إلى أيت بوولي ” ونحته لشخصية حادة المرأة الأمازيغية القوية والحرة، قد أعطى للجبل صوتا في الديمقراطية الأدبية عن جدارة وأصالة ودهشة روائية عظيمة: الجبل كجغرافيا وكأمكنة ووجهات نظر هامشية.. وجهات نظر وشخصيات بتفردها وامتزاجاتها واختمارها؛ يسد الأدب الرسمي والكولونيالي كل الطرق في وجهها ويعتبرها مجرد واجهة سياحية فولكلورية، أو أهازيج تلقى بحماس في حفلات عيد العرش وعيد الشباب.
منذ بداية الرواية يدس لنا السارد خفية دون أن نشعر دودة كبيرة، يلقيها داخل أرواحنا.. إنها دودة الشك والريبة بحراشفها وقشرتها المسنونة، تتقلب وتوجعنا.. فتبدو لنا كل قناعاتنا وأوهامنا بيوت عناكب واهية زائفة (سرمد هو اليقين الوحيد المتبقي في حياتي).
من ثورة لالة طوطو الغمارية، وهي تحفة من تحف خلائق الأرض وعجائب الكون والتي ادعى زايد السحار بأنه قضى عشرين سنة يبحث عنها، ما هي في حقيقة الأمر سوى فروة وفراغ يروضه زايد فيجبره على أن يلد كل هذا البذخ في الحيلة والتحايل..
زايد بائع الوهم الكبير سمسار الهباء هو نفسه بأقنعته المختلفة والمنقشعة وراء ثورة يقودها جنرال ميت، وبتنظيمات سياسية يرتع فيها ويسممها “المناضل الصغير” بأحلامه الخاصة.
وعلى غرار الانسان الصغير الذي وصفه لنا فيلهلم رايش، فإن المناضل الصغير يرى العالم من ثقب نفسه ويمكنه أن يقوّض البنيان في لحظة حسد أو جبن أو طمع صغير أو تقدير خاطئ.. إنه يرى نجاحات رفاقه الآخرين كاعتداء عليه ومسا خطيرا بأمنه النفسي وتوازنه.. المناضل الصغير نمام شتام فاجر في الخصومة لأتفه الأشياء، يعرف من المفكرين أسماءهم، ومن الكتب عناوينها، ويقدر أن يجادلك ويفحمك بهذا الزاد الصغير الذي التقطه من هنا وهناك، بلا جهد.
إذا كان الرسام الأرمني أفديس ماسيس قد جذبته فكرة الأثر غير المكتمل، فإن السارد هو أيضا قدم لنا شخصيات مفتوحة ولكن بصورة مكثفة وبسخرية مرة كالحنظل، ومبضع لرصد نظام تحجبه البشاعة والعبثية واستكشاف الهاوية التي تقبع فيها الحضارة الصرصارية وتفكيك أجهزة وأنظمة الإيمان الجمعي، والوهم حول الذات وحول العالم..
)نحن رعاة، يا رفيقي، أرواحنا أرواح رعاة. يعجبنا التكوم في الجلاليب، وفرك الخصيتين، وتدلية الأرجل والانتظار متكئين على الحيطان أو متفيئين ظلال الأشجار نزول الأمطار(.
عندما نتوغل شيئا فشيئا في المياه الجوفية للرواية سنلتقي مع شخصيات عديدة نعرفها ولا نتعرف عليها، شخصيات غير جاهزة لأنها أولا وأخيرا شخصيات روائية يغمرها السؤال ويضنيها القلق: الفقيه، الجنرال الدموي صاحب النظارة السوداء والسكين الصغير، وشخصية الممرض الغوريلا ثم شخصية الدينامو الزعيم حارث الغمام ورجل الجب..
وما حكاه حارث الغمام أو رجل الجب لوحة مرعبة حية لإحدى الحدائق الخلفية للنظام.. وشهادة عن التعذيب والمعتقلات السرية أو ما يسمى بالاختفاء القسري تضاهي في عمقها وفي ألمها ما كتبه الاسباني Gorge semrun والفرنسي Primo levi والهنغاري Imre Kertész ، هذه الكتابات التي استطاعت أن تحول التجربة إلى وعي (Transformer l’expérience en conscience ) أو كما كتب Régis Debray في تقديم كتاب Exercices de survie للإسباني Gorge semrun : هذه الطريقة في مزاوجة الحميمية مع الصخب والعنف.. والرعب.
إنها عن “زمن غامض مليء بالآلام التي لا يمكن تصورها، زمن كهفي راكد، سيخرج منه رجل سحق تماما بالعزلة والظلام والقذارة والجوع… وسيخرج معه أيضا الوحش الذي يعيش بيننا بمخالبه وأنيابه وأعينه المحمرة ليمضي بالتوحش نحو ما لا يمكن تخيله”؛
هنا الزمن مغاير في جريانه للزمن الذي نولد ونعيش ونموت فيه، هو زمن خيالي متخيل مثله مثل السارد والأحداث والشخصيات…؛
لأن الزمن الواقعي هو زمن الفوضى، وزمن الرواية هو لمواجهة هذه الفوضى والضياع والبربرية، وتأمل عميق للشرط الانساني؛
إن الروايات العظيمة كما سجل ماريو فارغاس يوسا تغني ثقافتنا والأكثر من ذلك بقوة خيالها وإبداعها تلج إلى حياتنا، تغير إحساسنا بالزمن وبتاريخنا الفردي والجمعي؛ فالأدب بيان عن الثورة والانتفاضة ضد النظام، ضد نظام العالم نفسه.
لذلك فالرواية هي الجنس الأدبي الذي يتعرض أكثر من غيره للرقابة ويتم حجزه أو منعه: فالمستبدون أيا كانوا دينيون أو سياسيون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار يحرصون دائما على وضع أنظمة الرقابة سعيا منهم للتحكم في الخيال وخنقه، لأنهم يرون في الرواية خطرا يهدد وجودهم، إنهم ليسوا مخطئين في ذلك، فالمجتمعات المحرومة من رواية وأدب حقيقي سهلة الانقياد، مطيعة بمواطنين ممتثلين غير مستقلين بدون خيال ولا حس نقدي يستحملون الطغيان والاستبداد بقدر وصبر واستسلام.
إن جحيم المعتقلات السرية كما وصفها لنا رجل الجب ليس فقط جحيما أرضيا للجسد بل هو سيكولوجي منهجي تم تطويره ببرودة لتدمير السجين. ومعنى خلاصة شهادة رجل الجب هي نفسها في كتاب (Si c’est un homme) ل Primo levi لم يكتف بإدلاء وتقديم شهادته، بل إنه طرح سؤالا لا زال يشغل مجتمعاتنا اليوم: ما الذي يحدد إنسانيتنا، وكيف يمكنا الحفاظ عليها في مواجهة الهمجية. بهذا المعنى، فإن ما أدلى به تجاوز الشهادة التاريخية ليصبح مرآة تسائلنا وتقض مضاجعنا حيث لا زالت ميكانيزمات الكراهية والتجرد من الانسانية واللامبالاة قائمة إلى اليوم.
الرعب في شهادة رجل الجب، رعب لا يصرخ ، رعب خام، يظهر في عجينته الأولى ، عاريا دون أي تأثير أسلوبي.
وهذا ما سيجعلنا نردد خلف بورديو بأن هذا التجربة على الخصوص قدمت للقارئ ” حقيقة، لو قيلت بشكل آخر لكانت مزعجة لا تطاق.
جويطي الملالي الجبلي سجين كبير للأدب، يموت مائة مرة من أجل كلمة مناسبة، ممهورة بتوقيعه.. أو بلغة الرواية نفسها (هناك جهد في قول أشياء نافذة يعادل جهد امرأة في مخاض صعب).
في هذه الرواية المدهشة يشبه جويطي تماما ما رآه السارد في سليمان الفحّام من طاقة داخلية: إنه يجلس بجلال في كرسيه، كأنه يشرف من عل على مملكة الله… يتابع ممالك النمل…نبي الله الذي ألمّ لكل لغات كائنات الأرض، وخاطب كلا منها بلسانه، وأحس بأنين الهوام، ورق لوجع الأشجار، وقرأ رسائل الريح، وسمع إفادة الهدهد….
كتابة مسكوكة بجهد جبار فلوبيري تبحث عن الكلمة المناسبة (Le mot juste) يتم الاشتغال عليها، نحس بها وهي تخرج من المحك على وشك الانفجار من شكلها المألوف، صقيلة كالشذرات تجعل القارئ يلمس الوقائع المادية وتحمله على الحلم بجمال مستحيل. (كسرة الخبز تملأ بطني فقط، أما الحكاية الكاملة فتملأ نقص العالم من حولي).













